الاثنين، 28 سبتمبر 2015

زهاء حديد تنهي الحوار

زهاء حديد تنهي الحوار

 التقاليد ... من أكثر المفاهيم المثيرة للجدل حالياً، وذلك نتيجة لتحديات الواقع الحقيقي والواقع الإفتراضي في العراق. والأكثر إثارة هو كسر تلك التقاليد نحو التحرر والتقدم مرة ونحو عدم الملائمة لخصوصية المجتمع مرة أخرى.
التقاليد الخاصة بثنائية (الحياة-الموت) بدأت بالتفكك بوضوح، فالحياة تبدأ بالولادة فيسمي الأهل سابقاً إبنهم (زبالة) مثلاً! وإعتماداً على حكايات جدتي، كان الناس يخافون على الطفل بالتحديد من الحسد، فالطفل (ينّفس، ينصاب بالعين) بسرعة، فيختارون له إسماً قبيحاً، يجعل المقابل (يكش) وتنصرف عينه عن محاسن الطفل فلا يصيبه بالعين، وهي نفس فلسفة تعليق قبقاب أو (فردة نعال) على رقبة بقرة أو سيارة جديدة وكذلك الاستعانة باللون الأزرق والسبع عيون. والتفسير الحقيقي بعيد عن الحسد بالتأكيد، فسبب موت الأطفال بكثرة هو إنتشار الأمراض وعدم توفر العلاج والرعاية.
واليوم مع تحسن الرعاية الطبية وظهور جيل جديد من الأمهات الثائرات، إستطعنا التحرر من تلك التقاليد، فنجد أن صورة الطفل وبعد ساعات قليلة من الولادة (تنزل) على فيسبوك ليشاهد جماله الجميع ويستمتعون بإسمه اللطيف! وقد ننتظر سنوات معدودة فتصبح من التقاليد أن تضع صورة طفلك على فيسبوك، وإذا رفضت البيبي، خوفاً عليه من الحسد تجيبها الأم : عمة تردين يكولون هاي منزلت صورة إبنهة لأن محلو!


فيما يخص الطرف الآخر (الموت) فسنوات طويلة وجدتي تقول: ياستار صار بي (هذاك المرض)، عندما تتحدث عمن أصابه مرض السرطان، فهي لا تذكر إسمه خوفاً منه. أما اليوم فنشاهد الدفان علي العمية حاضراً لحفلة زفاف (رمز الحياة الجديدة) وهو أمر طبيعي جداً ولكنه يختتم المقطع بهتاف : منو يدفنكم ؟ ويجيبه الشباب بفرح: علي العمية!

ومن نفس الموقف المتحدي سأسمح لنفسي بالسؤال: مَن تعتقدون مِن المعماريين العراقيين المشاهير سيموت قريباً؟

أعرف أن الجواب هو "الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى" ولكن من ثقافتي الهوليودية أعتقد أن هنالك نظام أو معايير تستخدم في شركات التأمين  تدرس أسلوب حياة الإنسان لمعرفة مدى نسبة تعرضه للخطر وبالتالي تحديد قيمة التأمين على حياته.

ولكن بـ(حساب عرب)، من الممكن أن نعمل قائمة بأسماء المعماريين العراقيين المشاهير ومن ثم نتحرى أعمارهم وحالتهم الصحية لنصل لصورة تقريبة عن تسلسل وفاتهم ! وبما أن أكثرهم يعيشون خارج العراق فذلك التخمين يقترب أكثر من الدقة، فلا وجود للإنفجارات والكوليرا وإرتفاع ضغط الدم.

كل هذه الأفكار (الكعبية) راودتني بعد الإستماع لمقابلة أجرتها إذاعة BBC مع المعمارية (العالمية) زهاء حديد، بعد منحها الميدالية الذهبية للعمارة، التي يمنحها المعهد الملكي للهندسة المعمارية.
فقد تضايقت زهاء قبل نهاية اللقاء وغلقت الهاتف بوجه المحاورة Sarah Montague بعد أن قالت لها:

-       شوفي سمعيني، لهنا وبس ما أريد أحجي وياج بعد ... شكراً جزيلاً ... توت توت توت!

