السبت، 27 مارس 2021

دار عارف آغا والجوادي، قصة تحديث البيت الشرقي

 

دار عارف آغا والجوادي

قصة تحديث البيت الشرقي 

يُعجبني تصميم دار هديْب الحاج حمود للمعمار الراحل رفعة الجادرجي.

أستطيع تبرير هذا الاعجاب الآن بالكثير من السِمات الجمالية والرمزية التي تجعله مختلفاً عن غيره. لكنني أتخيّل نفسي وأنا مستلقٍ على كرسي طبيب نفسي فيسألني: لما أنت مُعجب بهذه الدار دون غيرها؟

يتأثر الانسان بالصور الاولى، الإنطباع الاول، والصورة الذهنية التي تُرسم على ورقة بيضاء (بداية التعرّف على الحياة أو مجال جديد فيها) هي الأكثر ثباتاً بين الصور التي يرسمها العقل فوق تلك الصورة (يرسمها على ورقة مليئة بالمخططات).

من أوائل الكتب المعمارية التي إقتنيتها كان (Architekten Der Dritten Welt). كتاب باللغة الألمانية يتحدث عن معماريي العالم الثالث ونتاجاتهم بين التراث والتجديد. إنتخب مؤلفه (Udo Kultermann) محمد مكيّة، رفعة الجادرجي وراسم بدران لتمثيل عرب هذا العالم، وفي الجزء الخاص بالمعمار الراحل رفعة الجادرجي توجد صورة أنيقة بالابيض والاسود لواجهة دار هديْب وهي تشغل أكثر من نصف الصفحة رقم 88.

نعم أنا متأثر بتلك الصورة.

ترتبط الكثير من تفضيلاتنا وقراراتنا بأسباب وذكريات ذاتية بحتة، ثم نحاول بعدها أن نحشد ما نستطيع من مبررات لندّعي العلمية والموضوعية وإستخدام المنطق. لما كُل هذا الجُهد؟ الإنسان ثم المعمار لن يتجردا من الذات، وهذا ما يجب أن نعترف به دائماً. 

تواصلت علاقتي بالكُتب وبدار هديْب أيضاً، تعرّفت على المخطط الافقي للدار مع الاستاذ محمد رضا الجلبي في الجزء الثالث من موسوعة العمارة العراقية، وقرأت عن كَون (دار هديْب الحاج حمود.. رمزاً للانتماء) للدكتور خالد السلطاني، وفي معرض الكتاب الأخير ظهر أمامي على رفوف دار المدى كتاب (هديْب الحاج حمود، شيخ السياسة البيضاء)، لكنني تكاسلت عن شراءهِ لأفقده في زيارتي الثانية للمعرض، وأخيراً وصلت لإستنتاجي عن الدار (الذي دعاني للكتابة) وأنا أقرأ كتاب (مقام الجلوس في بيت عارف آغا) لمصممها المعمار رفعة الجادرجي.



يتغزّل الدكتور خالد السلطاني في مقاله (الذي لا غنى عن قراءته) بـ(فورم) الدار الاستثنائي وهو ما يعجبنا نحن أيضاً، فالجميع ينظر الى واجهة الدار ذات الاقواس الممتدة لتتحول الى أقبية (برميلية، إيقاعية، طابوقية). لكن قبل الـ(فورم) أو بعده يأتي المخطط الافقي الـ(فنكشن) بفضاءاتهِ وعلاقاتها البصرية والحركية.

أنا شُبه متأكد بأن الجادرجي بتصميمه كان متأثراً بتصميم دار محمود عارف آغا (جَد والدته). حيث يُخبرنا بنفسه عن علاقته الاولى بالدار بين آواخر عام 1933 لغاية منتصف 1937 أي بعمر (7-11)، ثم الفترة الثانية من تلك العلاقة عندما كان يتهيأ للسفر والدراسة بداية عام 1945 أي بعمر (19) سنة، حيث إستعمل الدار للراحة وتناول الغداء مع عمته، والفترة الثالثة بتصوير الدار وتوثيقه قبل أن يُهدم نهاية السبعينات من القرن الماضي.

