الأحد، 27 ديسمبر 2015

سر الشارع

أعاد الكتاب للفراغ الذي تركه بين إخوته، لم يكفيه، ضغطهم يميناَ وشمالاَ وكرر المحاولة، مرر يده ليتأكد من تساوي الحافات، دفع كتاب آخر الى الوراء قليلاً وعينه تنوي إختيار الرف اللاحق، رفع رأسه ... فسمع الصوت وأحس بالألم ... شديداً أحال العالم الى ظلام ...
فتح عينيه جالساً على حافة سطح العمارة ... أمامه دخان، أسود، أبيض، رمادي. أدار وجهه ... كان السطح مليئاً بقطع الطابوق وأجزاء حديدية غريبة التشكيل.
 لم يفهم ...
أحس هذه المرة باللاحدود ... براحة مجهولة، يحرك يده اليسار منذ مدة ولم يصطدم إطار الساعة بعظام رسخه. أخذ يحرك رجليه في الهواء، ينتظر إنحسار الدخان.
أبواب وشبابيك محطمة، أقواس وأعمدة مشوهة، أجساد أصدقاءه تملئ الشارع المتفحم الذي تركته النار أخيراً لتتفرغ للمكتبات.
 خمسة أيام لم يبارح مكانه، يشاهد النار تلتهم الكتب، تحولها الى ذرات ترتفع الى الأعلى. ما إن تخرج من بين الجدران الى فضاء الشارع، حتى تبدأ تلك الذرات بالتقارب. طبقات من الغيوم الجزيئية المتراكمة تتداخل في صعودها المستمر. وما إن تصل الجزيئات الجديدة الى الـ(التيغة) التي يجلس عليها، حتى تبدأ بإكتساب البريق!
متلونة ... جذابة ... مد يده لتستقر عليها فأحس بتأثيرها السحري. جرعة أخرى من اللاحدود والفرح ...
لم تتضرر قناني البيبسي كولا الزجاجية قرب باب السطح، أخذ يملئها بتلك الجزيئات المتطايرة ويغلقها بأكياس نايلونية، ثم يعيدها الى الصندوق البلاستيكي الأزرق.
بعد أن أكمل المهمة التي كلف نفسه بها، جلس ينظر الى الشارع ... ليل، نهار، عمال نظافة، عمال بناء، جنود، بائعون، متسولون وقطط.
وأخيراً شاهد تلك العيون المألوفة تعود الى الشارع مرة أخرى، تتأمل ما حل بعمارات الشارع ومكتباته ... حزينة .. تشعر بالحنين.
إحتاج الأمر لسنوات حتى عاد الشارع الى حالته الأولى ...
أخذ ينتظر صباح الجمعة بلهفة، ينزل فجراً ليجلس في مكانه المعتاد على نفس الـ(التيغة) بعد أن تم إصلاحها، يتفرج على عيونه المفضلة، أصدقاءه الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، يبحثون عما يساعدهم على تحطيم القيود، ليست مطارق ولا كماشات، كلمات ترتبط مع بعضها البعض لتنتج ما يكسر تلك القيود السائدة خارج الشارع.

في كل جمعة يأخذ إحدى القناني الزجاجية، ينتقل من سطح الى سطح وهو ينثر فوق رؤوس المارة ما تحتويه من الجزيئات السحرية، سحرها ناتج عن تجارب ملايين العقول تفاعلت بدرجات الحرارة العالية وإختلطت بجزيئات الورق وتراب بغداد وماء دجلة.
تلامس الجزيئات البشرة أو تسقط في أقداح العصير وقدور اللبلبي و(إستكانات) الشاي، فيبدأ السحر مفعوله. تتسع العيون، تبتسم الشفاه، وتتباطأ الخطى. وهي علامات لما يحصل حقاً داخل العقول والقلوب.

من بقايا اليوم، يجمع جزيئات جديدة ليضيف إليها من جزيئاته السابقة وينتظر حرارة الصيف لتكتمل التركيبة. يُبقي الصندوق بين أنقاض السطح، لا يخاف عليه كثيراً، فأغلب الناس هنا يبحثون عن الكتب فقط، أما الآخرين فلن يبذلوا جهداً للبحث عنه، يريدونه جاهزاً على رفوف الصيدليات والأسواق، يكتب عليه بخط واضح وجذاب: عقار سعادة الحرية.  








الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

الراية كعنصر تصميمي

في أوقات معينة ولا أعرف بماذا تتشابه، تتردد في ذهني وبقوة كلمة ( آيرين)!

 آيرين هي كلمة السر لبدأ ساعة الصفر للعملية العسكرية في الفلم الأمريكي (black hawk down). وفي كل الأوقات الأخرى الباقية لم تتردد أو حتى أتذكرها بوضوح كلمات سر الليل التي كان يجب علي أن أحفظها عندما (لزمت الواجب) على بوابة مشجب السلاح في معسكر جيش القدس.
بعد نجاحنا من السادس الإعدادي صرح مدير المدرسة المحترم بأنه لن يتم قبولنا في الجامعات إذا لم نتدرب في تشكيلات جيش القدس!
شهران من الذهاب الى كراج النقل فجراً ولبس الخاكي وحمل الكلاشنكوف، ساحة العرضات والقصعة وباب النظام ونعم سيدي.
بالتأكيد هي تجربة لا تستحق الذكر أبداً مقابل تجارب آبائنا والأخوال والأعمام، ولكنها كافية للتفكير وإعادة التفكير بمفهوم (الحرية). أن تُسحب من ممارسة حياتك الشخصية وفي العطلة الصيفية السابقة لدخول الجامعة لتوضع في معسكر تغلق أبوابه بإحكام، والهدف ... تحرير القدس! وكيف سنصل الى القدس؟
هل من الضروري أن نفقد الحرية حتى نعيد التفكير في مفهومها وكيفية ممارستها؟ لا أعلم .. هنالك من يصرح أن التجنيد الإلزامي كان السبب في إنتاج رجال أكثر نضجاً وحكمة من الأجيال الحالية.

