الأربعاء، 22 يوليو 2015

الاسم : حلم بغدادي
العمر: 54 سنة

بعد سماعي الخبر صباح يوم الاثنين، لا يمكنني القول إنني تأثرت كثيراً ! فبعد سنوات من العيش والإستماع والمشاهدة الجبرية للموت اليومي، لإناس لم يقولوا لأحد (على عينك حاجب)، أصبحت أعاني من تبلّد عاطفي أو نفسي تجاه فكرة الموت المخيفة.  

رحم الله الدكتور محمد صالح مكية، وأسكنه جنّة وادي رافدينية كان يحلم أن يصممها في مدينة بغداد.

"كنت أميل أن تؤدي الشوارع الى النهر ولا توازيه، ففكرت بزقاق مشجر بالنخيل، يمتد من بوابة الجامع حتى دجلة، ولما سمع رئيس الوزراء (1958-1963) عبد الكريم قاسم بالفكرة طلب أن يكون هناك ميدان جديد، ويصبح الجامع مركزاً لبغداد، ويمكن أن تتطور الفكرة الى إيجاد مجمع حضاري يرتبط بالمناطق التأريخية الأخرى، مثل المدرسة المستنصرية والقصر العباسي".
"وقتها فكرت أن تتخلل الميدان فضاءات وأروقة، فلو تحقق ذلك الميدان لرفع عن بغداد بعض الغبن الذي تعاني منه بسبب السياسة العمرانية، وكشف عن هويتها في علاقتها التأريخية بدار الخلافة وجبهة النهر. لكن للأسف قتل عبد الكريم قاسم في إنقلاب 8 شباط 1963 ولم تتحقق الفكرة".
هذا حلمه الذي أخبرنا به الدكتور مكية في كتاب (خواطر السنين، سيرة معماري ويوميات محلة بغدادية).ص194-195



ولأنني حضرت العام الماضي الجولة التي نظمتها أمانة بغداد على الأبنية التي صممها الدكتور مكية في بغداد بمناسبة مئويته وهي (فندق ريجنت بالاس، جامع الخلفاء، كلية التربية ابن رشد ومكتبة الاوقاف في باب المعظم)، فكرت أن أستذكر الدكتور بطريقتي الخاصة، أن أزور المنطقة التي كان يحلم بتحويلها الى مركز بغداد، ميدان جديد، زقاق مشجر بالنخيل ينتهي بدجلة (الخالد) !

ركبت الأمانة الحمراء (أم طابقين) من ساحة النصر متوجها الى باب المعظم لأصل الى جامع الخلفاء. وفي الأمانة تتجسد أمامك أغلب المشاكل العراقية، عدم الإهتمام بالوقت، غياب شخص واحد يستطيع أن يخلخل عمل مؤسسة كاملة (فغياب السِكن جعل السائق وحيداً مما دعاه الى عدم فتح الباب الخلفية ويصبح الصعود والنزول مجاناً)، مشاركة السائق للربح يجعله (يحلف ميمشي إذا ميقبط الكراسي والممرات). ولأن الموت هو الموضوع الرئيسي (للطلعة) وفي علبة السردين الحمراء هذه فكرت، ماذا لو أنفجرت بجانبنا سيارة مفخخة؟!

نهضت لأتاكد من أن الشباك العلوي قابل للفتح، ثم إستذكرت نظرية قديمة تقول: (إذا كانت الفتحة في الجدار كافية لخروج رأس الانسان فأن بقية الجسد سيخرج منها أيضاً) وكان الشباك كافياً نظرياً لخروج رأسي منه!

 ولعل ما يدفع الناس لركوب الأمانة وتحملها هي نفس قضية العمارة اليوم في العراق (الراحة الحرارية) فالبديل أن تركب تكسي (نفرات) أو (كيا) أو (ستوتة) ولكنك ستموع من الحر.

عندما تقابل جامع الخلفاء، تقع الى يمينه ساحة سوق الغزل الشهير، أكشاك بيع الطيور بأنواعها والمستلزمات الخاصة بتربية الطيور والحيوانات الأليفة الأخرى، ويلاصق الجامع من نفس الجهة بوابة طابوقية بقوسين تؤدي الى زقاق يجذبك لتكتشفه، وهو مافقدناه في التخطيط الحديث، الغموض والرغبة بالاستكشاف، علاوة على الجوانب الدفاعية للساكنين في تلك الأزقة.