تقع الدار فيما مضى على شارع الرشيد مقابل مقهى الزهاوي الآن، ومالكها محمود عارف آغا جاء الى بغداد من تركيا وكان قدومه مقترناً بوجود عمر باشا والي بغداد "إما بسبب كونه صديقاً له أو من أتباعهِ أو من أقاربه أو له علاقة بوالده". ثم أسس لعائلته موقعاً ووجاهة مرموقة بين العوائل البغدادية.

يصف الجادرجي في (مقام الجلوس...) العلاقات الاجتماعية والأتيكيت العثماني الصارم الذي يحكم تصرفات شخصيات الدار وعلاقاتهم ببعضهم. وبسبب المكانة الاقتصادية والاجتماعية للافندي (محمود عارف آغا) كان هنالك تصنيف لمستخدمي الدار(رجال عائلة الافندي، نساء عائلة الافندي، الحارس، الشغالة والطباخة وأخيراً الضيوف الغرباء)، ويتم تنظيم العلاقات بينهم (السيطرة عليها) بعنصرين من عناصر التصميم الفضائي، الاول هو (الحوش) أو الفناء الداخلي والثاني هو(المجاز) أي الممر.

لكل صنف من المستخدمين فضاءه المفتوح الخاص، فللرجال الديوه خانة (الفناء الاول) وللنساء الحرم (الفناء الثاني) وللطباخة المطبخ المفتوح (الفناء الثالث) وللغرباء الشارع. ثم يأتي دَور المجاوِز (جمع مجاز باللغة العربية)، وأنا أجمعها بالعامية (المجازات) والتي وظيفتها (الوصل والعزل).

تصل بين الشارع والفناء الرئيس الاول ولكن يسيطر الحارس بجلوسه في المجاز على الدخول والخروج. تصل بين الفناء الاول (الديوه خانة للرجال) والفناء الثاني (الحرم للنساء) لكن مع عدم السماح بالارتباط البصري بين الفنائين. تصل بين فناء الحرم وفناء المطبخ مع عدم السماح للروائح والدخان بالانتقال من الثاني الى الأول.


منظومة إجتماعية ومعمارية متماسكة يصفها الجادرجي بالتفصيل في كتابه، لكننا يجب أن نميّز أنها منظومة عِلْيَة القوم. ليس منظومة العوائل البغدادية متوسطة أو فقيرة الحال التي كانت منازلهم تتألف من فناء واحد ومجاز واحد ولا يملكون حارساً أو شغالة ولا طباخة.

عند دراسة مخطط دار هديْب نرى أن الجادرجي حاول تطبيق تلك المنظومة إنطلاقاً من المماثلة بين مكانة محمود عارف آغا وهديْب الحاج حمود الذي هو (سياسي وزعيم قبلي) كما تصفه وكيبيديا.

واجه الجادرجي في تطبيقهِ قضيتين، الاولى تفكك النسيج الحضري الجديد مقابل تَضام النسيج الحضري التقليدي، والثانية أن يتحرك مستخدمو الدار ضمن فضاءات مغلقة (Indoor) باستمرار، وليس الإنتقال بين الفضاءات المغلقة (Indoor) والمفتوحة (Outdoor) كما في دار عارف آغا.

ونتيجة لمعالجة تلك القضيتين فقد تعددت الفناءات والمجازات الرابطة بين فضاءات الدار، لكن لا يزال باستطاعتنا تمييز تلك المنظومة، فالجادرجي قام بتجميع الفضاءات ضمن أربع مجاميع، فضاءات إستقبال الضيوف، فضاءات نوم العائلة، فضاءات السائق والشغالة، وفضاء يجمع بين العائلة والمستخدمين (الشغالة والطباخة). ثم يربط بينهم بممرات (مجازات) واصلة فاصلة وتبقى الفناءات الوسطية المتعددة فضاءات بصرية وبيئية لكن ليست حركية.

