السبت، 28 ديسمبر 2019

يومان مع راسم بدران


يومان مع راسم بدران

هل تستطيعون كتابة اسم )راسم بدران(، (Rasim Badran) على محرك البحث Google ؟

معمار عربي كبير، لا استطيع ان اضيف شيئاً بالكتابة عن سيرته الذاتية المذكورة في الكثير من المواقع الالكترونية، ولكنني ساحاول سرد قصة معرفتي به اولاً ثم لقاءه شخصياً.

تم قبولي عام 2001 لدراسة العمارة، العام الذي يسبق شيوع استخدام شبكة الانترنت كمصدر مفتوح للمعرفة، لذا كان حصولي على مجموعة من الكتب والمجلات المعمارية كنز ثمين من صديقة والدتي التي درست العمارة بداية الثمانينيات.
مجموعة كبيرة من مجلات (Architectural Record)، والاهم كتاب باللغة الالمانية يتحدث عن معماريي العالم الثالث، وتوجهاتهم بين تقاليد عمائر بلدانهم وبين محاولاتهم في التجديد والاضافة، وقد طبع الكتاب عام 1980. ولانني لا افهم اللغة الالمانية فالفائدة الوحيدة حينها متابعة صور المشاريع المعمارية بالابيض والاسود.


ولكل معمار منهم صورة شخصية، احدى تلك الصور لمعمار بنظارات شمسية وشعر طويل يرتد الى الخلف بفوضوية، سالف طويل، شارب سميك ونظرة بعيدة عن الكاميرا. كانت صورته تتطابق مع ما سمعته عن غرابة اطوار الشخصية المعمارية، اتذكر تعليق شقيق صديقة والدتي نفسها عندما علم بدراستي العمارة، نظر الى الثلاجة امامه قائلاً: هل تعتقدون ان المعماريين يرون هذه ثلاجة؟ قد يرونها وردة، من يعلم!

صاحب هذه الصورة المميزة كان المعمار راسم بدران وقد حفظت اسمه منذ تلك الايام.



عام 2019 عندما علمت باستضافته في  المؤتمر الدولي للعمارة والتصميم الداخلي  لجامعة Tishk  الدولية (TIU) في مدينة اربيل، قررت الذهاب والمشاركة بلا تردد.
وكانت حصيلتي معه: الاستماع لمحاضرتين ممتعة، زيارة مشتركة لقلعة اربيل التأريخية واوتوكراف ثمين.




جدالات وافكار كثيرة حفزها ذلك اللقاء السريع عن الشخصية المعمارية وعن التصميم المعماري بتفصيلاته المعقدة وعن بيئة التصميم والعمل، ولكن كعادتي في الكتابة وضعت عناوين لافكار لم اجدها عندما استعنت بـ(google) للبحث عن المعمار راسم بدران:

-الارث العائلي: ينحدر المعمار من عائلة عريقة ومختصة في الفن، والده جمال بدران فنان تشكيلي ونحات وخطاط واكاديمي، وقد كانت موهبة راسم بدران واضحة منذ البداية، يفوز بجائزته الدولية الاولى بعمر 12 عام في مسابقة لفنون الرسم والتصوير، ويمتلك اسلوباً مميزاً بالرسم والتخطيط منذ الطفولة.



من البديهي ان يتميز الانسان او المعمار تحديداً الذي يعتمد على ارثه العائلي عن انسان او معمار آخر ينحدر من عائلة وبيئة بسيطة، فهو يتغذى الفن والثقافة منذ الطفولة بينما قد يتعرف عليها الآخر في مرحلة الدراسة الجامعية.
لاتوجد قاعدة ثابتة بالتأكيد، لكننا ننتبه للحالات المتكررة ونعتبرها ظاهرة، وقد نكون مخطئين.
تلك الحالات تشير الى ان من يمتلك ارثاً عائلياً يلتزم غالباً بطروحات ذلك الأرث، ويسير على نفس الطريق باختلاف الاتجاه لكل عائلة او فكر، وقد يكون مجبر على ذلك او مختار. اما من لا يملك إرثاً فسوف يشق لنفسه طريقاً حراً لا يلتزم ولا يهتم لمنجز اب او جد.

اقتبس لكم سريعاً عن الطرفين للاثبات:

يخبرنا معاذ الآلوسي في مقدمة كتابه نوستوس قائلاً: (كان الوالد يذكرني على الدوام بميراثي، نصيحته الدائمة لي هي "مقياسك لأي قرار مرغم على اتخاذه هو مدى رضى السلف الصالح من الاجداد على هذا القرار").

 ثم يحدثنا بيدرو ميرال (روائي ارجنتيني) عن دانيال بطل احدى رواياته:
(عندما ادرك انه تاه، لم يرتبك، بالعكس، احس بحماس غريب ولّدته امكانية تفسّحهُ دون ان يقع على شخص او شيء معروف، ولأول مرة لمس الحرية التي يجدها المرء حين يكون نكرة: يفعل ما يريد دون ان يعلق احد على فعله، او ينتقده او يربط افعاله باسمه او عائلته).

