في قلب مكعّب بغداد الأبدي
في أمستردام
والمدن المتقدمة نسمع عن نادي اسمه (The Offline Club)، نادي يزوره
الهاربون من ضغوط العالم الرقمي، فيوفر لهم بيئة تدعم الترفيه والتواصل مع الآخرين
من دون استخدام التكنولوجيا. يصوغ المؤسسون هدفهم بعبارة واضحة:
To inspire
people to swap screen time for real-time, today and tomorrow.
ولهدف مختلف تماماً طلب منا المسؤولون في شركة (CAP Consultant) تسليم هواتفنا المحمولة عند دخول موقع مبنى الأمانة العامة لمجلس
الوزراء العراقي الجديد في بغداد.
قدّمت شركة (CAP Consultant) الدعوة
لطلبة العمارة والهندسة المدنية في عدد من الجامعات العراقية لزيارة الموقع ومنحهم
فرصة مواكبة ولادة معلم معماري جديد في المدينة. الشركة هي الفائزة بالمسابقة التي
تم تنظيمها عام 2010 لتصميم مبنى الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي وهي الجهة المشرفة
على تنفيذ المشروع اليوم، بعد أن استطاع بجهودهم اجتياز تحديات كثيرة.
انشغال الحواس
الجانب الأمني
وخصوصية الموقع كانت السبب وراء طلب الشركة المتعلق بعدم حرية التصوير داخل موقع
المشروع، مع وعود مطمئنة بتزويدنا صوراً عن الزيارة بعدسات الموظفين في الشركة
المرافقين لنا في الجولة. قد يبدو فقدان كاميرات الهواتف المحمولة مزعجاً خاصة
لـ(لواء) -طالب العمارة المنشغل بالتصوير في كل زيارة موقع سابقة-لكننا كالداخلين لنادي
(The Offline Club) في أمستردام.
انشغلنا
بالإصغاء لعرض كادر الشركة وشروحاتهم عن المشروع وخدماته المتكاملة، انشغلنا
بالعناصر المعمارية والفضاءات التي تتشكل بينها، مقياس تلك الفضاءات، انفصالها واندماجها
مع بعضها البعض، زيادة على الحلول الانشائية المكشوفة للطلبة قبل أن تغطيها مواد
الإنهاء.
كل ذلك بديلاً عن الانشغال بإعدادات الكاميرا واختيار الزوايا
الفنية لصورنا التي نستعجل أن نكون على الخط (online) لنشرها على
مواقع التواصل ونيل الكثير من الإعجابات.
احتفال أساتذة العمارة
أتخيّل أساتذة أقسام العمارة في جامعات بغداد ومدن
العراق الأخرى وهم يحتفلون بمناسبة افتتاح مبنى الأمانة العامة لمجلس الوزراء
العراقي! أعوام طويلة وهم يوضّحون مبادئ الفكرة التصميمية للطلبة دون أن يساعدهم
أحد من خارج أسوار الجامعات. المفاهيم، الرموز، المراجع الشكلية، محاكاة تلك
المراجع أو الاستعارة منها، تجريد تلك المراجع أو إزاحتها عن سياقاتها الأصلية، تفاصيل
كثيرة ومعقدة ينشغل بها طالب العمارة ثم لا يراها تتجسد في المشاريع المحلية إلاً
نادراً، حتى عند دراسته للأمثلة المشابهة العالمية فلا تزال النُدرة تلازم نتائج
بحثه عن أمثلة مصممة بذات المنهجية الأكاديمية العراقية.
سيكون مشروع
الأمانة العامة لمجلس الوزراء عوناً لأساتذة العمارة لإثبات جدوى ما ينسجونه من
الأفكار التصميمية، فهو ينطلق من مفهوم الأبدية، ثم العثور على رمز شكلي لذلك
المفهوم (رمز اللانهاية)، ثم إزاحته بمستويين، الأول، من بعدين الى ثلاثة أبعاد،
والثاني، من كتلة الى فراغ، ثم وضع ذلك الرمز في قلب كتلة أساسية (مكعب) مسبقة
الإدراك لدى المتلقين منذ الطفولة.