تدخل الزقاق لتجد صانعي أقفاص الطيور، وهم يقابلون الجدران الخارجية لقاعة الصلاة في الجامع بتفاصيلها الطابوقية، وعناصرها الإنشائية الكونكريتية وذلك ما يميز منهج الدكتور مكية في أغلب أعماله، توظيف المواد الإنشائية المعاصرة (في وقته) لإنتاج أشكال معمارية ذات عناصر وهوية وادي رافدينية متميزة.



يؤدي الزقاق الى زقاق آخر عمودي على الجامع، يمتلئ بمحلات بيع (الحمام) بالتحديد لينتهي بزقاق أكبر عمودي عليه، هو إمتداد لمحلات وأسواق الشورجة الغذائية.



أما واجهة سياج الجامع الأمامية فيجاورها بائعي الطيور والأدوات الكهربائية والقبعات الصيفية. ويرتبط الجامع من جهة اليسار بالمحلات التجارية التي تبيع السجاد والمواد الغذائية وغيرها من البضائع.



لن أستعرض عمارة الجامع المميزة التي تكلم عنها كثيراً الدكتور خالد السلطاني في أغلب كتبه، والذي يعدها الحد الفاصل بين مرحلتي نتاج الدكتور مكية المعماري "فثمة حقبتان رئيسيتان في سيرورة المعمار: قبل جامع الخلفاء وبعده"، وقد كلف بتصميمه في العام 1961، ولكنني سأتحدث عن حلمه السابق، ومن الطبيعي إن هذا الحديث سيقودنا بلا إرادة الى ذم ولوم الجهات الإدارية في البلد والى الأوضاع الأمنية والخدمية المتردية، ليس لنا كأفراد الا القليل من أجل تحقيق ذلك الحلم، هذا القليل يتضمن الاسترشاد بأفكار الدكتور مكية وأعماله في أعمالنا المستقبلية عسى أن تحقق مجتمعة ولو بعد حين عودة بغداد الى مكانتها التي تستحقها.

لن الوم أصحاب المحلات والأكشاك و(البسطيات) على نوع بضائعهم أو أماكن جلوسهم، لأن الجامع منذ التأسيس الأول هو جزء من مجاوراته في المدينة العربية التقليدية وخاصة الأسواق المجاورة له، ولكن يتوجب على أمانة بغداد الإعتناء بنظافة المنطقة المحيطة وتأهيلها بما يتناسب مع مكانة الجامع التأريخية.

والحديث عن المجاورات يقودنا الى الإنقلاب  في حال الجامع من الإنفتاح على المجاورات والتخطيط المستقبلي لميدان وزقاق يمتد للنهر الى حال الانغلاق عنها. فهو يشبه اليوم القلعة الحصينة، سياج أمامي حديدي مصمت تعلوه الأسلاك الشائكة، وكاميرات المراقبة تحيط بالجامع من كافة الجهات، بالتأكيد هنالك أسباب في الحال العراقي تدعوا الإدارة الى إتخاذ هذه الإجراءات، وهذا هو حال العمارة فقضاياها تابعة لقضايا السياسة والأمن والإقتصاد، ولا يمكننا اليوم الحديث عن أي تفصيل معماري من دون الوصول الى تقصير الجهات التشريعية والتنفيذية في العراق.



وأخيراً وبعد ضربة الشمس المعتادة تشاهد الأمانة الحمراء قادمة من بعيد، فتلعن من كان السبب بعدم تحقيق أحلام الدكتور مكية بل وحتى نية محاكمته (وقد إطلعت بواسطة أحد طلابي على الملف المعد لمحاكمتي، ووجدت فيه ما ينوون توجيهه ضدي من إتهامات خطيرة) ص196، فقد كان من الممكن أن تكون واقفاً تحت أشجار النخيل و(تتبرد) من نافورات مياه موزعة على ميدان الجامع بدلاً عن قنينة الماء البلاستيكية، ولكنك تودّع الطيور وأسماك الزينة وتدخل علبة السردين الباردة عائداً من حيث أتيت. 