وعن الحرية أيضاً لا أستطيع نسيان Mel Gibson وهو يصرخ freedom  قبل أن يُعدم في الفلم الأمريكي brave heart، كنت في المرحلة المتوسطة عندما شاهدته أول مرة، وعندما أعدت المقطع قبل أيام (دمعت عيني)، أتذكر في تلك الأيام كان هنالك نوع (جكاير) يحمل إسم freedom  أيضاً وكان صديقي يقول أن ميل كبسون كان (متوازي على جكارة قبل ميموت)!


 وبعد صفنة نجد أن أغلب ذكرياتنا، أحلامنا وأمنياتنا صناعة أمريكية ...

والسبب هو الجهود العظيمة التي بذلوها للتعرف على الإنسان، هذا الكائن العجيب، ومن ثم مخاطبة عقله بما يحب ويهوى ... يستطيع الفلم الأمريكي أو المسلسل الجيد أن يجعلك (تلطش) أمام الشاشة، والفضل للفاصل الإعلاني لتقضية متطلبات حياتنا الضرورية.

في منطقتي التي تمتاز بفسحة مناسبة للحريات، أتمشى في فروعها ببطئ أراقب البيوت المبنية حديثاً ومراحلها، البيوت القديمة ومحاولات إعمارها، البيوت التي تفصل عن بعضها والبناء العمودي الحالي المخالف للقوانين. راقبت في الفترة السابقة الرايات (الأعلام) التي يثبتها أصحاب البيوت على واجهاتها وسطوحها، للتعبير عن قضية عقائدية يؤمنون بها، ولمختصي علم الإجتماع الدور الأهم في دراسة تفاصيل هذه الظاهرة، والحديث هنا فقط عن الراية والمسكن، لأن المسكن هو المجال الأوضح لممارسة الحرية الفردية فيه. أما الظاهرة في مؤسسات الدولة وشوارع المدينة يدخلنا في أحاديث أخرى.








ما يمس إختصاصنا (العمارة) هو موقع الراية من واجهة المنزل لتشكل عنصراً جمالياً علاوة على كونها عنصر رمزي يعبر عن الساكنين، وبعد (الفرة) الأخيرة في المنطقة وعطفاً على خلفيتنا الأمريكية، تذكرت البيوت الأمريكية وهي ترفع العلم الأمريكي على واجهاتها.
هل من الممكن للمعماري وهو يصمم منزلاً جديداً أن يأخذ رغبة صاحب البيت برفع راية تعبر عنه بنظر الإعتبار؟ أن يضعها في مكان مخصص لها تحديداً، لتصبح جزءاً من تكوين الواجهة بدلاً من إضافتها بطريقة غير مناسبة.
وما هو الموضع المناسب للراية على واجهة المسكن وأي معايير يجب أن يعتمدها المصمم؟ فكرت أن أذهب الى مرجعنا الأمريكي وكيف يتعاملون هم مع رايتهم.



وأتضح أن لهم أتيكيتاً في التعامل معها ...
 فالعلم يجب أن يرفع من شروق الشمس وحتى غروبها فقط، وعند وجود ضرورة لرفعه ليلاً فيجب أن يكون مناراً بطريقة مناسبة.
يجب أن لا يرفع في الجو العاصف السيء.
يجب أن لا يلامس العلم أي شي تحته، الأرض، الماء، أو أي عناصر أخرى.
يجب أن ينظف العلم دائماً ويصلّح إذا تمزق.

ومما سبق نستطيع أن نضع مواصفات عامة لموقع الراية ضمن تكوين واجهة المنزل، ولعل الأهم هو أن تكون بمتناول اليد، فهي بما ترمز اليه يجب أن تحترم .. وكما مر سابقاً فهي يجب تنزّل في الطقس السئ وأن تنظّف وتصلّح دائماً وأن تكون منارة ليلاً. لذا فإن التعامل المستمر معها يجعل وضعها في مكان صعب الوصول اليومي غير مرغوب أبداً، علاوة على أنها يجب أن تكون مستقلة، وفي موضع بارز فلا تمس شيئاً تحتها.

والمعماري هو مُصلح جمالي لمظاهر المجتمع، وإذا كان من الصعب عليه تعديل المباني السابقة فعليه مسؤولية تنظيم البناء المعاصر والمستقبلي، وأعتقد أن موضوع تصميم المسكن متوفر لعدد كبير من المعماريين الشباب، وهنا يبرز دورهم في قضية التنظيم الجمالي لرفع الراية بمختلف القضايا التي ترمز اليها.