حتى فضاءات الإستقبال والمكتبة (في مقدمة الدار) فقد زودها الجادرجي بمجازات شكلية (أقبية أبواب الدخول)، تقوم بعمل مجاز الدخول من الزقاق المتفرع من شارع الرشيد الى فضاء الديوه خانة في دار عارف آغا.



المجاز الشكلي

(قد) أكون أنا (بلال) محظوظاً بزيارتي وقضائي عدّة ليالٍ في بيت تقليدي (شرقي) ذو فناء وسطي وهو بيت جدّة والدتي الذي لا يزال قائماً وبحالة جيدة بعد عدّة جولات ترميم وإغلاق الحوش من الاعلى وردم السرداب الممتد على طول الواجهة. لكنه لا يحتل مكانة مميزة في ذكريات طفولتي او صورته الذهنية محفورة في لاوعيي فتظهر آثارها في تصاميمي الحالية والمستقبلية.

ثم يأتي بعدي من المعماريين الشباب وطلاب العمارة ممن لم يحضروا البيت الشرقي المفتوح ولا يمثل لهم أي قيمة عاطفية أو معمارية سوى قيمته الاكاديمية في المواد الدراسية المختصة بتاريخ العمارة والعمارة المحلية وعلاقتها بالبيئة.

إحدى تلك المواد هي (العمارة والبيئة) التي دَرَستها أكثر من مرّة لنيل شهاداتي الثلاث على يد الراحل المرحوم الدكتور مقداد الجوادي،  كان الدكتور مختصاً ومهتماً بتحقيق الراحة الحرارية في المباني، وهو من مواليد عام 1942 أي يصغر الجادرجي بـ16 عاماً فقط، لذا أنا أفترض أنه قد سكن بداية حياته أيضاً في بيت شرقي وإرتبط به. ومن هنا فقد حاول الدكتور تحديث تصميمه ولكن برؤية تميل لقضايا البيئة أكثر من القضايا الاخرى التي إهتم بها الجادرجي.

جاءت محاولة التحديث عندما صمم الدكتور الجوادي داره الواقع في منطقة الوزيرية، ثم وثّق ذلك التصميم ومن ثم إستخدام الدار في بحوثه المتعددة ومنها بحثه الموسوم (طريقة جديدة لتوظيف وسائل التهوية والتبريد التراثية في الابنية الحديثة). إهتم البحث بالجوانب التي كان المعماريون القدامى يتبعونها لتنقية وتهوية وتبريد المباني والدور خاصة من أجل السيطرة على قساوة البيئة في منطقتنا، ومن ثم كيف يمكن توظيف هذه الجوانب في التصاميم الحديثة وبما يتلائم مع طبيعة الحياة العصرية. وكما إنتخب الجادرجي الحوش والمجاز لتحقيق أهدافه التصميمية، فقد إنتخب دكتور مقداد البادكَير (الملقف) والحوش لتحقيق أهدافه البيئية (بعد أن استغنى عن السرداب الذي يمثل عنصراً أساسياً في المنظومة البيئية التقليدية).

واجهة دار الدكتور مقداد الجوادي

حاول الدكتور تحقيق أعمدة هوائية موجبة (ذات ضغط عالي) والتي تتمثل بالمناور في البيت الحديث وتقابل البادكَير (الملقف) في البيت الشرقي (برفع جدران المنور المقابلة للرياح السائدة)، وتحقيق عمود هوائي سالب (ذو ضغط واطئ) والذي يتمثل بالفناء الداخلي (بعدم إحاطته بستارة طابوقية) والذي يقابل الحوش في البيت الشرقي مع فرق تغليف ذلك الفناء والفصل بينه كفضاء خارجي (Outdoor) وبين الفضاءات الداخلية (Indoor) كما فعل الجادرجي قبله.

وبعد فتح شبابيك الغرف المطلة على المناور والشبابيك المطلة على الفناء الوسطي تبدأ حركة الهواء من الضغط العالي الى الواطئ وتخلق تيار هوائي بارد وطبيعي في الفضاءات الداخلية للبيت.