مباني مقابلة للجامع










الاثنين، 13 يوليو 2015

ثلاثينية عمر أنور جهاد

إعتدنا أن نقرأ للدكتور خالد السلطاني نصوصاً يعنونها بــ: "تسعينية محمد مكية، إنتماء العمارة وغربة المعمار"، "تسعينية جعفر علاوي"، "سبعينية المعمار معاذ الآلوسي"، "ثمانينية رفعة الجادرجي: الحداثة أولاً... الحداثة دائماً"، ونقرأ ونشاهد بين فترة وأخرى معلومات مصورة ينشرها الدكتور إحسان فتحي، عن المعماريين العراقيين الأحياء ومن وافاهم الأجل، والذين ساهموا في التأسيس لبيئتنا المبنية ومؤسساتنا التعليمية في حقل العمارة.
والحقيقة أن للدكتور خالد السلطاني دور كبير ليس بحاجة لشهادتي، في تدوين العمارة العراقية، وكأنه يعلم منذ البداية بالقطيعة التي سيعيشها المعماريين الشباب مع النتاجات المعمارية العراقية ومنتجيها، القطيعة مع النتاجات جاءت بسبب الوضع الأمني السيء، والذي إنهار بعد عام 2003 مما جعل الكثير من الطلبة وحتى خريجي العمارة (وأنا منهم) لم يشاهدوا بأم العين وعلى الواقع مباني تتحدث عنها وتدرسها المدارس المعمارية العالمية، وهي تقع في نفس المدينة التي يعيشون فيها، وهذا حال المعماريين (الولد) فكيف الحال بالمعماريين (البنات) !
أما القطيعة مع منتجيها فهي بسبب الهجرة الجماعية للعقول العراقية بكافة التخصصات، والعقول المعمارية خاصة. نقرأ اليوم كتب الدكتور محمد مكية ورفعة الجادرجي ونوستوس للاستاذ معاذ الآلوسي، ولكني لا أعلم ما هو مصيري الفكري والتطبيقي لو كنت طالباً حقيقياً لهم؟! ماذا لو كنت أكملت شهادة الماجستير ولا يزال الاستاذ معاذ الآلوسي محاضراً في الدراسات العليا بجامعتي؟!
واليوم محاولتي الأولى في تدوين شخصياتي المعمارية، تدوين وإيقاد شمعة لزميلي وصديقي المهندس المعماري عمر أنور جهاد، الذي وافاه الأجل في مثل هذا اليوم من العام الماضي بعد صراعه الشجاع مع المرض.
تم قبولي في الهندسة المعمارية في العام الدراسي 2001-2002 ومع ضبابية الذاكرة الحالية أتذكر إنني تعرفت على عمر بعد فترة ليست بالقصيرة، فالصداقات الأولى غالباً مع الزملاء الذين يشغلون المقاعد المجاورة أو أن نشترك معهم بمجموعة خاصة بورشة معينة، علاوة على تقسيم المرحلة على ثلاث مراسم وبكادر تدريسي منفصل، وأنا وعمر في مرسمين منفصلين متجاورين.
وبعد التعرف على كل زملاء المرحلة كان عمر: هادئ، مؤدب، خفيف الدم جداً، رشيق، أسمر بنظارات طبية.
التقينا خلال تلك السنة بعد الدوام في (الطلعات) المسائية، مطاعم الحارثية ومقاهي الاعظمية، وهي السنة الاولى والوحيدة قبل دخول الأمريكان وحرماننا من المساء لسنوات طويلة. لعل ما زاد معرفتي به هو الاشتراك بتعلّم الإظهار المعماري بالالوان المائية في العطلة الصيفية بعد المرحلة الأولى، كان عمر متميزاً بها وإستخدمها في إظهار مشاريعه حتى النهاية. ولكوننا بشعبتين مختلفتين فقد أكملنا المرحلة الثانية بمرسمين منفصلين أيضاً، وكان هو من الأسماء البارزة في مادة التصميم في المرسم الآخر، شعبة (ب).
بعد منتصف السنة أقفلت الجامعة أبوابها بإنتظار الحرب، وإفترق الطلبة هاربين من الهجوم الامريكي وتقطعت الأخبار لنلتقي مرة أخرى بعد التغيير و(حوسمت الجامعة).
 عدنا الى مقاعد الدراسة وأكملنا إمتحانات السنة الدراسية في قاعات ساونا ! لننتقل الى المرحلة الثالثة والرابعة في الفترة بين دخول الامريكان وبداية الأرهاب. وأخيراً بدأت الاوضاع البغدادية بالتدهور في المرحلة الخامسة وأكملنا سنتنا بما تبقى من الاساتذة والمناقشين.
كان عمر من العشرة الأوائل على مرحلتنا، وقُبلنا سوية لدراسة الماجستير للعام الدراسي 2006-2007، قدم بعدها طلباً لتأجيل الدراسة في تلك السنة العصيبة، لينعدم التواصل بيننا.
سافر بعدها عمر الى سوريا ثم الى قطر ليستقر للعمل هنالك عدة سنوات، عاد بعدها الى بغداد وإرتبط بزوجته المهندسة المعمارية أيضاً، عمل في القطاع الخاص ثم مع إحدى دوائر الدولة، لينتقل الى أربيل برفقة أصدقاء الدراسة ويكتشف مرضه هناك. سافر الى لبنان وتلقى العلاج فترة طويلة، عاد أخيراً الى بغداد لتفارقنا روحه في أيام شهر رمضان المبارك.
وطلباً للموضوعية أقلب ذاكرتي بحثاً عن موقف سلبي لعمر خلال معرفتي به، ولكنني لا أجد كلمة مزعجة سمعتها منه او شكوى من أحد الزملاء، كان ينطبق عليه قول المعلمات للطالب الشاطر: لو أكو منك كم واحد جان هسة إحنه بخير.
لا أعلم لماذا أتذكر هذه اللحظة بوضوح طريقة تقليده للشاب مامي في أغنية يوم ورة يوم مع سميرة سعيدة! كان محباً للمزاح أو على الأقل كما عرفته أنا.

