السبت، 18 أكتوبر 2014

ما لا تجده في كتب العمارة، تجده في "وحدها شجرة الرمان"
(المغيسل)

للمعماريين دستور، أو كتاب مقدس هو كتاب ( (Architect's Dataلـ(Ernst and Peter Neufert) بطبعاته المحدّثة بإستمرار (وهنالك كتب مقدسة أخرى ايضاً)، يرجع اليه المعمار عند كل مشروع ينوي العمل عليه.
فلا يتطلّب من المعمار أن يكون ذو ذاكرة حديدة، هو ليس كمحامي يحفظ نصوص القوانين بحروف جرها وحركاتها، المطلوب أن يتعلم طرق التفكير الصحيح والقابلية على حل المشاكل التصميمية التي لا تعد ولا تحصى بالاضافة الى الذائقة الفنية بالتأكيد.
وبعد تداخل المعلومات والعوالم على الشبكة، قلّت أهمية الذاكرة للمهندس المعماري، في مقابل زيادة أهمية قدرته على معالجة المعلومات بكفاءة، لذا من الطبيعي والضروري أن يعود الى كتاب (  (Architect's Dataدائماً، يتزود بالمعايير التصميمية علاوة على الأبعاد القياسية للعناصر المعمارية، الفضاءات، الهياكل الانشائية والكثير من ضروريات العمارة.


هذا من جانب، ومن جانب آخر أتذكر مُزحة للدكتور عماد الجباري عندما كنت في المرحلة الاولى، ففي حديثه عن أهمية أن يعتمد المعمار على نفسه في الحصول على المعرفة ودوام تحديثها، قال: (شراح تكولون اذا واحد يريد تصممولة مشروع ممصممي قبل؟ والله ممنطينيا بالكلية؟!) لذا فذات الكتاب هو مصدر للمعلومات عن جميع انواع الابنية ومتطلباتها.
واليوم وأنا أقرأ رواية "وحدها شجرة الرمان" لـــسنان أنطوان، تذكرت إني لم آرى في حياتي مكان تغسيل الموتى (المغيسل) ولم أراه من بعيد حتى، وأتمنى أن يبعدني الله عنه ... ولكن ماذا إذا طلب مني زبون معين أن أصمم له (مغيسل) كملحق لفعاليات أخرى مثلا؟ أو حتى كمبنى منفصل يشيده على روح أمواته.


الجواب المفترض بسيط: سوف أعود الى كتاب ( (Architect's Dataللإطلاع على الفضاءات التي يتكون منها ومكوناتها وأبعادها. ولكن بالعودة الى الكتاب تجده يتحدث عن (cemeteries and crematoria ) ولا يتناول من قريب أو بعيد متطلبات مراسيم التغسيل والدفن في الدين الاسلامي، وأعتقد إنني استطيع التأكيد بعدم وجود أي معلومة تخص (المغيسل) في جميع كتب العمارة !
وهنا ياتي الخيار الثاني وهو زيارة مثال مشابه للتعرف على المبنى ... ولكنه خيار صعب الظروف الحالية، بالاضافة الى طبيعة المبنى المخيفة والطاردة للزائرين. وإذا كنا نتحدث عن المعماريين بصورة عامة، فمن الصعب جداً أو المستحيل حتى زيارته والتعرف عليه، فالمهندسة المعمارية اليوم مثلا لا تستطيع الذهاب الى نادي رياضي لدراسة المبنى على أرض الواقع فكيف ستذهب لدراسة (المغيسل)؟!