حركة الهواء بين الملاقف والفناء في دار الدكتور مقداد الجوادي

نعلم أن هذه الطريقة لا تُغني عن أجهزة التبريد طوال فصل الصيف، ولكن يمكن استخدامها في بداياته ونهاياته، ومن ثم الإعتماد على المكيفات في ذروته القاتلة. وكذلك كان الحال في البيت الشرقي فبالاضافة للبادكَير والسرداب والحوش كانوا يستخدمون شبكات من الخوص تملئ بالعاكَول وترش بالماء وتوضع على فتحتات الشبابيك لتمثل النموذج الاول لمبردة الهواء الحالية.

هنا سأحاول إستخدام المنطق!

لكل مدينة طوبوغرافيتها ومناخها وطبيعة سكانها، وهذه المميزات ليست مستجدّة تماماً وإنما مستمرة منذ تأسيس أي مدينة مع تغيّرات تدريجيّة متواصلة. وخلال سنوات طويلة يحاول معمار المدينة أن يصمم مباني تتفاعل مع تلك المميزات لتحقيق مباني مريحة بصرياً وحركياً وحرارياً. يُجرّب فيخطئ وينجح فيكرر العمل الناجح (الملائم) ثم يطوّر هو أو من يأتي خلفهُ العمل الناجح حسب مستجدات معينة وتستمر حركة النتاج المعماري. فهل نستغني عن كل تلك التجارب المتجذّرة في تاريخ المدينة ونبدأ تجاربنا من نقطة البداية؟

نحن بحاجة لدراسة عمارة الماضي وإنتخاب مواضع نجاحها والعمل على تطويرها كما فعل الجادرجي والجوادي وغيرهم الكثير بالتأكيد لم تأتي المناسبة لذكرهم. (نصيحة مستهلكة جداً لكن لابد منها)

أستطيع أن أختم هذه القصة بمطالبة الجهات المختصة بترميم دار هديْب الحاج حمود وجعلها متحفاً لما تركه مالكها ومصممها وأن تنظم الأقسام المعمارية زيارات لدار الدكتور مقداد الجوادي، ولكنني لن أفعل ذلك. لقد فعلت أصلاً!

ستكون تلك المطالبات هواء في شبك، وتحقيقها خارج صلاحياتنا الشخصية، لذا الأكثر منطقية مُطالبة المعماريين الشباب بزيارة ودراسة البيت الشرقي (البغدادي وغيره)، ومن ثم البناء على منجزاته التي حققها السابقين لتحقيق دور معاصرة مريحة لساكني مدينتنا المسكينة. مريحة حرارياً بالدرجة الاولى بما نواجهه الآن وسنواجهه في المستقبل من ارتفاع شديد في درجات الحرارة وعدم وجود حلول مقنعة لتوفير طاقة كهربائية مستمرة.

أعلم أننا نواجه العديد من التحديات ومنها قلّة الايمان بالمعرفة التقليدية وضيق المساحات بعد حُمى تقسيم دور المدينة. لكننا نستطيع مع كل ذلك دراسة البيت الشرقي وتوظيف نجاحاته ضمنياً في تصاميمنا.

سأخالف قناعتي بعدم مطالبة أي مؤسسة بعمل شئ وسأطالب بإقامة مسابقة معمارية لتصميم دار سكني بابعاد 5×20 على أن يكون التصميم مستوحى من البيت الشرقي التقليدي. وتقوم تلك المؤسسة الافتراضية بتنفيذ ذلك الدار وجعله (قبلة) للراغبين بزيارته لتجربته ثم نسخ مخططاته.

تسكُن قريبتنا المُسنة في بيت شرقي ذو فناء وسطي مفتوح للسماء وعندما يطلُب منها إبنها مرافقته الى بيته للعناية بها بعد أن إشتد مرضها ترفض قاطعة وتقول له:

"إنتوا بيتكم ما بي الله"!