والسبب هو أن Montague إعتمدت في أسئلتها على معلومات غير دقيقة، فقد قالت لزهاء أن ملعب نادي الوكرة الذي صممته، والذي يحتضن مباريات كأس العالم 2022 في قطر، يعاني عدد من المشاكل ومنها موت العمالة الوافدة، فقد توفي 1200 عامل عند العمل فيه.
فأجابتها زهاء أن هذه التقارير غير صحيحة وقد تمت مقاضاة من أصدرها وتم سحبها وتقديم الإعتذار لها، فسألتها سارة هل تقصدين إنه لم يمت أي أحد في مبناكِ؟

-       أي طبعا، وروحي تأكدي من معلوماتج، وترة اني ما أكدر أضمنلج كل الكوكب وكل العالم، اني دا أحجي عن موقع مشروعي ودا أكلج ممات بي ولا طير!



ليست هذه المرة الوحيدة التي يخطأ فيها الإعلام معمارياً، فبعد وفاة الدكتور محمد مكية رحمه الله، عرضت فضائية العربية تقريراً عنه، يعرض التقرير ضمن مشاريعه صورة لبوابة جامعة الكوفة الحالية وهي من تصميم الصديق المعماري أحمد هاني تحت عنوان مشروع جامعة الكوفة للدكتور مكية !
أما فضائية الحرة عراق فقد عرضت في تقرير عن نفس الموضوع، صورة لمشروع مصرف الرافدين فرع النجف، بينما يقول المتحدث أن المصرف في محافظة البصرة !

وهنا مربط الفرس ... ماذا لو كانت Sarah Montague إعلامية وتحمل شهادة في الهندسة المعمارية؟ ماذا لو كان معد تقرير العربية والحرة معمارياً؟

قد تكون تلك الأخطاء بسيطة ولكنني أرى فرصة لتطبيق وتفعيل خطاب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في التواصل بين الجانب الأكاديمي وسوق العمل، وكذلك التأكيد على إقتصاد المعرفة وتسويق مشاريع الطلبة للمؤسسات الأخرى وذلك من خلال السيناريو التالي:

تقوم أقسام العمارة في الجامعات العراقية بفكرتي السابقة (إعداد قائمة بالمعماريين العراقيين المشاهير ومن هو الأقرب للموت!)، ثم توجه أساتذتها أو طلبتها ومن خلال مادة دراسية معينة قد تكون مادة (عمارة عراقية معاصرة) مثلاً، لإعداد تقارير صحفية (تحمل صفات التقرير التلفيزوني من خلال دراسة الأمثلة المشابهة) عن كل معماري في القائمة، وبعدها تخاطب الفضائيات العراقية وهي (خير وبركة) بأنها مستعدة لبيع مادة تلك التقارير في حالة الحاجة اليها، وإذا أرادت تلبية حاجة الأسواق بطريقة ذكية، فيمكن إعداد التقرير بأكثر من طريقة وبالإعتماد على خطاب تلك الفضائيات وطريقة تناولها للأحداث، وما على الفضائية الإ أن (تستنكي) ما يلائمها من التقارير وتستطيع عرضه بعد فترة قصيرة جداً من الوفاة.

كم عصفور سنضرب بذلك الحجر؟ تعرف الطلبة الشباب على المعماريين العراقيين ومنجزاتهم المعمارية المميزة، تقصي أحوالهم اليوم والتواصل معهم (بس لازم محد يكلهم الهدف من التقارير)، الحصول على مردود مالي للأقسام والجامعات في ظل أزمة الموازنة و(التفليس الرسمي)، إعداد خطاب معماري مدروس خالي من الأخطاء تقدمه الفضائيات العراقية.

أعتقد أن هنالك من سيقول: ولماذا لا نطبق الفكرة ولكن بإعداد تقارير عن مواضيع معمارية عامة، مباني بغدادية معينة، أو تقارير عن المعماريين وهم على قيد الحياة، ونسوقها للفضائيات؟ ولكن هل ستهم تلك المواضيع الفضائيات ؟ هي مهتمة بالسياسة والقضايا الخلافية والقيل والقال وما يجذب إنتباهها هو الموت فقط.