وهنا يأتي دور الروائي سنان أنطوان في إعطائنا صورة تفصيلية للمبنى، فبطل الرواية (جواد) هو الابن الثاني لمغسّل الاموات (الحاج كاظم) وهو في صراع بين ممارسة مهنة أبيه وبين دراسة الفن، حيث يستذكر البطل أول زيارة له لمحل عمل أبيه ومن ثم زيارته الثانية للتدرب على مزاولة المهنة. وهنا سأنقل لكم النصوص التي يتحدث فيها عن المبنى ومخطط أولي أعددته بالاعتماد على هذه النصوص المتفرقة في متن الرواية:
"وقفت بجانب أمي عند عتبة الباب الخشبي الكبير ... كان الممر الضيق يفضي الى غرفة واسعة بسقف عال وقد وقف ثلاثة أو أربعة رجال عند مدخلها.
سدّ أبي الباب وراءنا وتقدمني الى الداخل، أول ما وقعت عليه عيناي بعد أن قطعنا الممر ودخلنا الغرفة الرئيسية كانت دكة المرمر التي يغسل عليها الموتى والتي يرتفع طرفها الشمالي قليلاَ، حيث يوضع الرأس، كي يسيل الماء وكيلا يتجمع ... كانت الجدران والسقف مطلية بلون أبيض مائل الى الصفرة ... توسطت السقف مروحة بدات تدور بعد أن كبس الزر على الجدار. نظرت الى اليمين فرأيت التوابيت التي يؤتى بها من الوقف وقد صفت في الزاوية. وفوقها بمسافة، نافذة متوسطة الحجم أعلى الجدار تسمح لأشعة الشمس بإضاءة المكان.
لكن النافذة لم تكن بمستوى الناظر وكانت تترك الزوايا معتمة بعض الشئ لكنها تسمح برؤية كِسرة من السماء. تحت النافذة كان هنالك باب يؤدي الى حديقة صغيرة فيها شجرة الرمان التي كان أبي يحبها كثيراً وبجانبه مصطبة يجلس عليها أحياناً أقرباء الميت وهم ينتظرون ويراقبون. في الجهة الشمالية، على بعد مترين من الدكة، كان هنالك حوض أبيض كبير تعلوه حنفية ماء نحاسية اللون ... الى أسفل يسار الحوض كانت هنالك حنفية أخرى وأمامها تخت خشبي صغير مثل الذي كنّا نستخدمه في الحمام للجلوس أثناء الاستحمام. الى يمين الحوض هنالك دولاب كبير بأبواب زجاجية عرفت فيما بعد أنه كان يحوي أكياس السدر والكافور والقمحة والأكفال والليّف والقطن والصابون.
كانت الدكة مستطيلة والأرض حولها محاطة بحفيرة هي ساقية صغيرة مبطنة بالكاشي الابيض تتحول الى مجرى صغير يأخذ الماء الى الحديقة الصغيرة التي تجاور المكان لا الى البالوعة، كي لا يختلط ماء الغسل بمياه المجاري الآسنة. من الزاوية اليسرى يتفرع ممر قصير يؤدي الى الحمام والى مخزن صغير. على الجدار الغربي لوحة بإطار خشبي سميك خط عليها (وكل نفس ذائقة الموت) بالخط الديواني وتحتها باب خشبي يفضي الى غرفة صغيرة مجاورة كان أبي يجلس فيها معظم الوقت.
يجب الاشارة هنا الى أن النص القرآني لا يحتوي على حرف الواو في بداية الآية في المواقع الثلاثة التي ذكرت فيها وهي:
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } آل عمران185
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } الأنبياء 35
 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون} العنكبوت 57
ثم يضيف الكاتب : يتوسط الغرفة كرسيان خشبيان قديمان بينهما طاولة صغيرة. لم يكن فيها الا شباك واحد علقت بجانبه صورة للإمام علي... ثم ذهبنا الى المخزن حيث توضع المناشف وكرتونات الأكفان وكميات إحتياطية من السدر والكافور والصابون وفرن صغير بعين واحد لعمل الشاي وتسخين الطعام. إنتهى.

مخطط أولي للمغيسل

أنا أعتبر إن ما سبق إضافة بسيطة الكم، مهمة النوع ... فهي تمثل تدوين ما لم يدون معمارياً من قبل. ولكن هذه الإضافة يقابلها سلبية مؤثرة في الرواية (من وجه نظري طبعا)، فالكاتب يكتب رواية عن أبطال ومجتمع ذو غالبية مسلمة، ورسالة الرواية موجهة الى العالم (بترجمتها) فتعكس صورة ذلك المجتمع لدى المجتمعات الأخرى، علاوة على المجتمع العراقي الذي سيتقبل تلك الرواية لانها نابعة عنه وبلغته المحلية الجميلة. فهل من المنطقي أن يكتب عن البطل وهو يرتكب ذنب من الكبائر وكأنه أمر طبيعي جداً ؟! ولا يمر الأمر مرور الكرام بل تأخذ تفصيلاته من المساحة ما ترغب به.
قد يقول الرأي الآخر، إن مجتمعنا ليس مجتمع ملائكي وهذا صحيح، فنحن نرتكب الكبائر يومياً وبكافة الانواع، ولكني اؤمن بشدة إن للفن والأدب مسؤولية إصلاحية وتوجيهية.
قد يقرأ القارئ البالغ المستقر فكريا الرواية ويميز بين الخطأ والصواب ولكن ماذا عن الشاب الذي يمر بمرحلة التكوين؟ يقرأ الرواية فيعجب بالبطل ويحاول ان يقلد ويستعير. وقد نوقشت هذه المشكلة كثيرا في المجتمع المصري عندما قلد الشباب أبطال الافلام الهابطة بدقة. لذا اعتقد إن الكاتب يشارك ولو بمقدار ضئيل في الانحدار الاخلاقي الحالي.
وأخيراً مع كم الأدعية والآيات القرانية التي تتضمنها الرواية، اقتبس للدكتور علي الوردي في مقارنته بين إبن خلدون ومكيافيلي ونظرة الناس اليهما:
(لعلني لا اغالي إذا قلت إن أراء ابن خلدون كانت أشد إنحرافاً عن شرعة الاخلاق والاديان من آراء زميله الايطالي، ولكن الناس لم ينتبهوا اليها، فقد إمتاز ابن خلدون بإسلوبه الدبلوماسي الذي يغطي الآراء المنحرفة بغطاء برّاق، فهو يكثر من ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يدعم بها براهينه، ويكثر كذلك من ذكر العبارات الدينية ينهي بها أقواله من قبيل "الله اعلم" و"هو الهادي للصواب" و "عليه التوفيق" وما أشبه) ... (منطق ابن خلدون ص22 )