كنت أتمنى أن أصف أفعاله المعمارية التي تزين المدينة بعد أن يصبح من المعماريين المتميزين، أن أكتب عن سبعينيته وثمانينيته، ولكنه رحل سريعاً وترك خلفه السيرة الحسنة والذكريات الجميلة، فرحمك الله ياعمر وأسكنك فسيح جناته.









الاثنين، 6 يوليو 2015

 قوس قُزح ... معمارياً

هنالك معلومات ومواقف تُحفر في الذاكرة خلال سنواتنا الأولى، نسبة كبير منها هي نتاج تلقين البيئة التي نشأنا فيها، لا أتذكر بالتحديد من قال لي من الأقارب: لا تسمي قوس قزح قوس قزح لأن قزح إسم من أسماء الشيطان، سميه قوس الله، هو إسم مناسب أكثر.
واليوم تخبرنا ويكيبيديا نقلاً عن لسان العرب والقاموس المحيط وdictionary of gods and goddesses ، وضمن معاني آخرى، أن قزح إسم لإله الطقس والمطر والخصوبة أو هو إسم الملك الموكل بالسحاب، كذلك هو إسم للشيطان !  وللقوس أسماء أخرى هي قوس المطر أو قوس الألوان.
قبل ذكرى إشكالية التسمية، قد تكول الذكرى الاقوى المرتبط بقوس (....) هي من أفلام كارتون مغامرات سنبل، كنت من المتابعين يومياً لسنبل في فترة برامج الاطفال الوحيدة على شاشة التلفزيون العراقي، لتستمر الرحلة مع قوس قزح كظاهرة طبيعية نادرة ورائعة، تحصل من إجتماع المطر مصدر الخير والشمس مصدر الضوء، فهي طوال السنين تعبر عن مثالية الطبيعة، تعبر عن الخير عن الأمل وحتى في الكتاب المقدس (bible) فهي تمثل وعد الرب بالسلام لنوح عليه السلام.


الذكرى الأخيرة في العام الماضي عندما ظهر القوس كاملاً في مدينة بغداد مما أتاح للجميع تصويره والتفاؤل به.
بالتأكيد أن قوس قزح هو ظاهرة لونية بحتة، يكسب وجوده وشخصيته من الوانه السبعة المميزة، ولأننا نتحدث في سياق العمارة، فاللون عنصر مؤثر من عناصر التصميم الفني بصورة عامة والتصميم المعماري بصورة خاصة. يدخل تأثير عنصر اللون أو يتداخل من كل العناصر الآخرى، فللخط لون وللسطح لون ... لينتج التكوين المعماري النهائي بألوان متعددة داخلية وخارجية.
وفيما يخص إستخدام الالوان السبعة مجتمعة في العمارة قد يظهر غالبا في المباني الخاصة بفعاليات الاطفال (رياض الاطفال، المدارس الابتدائية، الملاعب العامة).
ففي مشروع تجديد روضة في مدينة باريس تم إستخدام ألوان قوس قزح لإعطاء نظرة (تازة) للهيكل القديم للمبنى، علاوة على خلق بيئة مرحة إيجابية تناسب رغبة الطفال المستمرة باللعب.



وفي مشروع آخر في لندن (the rainbow house) نجد إستخدام الالوان في السلم الحلزوني، ويوصف المشروع بأنه بيت سحري من الألوان والمرح يناسب خيالات كل الاطفال.


مشروع آخر في الدنمارك (rainbow panorama) يوصف بجملة إفتتاحية " أصبح من السهل الوصول الى قوس قزح" !
وهو عبارة عن ممشى دائري مضاف لمتحف الفنون في مدينة (Aarhus) في الدنمارك يوفر للزوار فرصة رؤية ملونة وبـ360 درجة لمعالم المدينة.



في الهند ينتج لنا البحث عن مبنى معهد الأدارة الدولية بواجهته الزجاجية القوس قزحية، والتي توفر بيئة خارجية وداخلية مناسبة لوظيفته.