علاوة على كون التكريم والإهتمام بالمبدعين بعد موتهم ظاهرة إنسانية قديمة جداً!







تفاصيل حوار إذاعة الـ BBC

السبت، 26 سبتمبر 2015

الكوستر والكيس الأسود


كل الظواهر معكوسة في العراق !
نعرف أن فصل السبات هو الشتاء، ولكننا نعيشه في فصل الصيف !

بعد إنتهاء السبات الصيفي وبنفس العلاقة الإنسوحيوانية إجتمعت هذه الجمعة مع من ينظرون للحيوانات بطريقة إنسانية حقاً، رواد سوق الغزل اللذين يعرفون عن الحيوانات أكثر من طعمها وكونها (مشوية أو مسلوكَة).

جمعتني مع بعضهم (كوستر) تنطلق من باب المعظم الى باب الشرجي تخترق مناطق الفضل، الصدرية، النهضة والشيخ عمر.

أحدهم يحمل قفص خشبي بداخله بلبل وهو (يتحارش به) بـ(250) دينار يحملها بيده، والآخر وضع أمامه القفص وهو يحتوي زوج من طائر الـ   cocktail وينظر للطائرين راكب آخر بإبتسامة  مريحة ليسأله عن سعرهما بأدب.

وأخيراً ركب (وحش الشاشة) لم يجد مكاناً في الجزء الخلفي من الكوستر، فجلس بالمقعد الذي يقع  خلف الباب، ولهذا المقعد خصوصية حتى أن شركة تويوتا رفعته في الموديلات الحديثة من السيارة.

جذب عيني الكيس الاسود الذي يحمله، والحقيقة ليس الكيس وإنما ما يوجد داخله! إسطواني ويمتلك عنق مسكها منه (صاحبنة). ولأنه أشبه بالمصارع، رأس كروي بشعر رمادي قصير، أكتاف عريضة، بطن كروية بارزة، إقترح عليه من يجلس بجواري أن يجلس على الكراسي المتحركة في مقدمة الكوستر.

فقال له: لا شكراً أني متوب من هاي الكراسي من أيام الجامعة، جنت أني والتيسكوير والاوراق دائما أكعد بيهة وكلش تعبتني.
وبسبب هيئته وهيئة ما يحمله بيده، قلت بداخلي: بدة الكذب !
إنتبهت أكثر لأكتشف مدى براعته في تأليف قصة دوامه في الجامعة.
ولعل من يجلس بجواري حصل على نفس الإنطباع فسأله: بيا جامعة جنت تداوم ؟
-       بالجامعة التكنولوجية، قسم إنتاج ومعادن!
    إبتسمت ... لماذا إختار الجامعة التكنولوجية لرواية قصته المشكوك بأمرها ؟ 
ناول السائق 250 دينار وقال له : أنزل بالصدرية.
تمسك بعنق الشئ الملفوف بالكيس الأسود وأكمل حديثه: كملت دراستي بس متعينت.
فأجابه الآخر : إي أحسنلك.
-      جان مشروع تخرجي السبائك (المدري شنو) (نسيت الأسم طبعاً) وجان المشرف دكتور (فلان الفلاني) وصار رئيس الجامعة !
إنتبهت للحوار أكثر!
-       وبعدين تحولت على دكتور (فلان الفلاني) وساعدني بالمشروع مالتي بحيث خلصته بإسبوع واحد.
-       بإسبوع واحد ؟!
-       أي بإسبوع لأن علمني طريقة إنه أشتغل وأطلع النتائج وإذا طلعت غلط فأبقيهة وأجيب حالات قياسية نتائجها صحيحة وأقارن بين الحالتين وأكول ليش طلعت نتائجي غلط.
كنت مستمراً بالابتسام وعيني متسمرة على الكيس الأسود وقد بدء بالانحسار عما يحتويه، كما أنحسرت فكرة كونه كاذباً يحاول أن يبين للأخرين إنه مكانه ليس هنا بهذا الكوستر الثمانيني.
إستمر بالحديث عن مشرفه وكيف انه كان استاذ مساعد لذا فقد كانت الست (فلانة) تساعده في الإشراف على مشاريع الطلبة وأن الست فلانة أصبحت دكتورة اليوم وهي مستمرة بالتدريس.
وقبل ان نصل للصدرية، أراد إنهاء حديثة فقال: يمعود الحمد لله هسة عندي محلات ثنين وخير من الله.
أما الكيس الأسود فقد كشف أخيراً عن بطل من الماء المثلج يشرب منه الرجل طوال اليوم!