نقرأ لعالم الاجتماع الدكتور علي الوردي تشبيهاً بان لكل حضارة قدمين، ولكي تستمر (تمشي) هذه الحضارة، فان لها قدماً ثابتة (متمسكة بالماضي) وقدماً متحركة (كافرة بالماضي)، وقد يكون هذا الحال في العمارة ايضاً، يقسم المعماريين الموهوبين الى قسمين مع ضرورة وجودهما دائماً. قسم يسير على ارثه العائلي، فيحافظ على اسرار المهنة وينتج عمارة جميلة تتمسك بالماضي وقسم يسير باي طريق يحلو له فيجدد فيها ثم يصنع لنفسه ارثاً ويفرضه على ابناءه بعد حين.  

-المعمار وجامع الدولة الكبير: ليس الهيكل العظيم الموجود في موقع مطار المثنى سابقاً، وانما هو جامع تم الاعلان عن مسابقة دولية لتصميمه عام 1982 حيث تم دعوة 23 مكتباً معمارياً (محلياً وعربياً وعالمياً) للاشتراك في المسابقة، نال المركز الاول فيها التصميم المقترح من قبل المعمار راسم بدران.


وقد سمعت منه شخصياً ونقرأ في مصادر أخرى أن لتلك المسابقة في العراق وللمعمار رفعة الجادرجي الذي دعاه للمشاركة فضل كبير على المعمار ومنجزاته اللاحقة، لان تلك المسابقة قد نالت نصيب من النقد والنشر المعماري العالمي حينها، مما وضع اسم راسم بدران ومنجزه المعماري وتوجهه التصميمي امام اعين العملاء الآخرين والسعوديين تحديداً لينال فرص تصميم مشاريع عديدة هناك نالت جوائز عالمية كثيرة.

المسابقة توثقها الكثير من الكتب العربية ايضاً لمن يريد المزيد عنها، حيث يفرد لها معاذ الالوسي مثلاً فصلاً في كتابه نوستوس.

-تجربة مكان: لراسم بدران اسلوب معماري مميز نجد جميع تفصيلاته في كتاب (The Architecture of Rasem Badran)، هو يسميها عمارة المجتمع الاسلامي، فيتواصل مع التراث ويوظف عناصره بطرق متنوعة تحقق هدف المبنى بالتأكيد، مع الاهتمام بـ(قصة التصميم) التي نسميها (الفكرة التصميمية) والتي تنبع في اغلب الاحيان من طبيعة الموقع والمجاورات وبذلك يحاول ان يخلق صلة مع البيئة القائمة (الطبيعية والعمرانية) فيكون تصميمه متجانساً مع الموقع وانسان الموقع وليس مقحم فيه وعليه.
 في احدى مساجده في السعودية يفتخر بان رجل كبير اخبره بأن المسجد (يذكرني ببيت اهلي).




وبعد احدى محاضرتيه بدأ نقاش مدى تقبّل الاجيال الشابة لمثل تلك الافكار التي قد تحسب ظاهراً على العمارة التقليدية مقابل كل ما ننبهر به على شبكة الانترنت من عمارة عالمية معاصرة.
الاجيال الشابة وحتى العملاء الجدد اصبحوا يعتبرون مفردة القوس مثلاً مفردة قديمة بالية لا نجدها في اغلب تصاميمنا المعاصرة، وغيرها من المفردات المعمارية المحلية التي تنبع من البيئة المناخية والجغرافية للعراق ودول الشرق الاوسط.
كان جواب المعمار ان توجهه ومفرداته ليست قديمة او تراثية وانما هي مناسبة لتحقق بيئة معمارية ملائمة للمكان فالتصاميم تحقق تنوع في المشاهد المعمارية بالاعتماد على عناصر المدينة العربية زيادة على تحقيق الانارة الطبيعية وغير المباشرة، المتعة البصرية والحركية وجميع مبادئ التصميم المعماري.

ولكن الحقيقة ان الاجابة غير مقنعة مادمنا نشاهد مشاريعه كصور على شاشة ذكية او على حواسيبنا واجهزتنا النقالة فقط.
نعم نحن نشاهد المشاريع بحاسّة واحد فقط فتخبرنا عيوننا ان تلك العناصر قديمة من الماضي، ولكن ماذا ستخبرنا حواسنا الاخرى عندما نزور تلك المشاريع ونتجول داخلها؟
ان علاقتنا مع العمارة التراثية او المحلية هي علاقة مشوّهة لاننا نشاهدها كصور فقط. طلبة العمارة والمعماريين بحاجة الى تجربة فيزيائية للمعالم المعمارية المحلية، وهي اشكالية ليست بجديدة والحديث عنها ليس جديد ايضاً، اما عن الحلول فـ(كلٌ يعمل على شاكلته)، استاذ العمارة يخصص الكثير من الوقت لزيارة تلك المعالم، وطالب العمارة وخريجها يزورها ان استطاع اليها سبيلا.

لم انهِ ذلك اللقاء ونقاشاته بصور رقمية ليست ذات قيمة، بل نسخت عدّة صفحات من كتاب اعماله والذي يحوي الكثير من مخططاته، ورجوته ان يوقع لي على احداها لتبقى مؤطرة تذكرني براسم بدران ولقاءه الممتع الذي قد لا يتكرر.