حتى هذه اللحظة كل شي طبيعي وكل تلك المباني وإستخداماتها للألوان ترتبط بالطبيعة ومحاولة خلق أحاسيس إيجابية عند مستخدمي ومشاهدي تلك المباني متعددة الوظائف.
الجديد في الأمر حصل يوم الجمعة 26-6-2015 عندما قضت المحكمة العليا في الولايات المتحدة بالسماح بزواج المثليين في عموم الولايات المتحدة الأمريكية، ورفع الحظر عن ذلك النوع من الزواج في جميع أنحاء البلاد.
ما يهمنا هو كيف تحول قوس قزح الى رمز للمثلية؟ وما هو موقفنا من إستخدامه مستقبلاً في تصاميمنا المعمارية؟ أصبح قوس قزح كعلم  يستخدمونه للتعبير عن قضيتهم، لينتقل الى كل مادة إعلامية تعبر عن نفس التوجه!
وبعد بحث بسيط نجد أن الرمز مر بمراحل متعددة منذ الكاتب المسرحي أوسكار وايلد حتى يومنا هذا.
تأريخياً إستخدم المثليين الألوان البراقة للتعبير عن أنفسهم، فأوسكار وايلد كان يرتدي قرنفلة خضراء في طية صدر سترته، وقد إستخدم هذا الرمز غيره من اللندنيين والباريسيين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين للتعبير عن توجههم.
اللون الاصفر إستخدم لنفس الغرض في استراليا، أما في أيام المحرقة اليهودية، فإن رجل غير سوي اجبر على إرتداء مثلث زهري اللون، والذي أصبح رمزاً لبعض المجتمات المثلية فيما بعد. اللون الارجواني أصبح رمزاً شائعا أيضاً للمثلية خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
وبذلك فإن قوس قزح لم يكن رمزاً للمثلية حتى عام 1978، عندما صمم الفنان (Gilbert Baker) ما أراده أن يكون أول علم حديث للإفتخار بالمثلية، يتألف من ثمانية أشرطة ملونة، لكل لون رمزية معينة:
الزهري للجنس، الاحمر للحياة، البرتقالي للشفاء، الاصفر لاشعة الشمس، الاخضر للطبيعة، الازرق للفن، النيلي للانسجام والبنفسجي للروح الإنسانية.


وعندما أراد تصنيع العلم وطرحه للبيع وجد أن اللون الزهري غير متوفر كبقية الألوان فرفعه من التصميم، ثم رفع اللون النيلي للحفاظ على العدد الزوجي فيه، ليصل العلم الى شكله المعاصرة بستة الوان. وقد تم إستخدامه ذلك العام في مسيرة في مدينة سان فرانسسكو/ الولايات المتحدة الامريكية.
ولثقافة البوب أيضاً دور في نشر قوس قزح كرمز للمثليين، ربما من خلال المغني (Judy Garland) وأغنيته الشهيرة (Somewhere Over the Rainbow) والذي يعتبر من أشهر النجوم في المجتمعات المثلية في فترة الخمسينات والستينات.


من هذه النظرة التأريخية نجد أن هنالك إنفصال بين قوس قزح كظاهرة طبيعية وبين مصدر الالوان الستة المستخدمة في العلم، فهم لم يستخدموا تلك الالوان لأنها تعبر عن الظاهرة الطبيعية، سبب الاستخدام جاء من كونها الوان براقة اولاً ثم للرمزية المنفصلة لكل لون، وتلك الرمزية خاصة بالمجتمعات التي يعيشون فيها وهي غير معروفة لدينا مسبقاً.
هنا نعود الى السؤال السابق، ماهو موقفنا المستقبلي كمعماريين من إستخدام تلك الالوان مجتمعة في مشاريعنا؟!
هل نتغاضى عن معرفتنا بتلك الرمزية الجديدة ونستمر بإستخدامها عندما تخدم وظيفة وفكرة المشروع الذي نعمل عليه؟
أم أننا جزء من مجتمع عالمي كبير يشترك بالرموز والاشارات، لذلك سنحرم أطفالنا من التمتع ببيئة ملونة، ونبتعد عن إستخدامها لارتباطها بموضوع مثير للجدل؟
وهذا يؤشر لقضيتين مهمتين، الاولى هيمنة الاعلام الغربي على مجتمعنا، فمن خلال يوم واحد وعن طريق مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات الاخبارية تم زرع رمز جديد في رؤس أفراد المجتمع، على الأقل الأفراد المتصلين بالشبكة، وهي نسبة كبيرة جداً من المجتمع.
القضية الثانية هي حساسية ما ترمز اليه الالوان، ففي قضية مشابهة عن إختلاف الرموز بين المجتمعات العالمية، نجد أن حيوان البوم يرمز عراقياً أو عربياً للشؤم ولكن عالمياً نجده يرمز للحكمة، فهنا نستطيع تحدي المجتمع ونستخدم البوم إستخداماً عالمياً في الملابس او الاكسسوارات النسائية ونتجاهل الاستخدام المحلي. ولكن بعد التشريع الامريكي قد يكون من الصعب تحدي الرمزية العالمية للالوان الستة واستخدامها برمزية محلية فقط.
وأخيراً هل أن الامر يستحق البحث والنقاش معمارياً؟
ماذا لو إستخدمنا  في المستقبل الوان قوس قزح (بنية صافية) في مشروع روضة أطفال أو مدرسة ابتدائية، وقد يعلم الاطفال بالرمزية الجديدة من خلال تواصلهم الحالي على الشبكة، هل سيؤثر ذلك الاستخدام على ميولهم الذاتية ؟ لا اعلم !