ومن النظر لكل أمر من أكثر من جهة، أستطيع أن أقول أن خلاصة الحادثة هو أن الشباب العراقي في ورطة، فهو لا يحصل على الفرص المناسبة بعد الحصول على الشهادة الأكاديمية، والفرص هنا تتمثل بالتعيين في أحد دوائر الدولة الموقرة، وهي المكان المناسب لمن يكمل تعليمه الجامعي.

أما القول الآخر، فهو النقيض تماماً فإذا إفترضنا أن جميع من تخرج من أقسام الإنتاج والمعادن قد تعين في دوائر الدولة فمن سيعمل في مهنة الحدادة ؟
أما من توارث المهنة عن أبيه.
 أو من فشل في أعمال أخرى وقادته الصدفة ليعمل حداد ليس الا.
وبهذا تحصل القطيعة بين العلم وممارسة أي مهنة في الأسواق العراقية، وهذه القطيعة بين الجانب الاكاديمي والجانب العملي، هي أحد أسباب تخلفنا الأبدي، ولن (ادوخكم) بالحلول المفترضة والحالات المثالية وغيرها.


ولكنني أريد أن أقول إن رؤية الحياة الحقيقية لمدينة بغداد لا تتم الا من خلال ركوب الكوستر والكيا بين المناطق المختلفة، ولكنك تكتشف أن هذه الحياة في قمة الفوضى، وقد تكون هي الفوضى الخلاقة ـأو قد تكون تجسيداً للمثل القائل: إحنة عايشين بالصلوات !   