كل ذلك الجهد
التصميمي كان على الكتلة الرئيسة للمشروع، أما الفضاءات الداخلية والخارجية الأخرى
فكانت الطبقات المفاهيمية والشكلية حلاً لها، يسميها أساتذة العمارة (Layers)، جمع طبقات
من المراجع الشكلية مع بعض أفقياً أو عمودياً وهذا ما نراه في تصميم مبنى الأمانة
العامة لمجلس الوزراء. المكعب الأبدي، المدينة المدوّرة، شارع الموكب البابلي وأثر
الختم الأسطواني كمحور رئيس في المشروع، زيادة على أنماط شكلية مبتكرة من الحروف
المسمارية والزخارف الهندسية التي تزين واجهات كتل المشروع. وجبة معمارية غنيّة
بالعناصر التي سيستعين بها الأساتذة لأقناع الطلبة بجدوى الفكرة التصميمية في
المستقبل القريب.
(يمكن الاطلاع على الفكرة
التصميمية للمشروع تفصيلاً في عرض الشركة أدناه)
انتقال الموقع
عند إعلان
مسابقة تصميم مبنى الأمانة العامة لمجلس الوزراء وفوز شركة (CAP Consultant) بها، كان موقع المشروع في مكان آخر داخل المنطقة الحكومية
الخضراء، انتقل بعدها المشروع الى الموقع الحالي على يسار العابر من الكرادة
الشرقية (الرصافة) الى كرادة مريم (الكرخ) عبر الجسر المعلّق العريق. نقلة داعمة
لقراءة المشروع بشكل أفضل، فالعابر على الجسر المعلّق سيشاهد المشروع من مستوى
مرتفع كاشف لعناصر المشروع المتنوعة، كذلك ستكتمل القراءة الأفضل للمشروع مع إنجاز
توسعة شارع أبو نؤاس التي يتم العمل عليها حالياً على الجهة المقابلة للمشروع عبر
نهر دجلة. ومع يقين أن إشغال المشروع سيسبب ازدحاماً مرورياً إضافياً في المنطقة
المحيطة فان ذلك الازدحام سيوفر وقتاً إضافية لقراءة عناصر المشروع من بعيد وقريب.
ثنائيات بغدادية
خاب أمل قسم من
المعماريين وأساتذة العمارة في العراق ببرج البنك المركزي العراقي الذي صممته
الراحلة زهاء حديد، فتصميمه لم يقترب مما يؤمنون به من قضايا الهوية المعمارية
العراقية، والمقياس المعماري المتجانس مع محيطهِ وغيرها من القضايا المعمارية
المتوارثة، والتي قد نراها تحققت في مشروع الأمانة العامة لمجلس الوزراء. أخوان
متقابلان يفصل بينها النهر، وسيُثيران الكثير جداً من القضايا المعمارية التي
تستحق النقاش في المستقبل، مما يدفع المجتمع للاهتمام بعمارة مدينته ويغني الثقافة
المعمارية في العاصمة.
أما انقسام الكتلة الرئيسة فجاء في قبة نصب الشهيد بأثر
خارجي، عظمة وهول حدث الشهادة شطر عنصر معماري (القبة) الى شطرين سبق أن أدركهما
المتلقي كعنصر واحد مكتمل في كل ما يتذكره من مباني دينية. أما الانشطار في مشروع
(الأمانة العامة) فحصل لتحديد رمز اللانهاية الفضائي وبناء حدود مادية له يتم
توظيفها بفضاءات متعاقبة. قد يفتقد مبنى الأمانة العامة لقدر من (الخداع البصري)
كون العنصرين في نصب الشهيد قد تم إزاحتهما أفقياً أيضاً مما يجعل الجزئين يبدوان
في حالة حركة عند السير في مسار موازي لخط قطعهما، أما في المكعب الأبدي فالحدود
الخارجية للمكعب ثابتة وما يحقق الخداع البصري عند الحركة هو القلب المفرّغ للمكعب
بجدرانه المائلة بزوايا متنوعة.
زيارة ممتعة ومفيدة لم يبخل فيها كادر شركة (CAP Consultant) بالمعلومات والتسهيلات للطلبة لتجريب معلم بغدادي جديد لم يأخذ
نصيبه من الاهتمام، فهو يدفعنا في كل مرحلة من مراحل تصميميه وإنشاءه للتفكير
والحوار في قضايا معمارية جديدة، يجسّد ما يقال عن العمارة الناجحة، كونها ككتاب
نفتحه ونقرأ فيه تاريخ المكان، تاريخ المجتمع وتاريخ الحضارة.
صار لدينا معلم جديد يوثق تاريخ ملموس ومعاصر في الوقت نفسه لينضم لاخوته في نقلهم رساله للاجيال القادمة هل سيذكرونها كما نذكر معالمنا الحالية ام انهم سيكونون اكثر وعيا وحبا لها لا ادري لكن من الجميل رؤيه احد الاحلام قد تحقق .
ردحذف