أتذكر النكتة أو الحقيقة التي تقول أن داعش أمرت بعدم بيع الخيار مع الطماطم أو عدم جمعهما في صحن واحد لانهما ذكر وأنثى! فقد نلجأ نحن المعماريين الى وضع فواصل بين الوان قوس قزح وعدم جمعهم سوية لأنهم لو إجتمعوا سيكون الشيطان ثامنهم!








الجمعة، 3 يوليو 2015

جارلس كوريا، زهاء وعبد الكريم قاسم
تتراكم الأخبار والنصوص المتعلقة بالعمارة والتي نقرأها يومياً لتشكل أسئلة محيرة عن الماضي وحاضرنا والمستقبل:
-بتأريخ 26-6-2015 نقرأ للدكتور خالد السلطاني مقالة في جريدة المدى الالكترونية "في إستذكار جارلس كوريا"، يستذكر فيها المعمار والمنظر والمخطط والناشط المدني الهندي CHARLES CORREA، وذلك بعد وفاته في السادس عشر من الشهر نفسه.
يصفه بالقول " في جميع أعمال "جارلس كوريا"، هذا المعمار المهم لإقليم بومبي - أحمد آباد بالهند - يوجد ثمة تناغم وإنسجام بين نشاطه المهني ورؤياه الديمقراطية فقد ظل عازفاً عن دعوات كثيرة ومغرية، قانعاً بإيجاد حلول ملائمة لمشاكل تخطيط مدينة "بومبي" الصاخبة والمزدحمة. ولقد إستمر في هذا العمل المضني والمكلف لمدة عشر سنوات يعمل مجاناً. آملاً بأن تصاميمه سوف تقلل وتخفف من وطأة ظروف الحياة القاسية التي يعاني منها مواطني مدينة "بومبي" البسطاء."


-ثم نقرأ بتأريخ 27-6-2015 خبراً على حساب "إرث بغداد المعماري" عن تعاقد الأمانة العامة لمجلس النواب العراقي مع شركة زها حديد المحدودة آركتكتس (كما جاءت تسميتها في خطاب مجلس النواب لوزارة التخطيط العراقية)، لتقديم خدمة إعداد التصاميم المعمارية لبناية مجلس النواب العراقي (الصرح التأريخي) وبمبلغ 31,250,000  باوند استرليني، أي ما يقارب50,000,000 دولار أمريكي. والحقيقة أن الخبر منشور على الموقع الرسمي لمجلس النواب بتأريخ 15 أيار, 2014، علماً أن التصميم قد حصل على المرتبة الثالثة في المسابقة التي طرحت على مستوى عالمي عام 2011، وكان الفائز الأول فيها هو شركة اسيمبلاج اللندنية للهندسة المعمارية، وحصلت الشركة على جائزة المسابقة البالغة  250 الف دولار أمريكي.