الخميس، 17 سبتمبر 2015

من القصور الى الخرائب

من القصور الى الخرائب

عندما تنزل عند الغروب من (كيا) أمام مبنى إتحاد الصناعات في ساحة الخلاني، وتضطر أن تمشي حتى ساحة التحرير، فليس لك إلا أن تقضي الوقت بالتمعن في بنايات الشارع الخالي من المارة تقريباً، يرتفع نظرك أعلى المحلات المغلقة وإعلاناتها، لتجد مباني رصينة، مقنعة ومتكاملة التفاصيل، بمفردات ولغات متنوعة ولكنها ليست (نشاز) على الإطلاق.
تصعد (كيا) ثانية لتصل الى (رأس شارعك) وتدخل الفرع ببيوته الزرق ورقية.
الأيام الأولى في المنطقة، تتصيد الأخطاء في تلك البيوت القبيحة بتفاصيلها الحجرية والمرمرية، وبعدها بسنة أو أكثر تكتفي من ذلك، فتبحث عن (البزازين) أو تراقب أشجار الكينوكاربس وهي تنتشر في المكان.
ولكن بأي منطق إنتقلنا من تلك المقدمات الى هذه النتائج؟
دارت وتدور أحاديث كثيرة عن الأسباب التي جعلت المدينة زاخرة بالمباني السكنية الفرانكشتاينية، ولكني وبإجتماع عدة أحداث فكرت بسبب غريب.
إن تشوه تصاميم المساكن (على الأقل فيما يخص الواجهات) ناتج عن: قصور صدام الرئاسية وجوامعه !
وساحاول أن أفسر ما توصلت اليه بموضوعية: 
إستمعت من أساتذتي وفتحت عيني في السنوات الأخيرة للنظام السابق، على أن من صمم تلك القصور والجوامع في مختلف المحافظات العراقية، ومن نفذها أيضاً هم من خيرة المهندسين العراقيين في تلك الفترة.
أسماء معمارية بارزة شاركت في مسابقات أعدتها الجهات الهندسية المختصة لإختيار أفضل التصاميم، وبالطبع فإن كل مصمم إختار أفضل العناصر الشابة للعمل معه ضمن فريق العمل للوصول الى التصميم الأفضل.
والنتيجة هي قصور وجوامع مميزة معمارياً (نتيجة لإمكانيات المصميين، وبالتأكيد الخوف من التقصير)، ولكن الصفة السائدة في تلك التصاميم هي (المبالغة)، المبالغة في كل شئ، المبالغة في المساحات، في الحجوم، في التفاصيل، في نوعية مواد الإنشاء والإنهاء.
 والمبالغة كانت منطقية في ظل الظروف المحيطة بتصميم وتنفيذ تلك المباني.
أين المشكلة إذن؟ فالقصور والجوامع صممها خيرة المعماريين ويعيبها المبالغة فقط !
المشكلة حدثت بعد التصميم والتنفيذ... وهي بمرحلة أولى مؤثرة جداً وبمرحلتين ثانية وثالثة أقل تأثيراً.
عمل في تلك القصور أعداد كبيرة من المقاولين  والأيدي العاملة من (الخلفات) والعمال، وهناك أشخاص تعلموا مهنتهم في تلك القصور، فتحول أحدهم من عامل الى خلفة خلال فترة العمل وما بعدها.
كلاً من المشاركين، وبالتحديد من يدخل الفن في مهنته، كخلفات المرمر، الحجر، النجارين والحدادين، نفذ الكثير من الأعمال والتفاصيل في تلك القصور وهي مصممة من قبل المعماريين سابقي الذكر.
وبعد عمل أولئك الخلفات في ما يعتبرونه قمة المباني في العراق، أصابهم الغرور! وإقتنعوا أنهم أصبحوا خبراء في المهنة، لذا وبسبب ضعف قوانين ممارسة المهنة، بدأوا هم بتصميم وتنفيذ المساكن، أو على الأقل كلاً يصمم وينفذ بإختصاصه. اما تصاميمهم الناتجة فكانت إستنساخاً لما عملوا عليه في القصور الرئاسية. ولأنهم لا يملكون الخبرة الفنية، تشوهت التصاميم والتفاصيل على أيديهم، تغيرت النسب المتقنة، أضافوا وحذفوا منها حسب رغبة صاحب البيت أو رغبة الخلفة الخبير، لذا ظهرت نسخ مشوهة كمرحلة أولى، ومن ثم إزداد التشوه كلما إستمرت عملية الاستنساخ !
ولعل ذلك يذكرنا بالفلم الامريكي multiplicity  عن الرجل الذي لا يجد الوقت الكافي لإنجاز أعماله فتُعرض عليه فرصه إستنساخ نفسه، ولكن المشكلة أن شخصية النسخة تتدهور كلما إستمرت العملية!

 والأدلة على هذا القول كثيرة، ومنها ما نقله صديقي عن الخلفة (فلان الفلاني) عندما قال  له صاحب البيت أن صديقه المهندس إعترض على تفصيلة معينة، فأجابه جاسم: هذا يامهندس ؟ أني جامع الرحمن باني على إيدي !
 وأصبحت عبارة (مشتغل بقصور صدام) شهادة خبرة مضمونة.
 والإختبار الآخر للمقولة يساعدنا فيه google العزيز وهو أن نختار أي تفصيل قبيح ومشوه في تصاميم مقاولي اليوم وأنا متأكد أننا سنجد أصله الجميل في صورعمارة تلك القصور والجوامع.
وبالتأكيد هنالك نماذج سكنية ناضجة صممها نفس المعماريين وبنفس اللغة المعمارية للقصور، لشخصيات السلطة أو الأغنياء في تلك الفترة الزمنية، وهي كذلك أصبحت مصدر للإستنساخ من قبل الآخرين.
هذه النماذج الاصلية ونسخها، والنسخ المشوهة التي وضعها المقاولين، أصبحت بعد فترة تمثل العمارة المعاصرة في المدينة، وهي الحلم والرغبة لكل من يريد الشراء أو البناء! فأصبح مفهوم double volume صفة يوصف بها البيت لزيادة قيمته وقيمه ساكنيه (ونجد أن الحجوم المضاعفة موجودة في القصور بكثرة).  
لنأتي بعدها نحن الجيل الجديد ونفتح أعيُننا على مدينة مليئة بتلك التصاميم وتصبح من البديهيات التي يصعب علينا التخلص منها..
أما المرحلتين الأقل أهمية فهي مشاهدة عامة الناس لتلك القصور والإعجاب بها، المرة الأولى عندما سميت بـ(قصور الشعب) وسمح للناس بالمبيت فيها قبل الهجوم الأمريكي على بغداد، والثانية بعد سقوط النظام ودخول الناس للفرجة أو للحوسمة. ومن ثم حُرم الجميع منها ولم نعد نرى أصل عمارتنا المشوهة.