وهنا يأتي السؤال: هل يحق لنا المقارنة بين الموضوعين؟
ما أعرفه حاليا أننا لا يحق لنا النقاش في خيارات كل مصمم منهما (كوريا وزهاء) لكل منهما الحق الكامل في إختيار أسلوب ممارسته للمهنة، أن يعمل لمدة عشرة سنوات مجاناً وبمشاريع تستهدف الحياة اليومية للمواطنين البسطاء، أم أن يصمم مشاريع بملايين الدولارات تستهدف فئات مجتمعية معينة أو فعاليات مجتمعية محددة. ولكني لا أعلم إن كانت زهاء حديد متابعة لأخبار العراق؟ هل تشاهد التقارير عن ظروف المعيشة اليومية والتحديات التي يواجهها عدد كبير من أفراد المجتمع من أجل الحصول على العيش الكريم المناسب فقط؟ هل هي مطلعة على طريقة إدارة موارد البلد الإقتصادية من قبل الجهات التشريعية والتنفيذية؟

ولكن السؤال الآخر: ماذا نطلب منها؟

من طرفها هي (زهاء) فقد أعلنت الدولة العراقية مسابقة عالمية رسمية، عملت هي وكادرها للمشاركة بها، ومحاولة تحقيق حلم إنجاز معلم معماري في بلدها الأم، يصفه موقع مجلس النواب بـأنه (سيكون صرحاً حضارياً ومعلماً تاريخياً)، وبعد إختيار مقترحها للتنفيذ طلبت المبلغ الذي يسد أجور المهندسين العاملين معها وكافة المتطلبات الأخرى. فالأمور بالنسبة لها طبيعية جداً!

وهنا أتساءل أي قضية أهم في سياق العمارة، أن ننجز صرحاً معمارياً يجتمع فيه ممثلي الشعب العراقي المنتخبين ؟ أم أن نوفر المبلغ لمشاريع تحسّن الحياة اليومية لمن إنتخبهم من أفراد المجتمع؟

أعتقد أن الإجابة الأغلب وخاصة منا نحن الحاضرين للمشهد العراقي، هي الخيار الثاني، الأهم هو راحة أفراد المجتمع.
ولكن ما رأيكم أن الواقع يدعونا للشك في خيارنا هذا؟

نفتخر غالباً بالانجازات المعمارية للحضارات الإنسانية السابقة، نفتخر بتلك التي نشترك معها جغرافياً ونعتبر أنفسنا إمتداد لها، ونحلل ونتقصى نتاجات الحضارات المبدعة الأخرى. ولكن ماهي نوعية تلك المنجزات في الثنائية (مباني الحكام- مباني الانسان...البسيط)؟
لنذهب الى وادي النيل ثم نعود الى الرافدين، يستعرض كتاب (علي مبارك مؤرخ ومهندس العمران) ضرورة تعرية مظاهر الظلم والقهر والعسف التي أنّ من تحتها الشعب المصري في العصور الماضية، فإهرامات مصر وآثارها الخالدة كآيات مجد وعظمة وبراهين تقدم وتحضر المصريين القدماء، كان من وراءها نظم سياسية وإجتماعية جائرة قد سخرت عامة الشعب وجمهور الناس في تشييد تلك الآثار" فنبتت الأزهار وسط الدِّمن! وقامت الروائع من بين المجازر! وتحول أنين المظلومين وعرق المسخرين الى شواهد خالدة على عظمة الإنسان."

ثم ينتقل الى حقبة أخرى، ويقول إن في القاهرة  والفسطاط وخلال 540 عاماً بنيت 8 جوامع، ليأتي بعدها العصر المملوكي  وخلال 363 عاماً من حكمهم بني 122 جامعاً!  يصف الحكام المماليك  بميزتين اثنتين: أولهما الظلم الشديد والعسف الذي ضربت به الأمثال، وثانيهما بناء أروع المساجد وأعظمها وتسخير الناس في بناءها دون أجور، ومصادرة الأملاك والأرزاق ووقفها على هذه المساجد ليصرف من ريعها المغتصب على قراءة القرآن والدعاء لهؤلاء المماليك.  

فالابنية الخالدة هي أبنية حكام غالباً، ولعل الأمر بديهي فالابنية العظيمة بحاجة الى موارد عظيمة وهي لا تتوفر الا للحكام و(بركبتهم)  كيفية الحصول عليها.

نستذكر هنا المباني التي ورثناها من النظام السابق، هي تلك القصور الرئاسية المنتشرة في مختلف المحافظات، والجوامع العملاقة التي لم تكتمل حتى، وعلى الرغم من أن العمل فيها لم يكن بالسخرة فقد كانت توفر فرص عمل جيدة لمختلف الإختصاصات، ولكن مواردها كانت من أضلاع الشعب، كنا نستمع لإشاعات إبدال بواخر الحنطة بالمرمر الإيطالي وغيرها الكثير.