هل ماقام به المعماريين والمقاولين والخلفات يبرر لنا لومهم ونلقي عليهم سبب ما حصل؟
الحقيقة هو أن ما قاموا به يعتبر ظاهرة إجتماعية طبيعية جداً، إنتبه لها وكتب عنها إبن خلدون في مقدمته !
حيث يشير الى أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك: أن النفس أبداً تعتقد بكمال من غلبها وأنقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من إن انقيادها ليس لغلب طبيعي ، إنما لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل إعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء. ص156
 ولأن الحديث بأغلبه عن المباني السكنية (البيوت) فإن الحال اليوم مخيب للآمال، النسيج الجديد للمدينة أو النسيج المضاف على النسيج الأصلي (بعد تقطيع أغلب البيوت الواسعة) هو نتاج عمل شعبي (مقاولين وخلفات) وكذلك نتاج لأعمال المعماريين الشباب الذي تشربوا بتلك التصاميم المشوهة، أما المعماريين الناضجين من أساتذتنا (الذين كانوا سابقاً هم نقطة البداية في السلسلة) فقد خرجوا من الصورة، أما نتيجة لقناعتهم بعدم جدوى تصميم وتنفيذ المساكن في هذه الأيام، أو السبب الأغلب هو أن المهندس المعماري بصورة عامة قد فقد مكانته الى أجل غير مسمى!  فآخر ما سمعت به أن صاحب البيت عندما يكمل المهندس وضع مخططات المسكن (إذا كان هنالك مهندس أصلاً) يذهب بالمخطط الى تاجر العقارات (الدلال) ليتأكد من أن البيت سيكون (سوقه ماشي) في حالة الرغبة بالبيع بعد البناء!  لذا يدلوا الدلال بدلوه ويغير ما يحب تغييره و(الله يستر من النتيجة).
 ونعود الى تبرير ذلك كسلوك إجتماعي تقليدي، فنحن نسمع سابقاً مقولة (يالمشتري جنك بايع) أي عندما نشتري سلعة فيجب أن نتأكد إنها سهلة البيع مستقبلاً لتصبح المقولة اليوم (يالباني جنك بايع) ! والحالتين تمثلان إنقلابة في فكر التملك الإنساني، أي ليس من الصحيح أن نشتري أو نبني بيتاً يلبي رغباتنا وأذواقتنا الخاصة بل يجب أن نشتري ونبني حسب أذواق الأخرين !!!
وبعد كل ما سبق ... ماهو الحل ؟
هنالك طريقين ... الأول تنظيم المهنة وسيادة القانون وهو ما غسلنا إيدينا منه بـ(سبع قوالب صابون).

والثاني التعلم من الماضي ودراسة الطرف الأخر في الصراع بدقة (طريقه تفكيره، رغباته وسلوكه المتوقع) ومن ثم التعامل معه بذكاء عن طريق توجيهه بالاتجاه الذي نريده نحن. (بما أننا خبراء في كشف نظرية المؤامرة، لماذا لا نستخدمها لمصلحتنا؟)
ما نعلمه الآن أن الآخرين وحتى المعماريين يميلون لتقليد الغالب المسيطر أو صاحب السلطة، ويجب القول ان للسلطة أنواع، فهي سلطة سياسية، مادية، إعلامية....
لنقرأ السطرين التاليين ونغمض أعيننا ونتخيل:
ماذا لو إستطاع شخص غني أو يمتلك علاقة مباشرة بالمعمارية زهاء حديد، من إقناعها بتصميم بيت له في مدينة بغداد وليكن بمساحة 100 أو 200 متر مربع حتى ؟ ومن ثم نفذ هذا البيت على أرض الواقع.
هل تخيلتم؟
سينتشر الخبر وصور المسكن على صفحات التواصل الإجتماعي ويتداول صوره المختصين وغير المختصين وأنا متأكد أن الدلالين سيقومون بوصف أي بيت يريدون بيعه بـ (بيت يعجبك صاير بالفرع مالت بيت زهاء حديد!) أو (ترة بينة وبين بيت زهاء حديد فرعين بس!).
لذا أعتقد أننا بحاجة الى مسكن يصممه معماري ذو هالة مجتمعية، لتساعد سمعته الشخصية على إنتشار تصميمه بين الناس ولعل زهاء حديد هي الشخص المناسب في هذه الحالة.
ولتحقيق ذلك نحن بحاجة الى مؤسسة توفر المال أو أفراد متمكنين يساهموا في مشروع تحسين تصاميم المباني السكنية. فالأهم هو وجود نتاجات على الأرض تحسن الذائقة وليس كلامي هذا أو البحوث والندوات والمؤتمرات. لأن كلام المختصين لن يصل الى عامة الناس أو الطرف الآخر في الصراع.  

ولكن ما عن تشويه تصميم زهاء عند الاستنساخ؟ هل يجيد المقاولين استنساخه بطريقة مناسبة وبدون إجتهادات عبيطة؟
لا أعتقد ... لا يمكننا أن نضمن سلامة التصميم أبداً ..


إذن فهذه الفرضية للحل غير صحيحة ! ونحن بحاجة الى فرضيات أخرى أكثر كفاءة.












الخميس، 3 سبتمبر 2015

مها الآلوسي، علي الموسوي و(كَونيتنا) العراقية


تكملة للأفضال الألمانية الحالية علينا، عرضت ليلة البارحة فضائية DW الألمانية العربية، لقاءاً مع المعمارية والفنانة والمخترعة العراقية مها الآلوسي في برنامج ضيف وحكاية مع سماح الطويل.
الجميل أنها تشبه الممثلة ليلى محمد تقريباً، وهي تتكلم بطريقة تمثيلية مشوقة جداً.


تحدثت الآلوسي عن السعادة، الوقت، صناعة الشمع، صعوبات ممارسة العمارة ونجاحاتها الفنية والمعمارية والنظرية.

ويصدف أنني في يوم سابق وعن طريق صدفة يوتيوبية شاهدت حلقة من برنامج (مبدعون في المهجر) عن المعماري العراقي علي الموسوي، وعلى الرغم من إطلاعي على مشاريعه في بغداد الا أنني أتعرف عليه لأول مرة.
تحدث الموسوي عن أفراد عائلته، دراسته على يد الدكتور محمد مكية، مراحل ممارسته للمهنة، وأخيراً مشاركته في تصميم مشاريع مميزة في كردستان وبغداد والبصرة بعد 2003.


إن من أهم إيجابيات الشبكة هو أن نتعرف يومياً على مبدعين عراقيين لا نستطيع التعرف عليهم في الواقع، ولكن الأهم ماذا بعد التعرف والمشاهدة؟
بالتأكيد الشعور بالفخر، بالشخصيات العراقية المبدعة والتي حققت نجاحاً عالمياً في مجال هندسة العمارة.
ولكن هذا الفخر يتضمن رسالة خفية! الحقيقة ليست خفية وإنما واضحة وعلنية "إن النجاح لا يتحقق إلا خارج العراق" !