وبنفس السياق الزمني للأخبار نصل ليوم 14 رمضان ذكرى مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963، ولعله من أكثر الحكام الذي عُرف بعدم إستغلاله للسلطة لمكاسب شخصية ومظاهر حُكم غير ضرورية، وهو يرتبط بحديثنا بطريقة مباشرة ... يحدثنا الشاعر كريم العراقي في روايته (الشاكرية) عن الرابطة بين عبد الكريم قاسم وعمارة الإنسان البسيط، ففي سطرها الأول يقول: "اليوم يوم تأريخي في حياة الشاكرية، حيث سيذاع على الأهالي -بعد قليل وبحضورهم- بيان إزالتها، لذا تجمع الآلاف ليحضروا وداع شاكريتهم.... 
قال خميس الصائغ: الزعيم هذه المرة خلانا في دماغه .. يمكن صحيح يعوضنا.
-لو عوضنا باراضي تمليك، لن ينساها له التأريخ.
-تقول الشائعات .. مع الاراضي سيعطينا مبلغاً للبناء.
-لا لا لا ... لو ذلك صحيح ليس على القمر فقط نرسم صورته، نرسمها حتى على النجوم.
-ودفعتنا موجة من البشر، وإعتلى المسؤول الحكومي الكبير المنصة، فخفت الضوضاء.
-بسم الله الرحمن الرحيم .. إخواني أهل الشاكرية، أحمل لكم بشرى سارة.
ولم تصبر الجماهير وهزجت: عاش عاش .. عاش الزعيم .. وتعيش الجمهورية.
-وضعت حكومتكم الوطنية حداً لمعاناتكم، وتخليصكم من هذه الصرائف العشوائية ومستنقعاتها وأمراضها.. فالصرائف لا تحميكم من حر ولا تقيكم من برد وقد ذقتم الويل من الفيضانات والحرائق.
إخواني خلف جسر القناة في الرصافة، سنعوضكم بقطة أرض لكل عائلة، بسند تمليك رسمي.
ودوت الجماهير عاصفة: ماكو زعيم الا كريم.
-إخواني أهل الشاكرية .. تعاونوا مع لجنة التعداد وسجلوا المعلومات الصحيحة، ولن ننسى أحداً. علينا الأرض وعليكم البناء.. وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته." إنتهى الاقتباس من الرواية وكانت بداية مدينة الثورة، مدينة الصدر حالياً.

ويُكمل النص الروائي نص مهني للمعمار معاذ الآلوسي في كتابه (نوستوس ... حكاية شارع في بغداد) فهو يخصص جزء كامل من الكتاب بعنوان (ضمن الدرب خارج الكرج) يتحدث فيه عن مدينة الثورة، لم يكن قرار قاسم يتضمن توزيع الأراضي فقط،  وإنما كانت هنالك خطة إعمارية شاملة هدفها توفير السكن اللائق لذوي الدخل المحدود والمتدني في كافة أنحاء القطر، وتمت دعوة مؤسسة دوكسيادس لوضع التصميم الاساسي لمدينة بغداد ومن ضمنها التخطيط الشبكي لمدينة الثورة. ثم يحدثنا الآلوسي عن الأحداث والفوضى التي تبعت هذه القرارات على الأرض وكيف أن الخمس او الست قطاعات التي كان مخطط لها تحولت الى ثمانين قطاعاً.
أما عن تصميم المساكن في المدينة الجديدة فكانت محضرة من قبل الأهالي أو من كتّاب عرائض لا علاقة لهم بالتخطيط، خرائط أمية بكل معنى الكلمة، مضحكة مبكية في بدائيتها والكلام للآلوسي، وأكثر من هذا أنها ليست حقيقية، والغرض منها آني لتمرير الطلب والحصول على قطعة الأرض ومن ثم جرى إستغلالها حسب ما يرتأيه صاحبها.
 بعد هذه الرحلة الإخبارية، نجد أن العمائر الخالدة هي عمائر لخدمة السلطة (السياسية، الدينية) أما العمائر الخاصة بالانسان البسيط فهي نادرة وإن وجدت فهي عديمة التخطيط والإكتمال والجدوى حتى.
أما عن الحاضر فنحن نعيشه يومياً ونعرف لمن الغلبة، نعرف نصيب الإنسان البسيط من الموارد والإهتمام، ولكن ... ماذا عن المستقبل؟
لا أعتقد أن المستقبل سيختلف لمن في السلطة، لن تختلف قراراته عن الماضي والحاضر...
 أما المهندس المعماري فهو أمام طريقين: أن يسير على خطى جارلس كوريا أو أن يقتدي بزهاء حديد وليس لأحد الحق أن يلومه على الطريق الذي يختاره لممارسته المهنة، ولأننا بشهر رمضان المبارك من برأيكم سيقال له الجملتين الشهيرين بحياته أو بعد وفاته؟
-رحم الله والديه والله خوش معماري.
-الف رحمة على روحه والله جان خوش معماري.