وتماشياً مع مواضيع الساعة المطروحة للتفكير والنقاش، فأنا لا أفكر بالهجرة ولكني أفكر بمستقبل العراق، هل هنالك أمل؟
في أوقات كثيرة يكون جوابي: لا يوجد أي أمل.
في أوقات قليلة يكون: هنالك أمل وشروق !
وفي حالة وجود هذا الأمل فمن يصنعه هم الشباب بالتأكيد، ولكن كيف سنضمن وجود الشباب المؤهلين لصناعته؟
الإطلاع على علم الاجتماع يجعلنا نفهم أن كل فرد هو وبنسبة كبيرة نتاج للمجتمع الذي ينشأ فيه، يأتي الطفل ورقة بيضاء، لتبدأ العائلة والشارع والمدرسة بالكتابة. وهنا يأتي دور الأقلام المميزة، نجد أن الطفل يتأثر بوالد ناجح، أخ، خال، جار، معلّم، وغيرهم من الشخصيات الناجحة في المجتمع، والتي تصبح ما يسمى بــــ(القدوة).
هنالك الكثير من الأمثلة في كافة التخصصات والمهن لأشخاص تأثروا منذ الطفولة بشخصيات ناجحة مميزة، وقد تكون القدوة أكثر تأثيراً كلما كان من نفس بيئة الشاب، أن يعاني من نفس المشاكل ويتجاوزها بنجاح، أن يثور على نفس القيود والتقاليد، والأكثر من ذلك أن يلتقي به شخصياً ويعايشه يوماً بيوم.
وهذه الشخصيات (القداوي) هي التي تمثل المقياس في المجتمع، ففي ثنائية الأبيض والأسود مثلاً، إعتدنا أن نقول: كيف يمكننا التعرف على الأسود من دون وجود الأبيض؟
وفي السواد الذي نعيشه اليوم نحن بحاجة الى تلك الشخصيات البيضاء، ولكننا نعاني من مشكلة قديمة جديدة وهي هجرة تلك الشخصيات الى خارج العراق.
ومن المهم هنا الإعتراف بعدم إمكانية مناقشة الخيارات الشخصية للأفراد، لا نستطيع توجيه النقد لأي أحد كونه قد قرر الهجرة في وقت معين، ولكن السؤال هو: كيف ستستطيع العوائل تربية أولادهم بطريقة صحيحة وهم لا يقولون (أبني شوف فلان شلون درس وإشتغل ونجح) ! وحتى عندما نضرب المثل بتلك الشخصيات وهم على الشبكة، فإن جواب الأولاد: أنهم حققوا النجاح خارج العراق فقط، أما داخل العراق فموت يا أبو صابر.

ومن يقول أن العراق (ولّاد) لا يخلو من القداوي في داخله، وهم اليوم مسؤولون عن تربية الأطفال والشباب لصنع المستقبل، يذكرني بنكتة قديمة أيام النظام السابق تقول:
إن عزت الدوري طلب من صدام حسين أن يحكم العراق يوم واحد فقط! عندها قال له صدام "أسويلك إمتحان إذا تنجح بي أخليك تحكم"، فجاءهُ بكونية مليئة بالجريدية وقال"هذولة الجريدية لازم تهدهم بالغرفة وترجع تلمهم بالكونية مرة ثانية"، فتح عزت الكونية و(بدة مطافر الجريدية) (يلزم واحد ينهزم الثاني وعلى هل قصة يوم كامل !) فرجع لصدام وقال له " سيدي مكدرت ارجعهم .. بس كلي إنت تدبرهة ؟" أمر صدام بكونية ثانية من الجريدية وقبل أن يفتحها (لزمها وكام يفر بيهة، ويركَعهة بالكاع وبالحايط !) ثم فتحها وخرجت الجريدية (تطوطح) ... فكام يلكطهم واحد واحد !!!
فكما أن العتب على عراقيي الخارج غير منطقي كذلك الحال تقريباً مع من في الداخل، ليس دفاعاً عن الداخل ولكن (الفر والتركَع الصدامي) مستمر حتى اليوم، ومن الصعب جداً العيش في فقاعة معزولة عما يحدث.

الخلاصة أن بناء أجيال عراقية صحيحة يتطلب كل الشخصيات العراقية الناجحة ومن المفترض أن تثبت لتلك الأجيال أن النجاح ممكن داخل العراق أيضاً وليس خارجه حصراً.

فهل تستطيع الشخصيات البيضاء أن تعود من الخارج لتساعد الشخصيات البيضاء في الداخل لبناء أجيال المستقبل؟
لا أعلم...

هل يستطيع الشباب بناء أنفسهم من دون التماس المباشر مع تلك الشخصيات ؟
لا أعلم ...

هل هنالك طريقة أخرى لصناعة مستقبل أفضل؟

ما أدري والله ...