الأحد، 27 ديسمبر 2015

سر الشارع

أعاد الكتاب للفراغ الذي تركه بين إخوته، لم يكفيه، ضغطهم يميناَ وشمالاَ وكرر المحاولة، مرر يده ليتأكد من تساوي الحافات، دفع كتاب آخر الى الوراء قليلاً وعينه تنوي إختيار الرف اللاحق، رفع رأسه ... فسمع الصوت وأحس بالألم ... شديداً أحال العالم الى ظلام ...
فتح عينيه جالساً على حافة سطح العمارة ... أمامه دخان، أسود، أبيض، رمادي. أدار وجهه ... كان السطح مليئاً بقطع الطابوق وأجزاء حديدية غريبة التشكيل.
 لم يفهم ...
أحس هذه المرة باللاحدود ... براحة مجهولة، يحرك يده اليسار منذ مدة ولم يصطدم إطار الساعة بعظام رسخه. أخذ يحرك رجليه في الهواء، ينتظر إنحسار الدخان.
أبواب وشبابيك محطمة، أقواس وأعمدة مشوهة، أجساد أصدقاءه تملئ الشارع المتفحم الذي تركته النار أخيراً لتتفرغ للمكتبات.
 خمسة أيام لم يبارح مكانه، يشاهد النار تلتهم الكتب، تحولها الى ذرات ترتفع الى الأعلى. ما إن تخرج من بين الجدران الى فضاء الشارع، حتى تبدأ تلك الذرات بالتقارب. طبقات من الغيوم الجزيئية المتراكمة تتداخل في صعودها المستمر. وما إن تصل الجزيئات الجديدة الى الـ(التيغة) التي يجلس عليها، حتى تبدأ بإكتساب البريق!
متلونة ... جذابة ... مد يده لتستقر عليها فأحس بتأثيرها السحري. جرعة أخرى من اللاحدود والفرح ...
لم تتضرر قناني البيبسي كولا الزجاجية قرب باب السطح، أخذ يملئها بتلك الجزيئات المتطايرة ويغلقها بأكياس نايلونية، ثم يعيدها الى الصندوق البلاستيكي الأزرق.
بعد أن أكمل المهمة التي كلف نفسه بها، جلس ينظر الى الشارع ... ليل، نهار، عمال نظافة، عمال بناء، جنود، بائعون، متسولون وقطط.
وأخيراً شاهد تلك العيون المألوفة تعود الى الشارع مرة أخرى، تتأمل ما حل بعمارات الشارع ومكتباته ... حزينة .. تشعر بالحنين.
إحتاج الأمر لسنوات حتى عاد الشارع الى حالته الأولى ...
أخذ ينتظر صباح الجمعة بلهفة، ينزل فجراً ليجلس في مكانه المعتاد على نفس الـ(التيغة) بعد أن تم إصلاحها، يتفرج على عيونه المفضلة، أصدقاءه الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، يبحثون عما يساعدهم على تحطيم القيود، ليست مطارق ولا كماشات، كلمات ترتبط مع بعضها البعض لتنتج ما يكسر تلك القيود السائدة خارج الشارع.

في كل جمعة يأخذ إحدى القناني الزجاجية، ينتقل من سطح الى سطح وهو ينثر فوق رؤوس المارة ما تحتويه من الجزيئات السحرية، سحرها ناتج عن تجارب ملايين العقول تفاعلت بدرجات الحرارة العالية وإختلطت بجزيئات الورق وتراب بغداد وماء دجلة.
تلامس الجزيئات البشرة أو تسقط في أقداح العصير وقدور اللبلبي و(إستكانات) الشاي، فيبدأ السحر مفعوله. تتسع العيون، تبتسم الشفاه، وتتباطأ الخطى. وهي علامات لما يحصل حقاً داخل العقول والقلوب.

من بقايا اليوم، يجمع جزيئات جديدة ليضيف إليها من جزيئاته السابقة وينتظر حرارة الصيف لتكتمل التركيبة. يُبقي الصندوق بين أنقاض السطح، لا يخاف عليه كثيراً، فأغلب الناس هنا يبحثون عن الكتب فقط، أما الآخرين فلن يبذلوا جهداً للبحث عنه، يريدونه جاهزاً على رفوف الصيدليات والأسواق، يكتب عليه بخط واضح وجذاب: عقار سعادة الحرية.  








الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

الراية كعنصر تصميمي

في أوقات معينة ولا أعرف بماذا تتشابه، تتردد في ذهني وبقوة كلمة ( آيرين)!

 آيرين هي كلمة السر لبدأ ساعة الصفر للعملية العسكرية في الفلم الأمريكي (black hawk down). وفي كل الأوقات الأخرى الباقية لم تتردد أو حتى أتذكرها بوضوح كلمات سر الليل التي كان يجب علي أن أحفظها عندما (لزمت الواجب) على بوابة مشجب السلاح في معسكر جيش القدس.
بعد نجاحنا من السادس الإعدادي صرح مدير المدرسة المحترم بأنه لن يتم قبولنا في الجامعات إذا لم نتدرب في تشكيلات جيش القدس!
شهران من الذهاب الى كراج النقل فجراً ولبس الخاكي وحمل الكلاشنكوف، ساحة العرضات والقصعة وباب النظام ونعم سيدي.
بالتأكيد هي تجربة لا تستحق الذكر أبداً مقابل تجارب آبائنا والأخوال والأعمام، ولكنها كافية للتفكير وإعادة التفكير بمفهوم (الحرية). أن تُسحب من ممارسة حياتك الشخصية وفي العطلة الصيفية السابقة لدخول الجامعة لتوضع في معسكر تغلق أبوابه بإحكام، والهدف ... تحرير القدس! وكيف سنصل الى القدس؟
هل من الضروري أن نفقد الحرية حتى نعيد التفكير في مفهومها وكيفية ممارستها؟ لا أعلم .. هنالك من يصرح أن التجنيد الإلزامي كان السبب في إنتاج رجال أكثر نضجاً وحكمة من الأجيال الحالية.

وعن الحرية أيضاً لا أستطيع نسيان Mel Gibson وهو يصرخ freedom  قبل أن يُعدم في الفلم الأمريكي brave heart، كنت في المرحلة المتوسطة عندما شاهدته أول مرة، وعندما أعدت المقطع قبل أيام (دمعت عيني)، أتذكر في تلك الأيام كان هنالك نوع (جكاير) يحمل إسم freedom  أيضاً وكان صديقي يقول أن ميل كبسون كان (متوازي على جكارة قبل ميموت)!


 وبعد صفنة نجد أن أغلب ذكرياتنا، أحلامنا وأمنياتنا صناعة أمريكية ...

والسبب هو الجهود العظيمة التي بذلوها للتعرف على الإنسان، هذا الكائن العجيب، ومن ثم مخاطبة عقله بما يحب ويهوى ... يستطيع الفلم الأمريكي أو المسلسل الجيد أن يجعلك (تلطش) أمام الشاشة، والفضل للفاصل الإعلاني لتقضية متطلبات حياتنا الضرورية.

في منطقتي التي تمتاز بفسحة مناسبة للحريات، أتمشى في فروعها ببطئ أراقب البيوت المبنية حديثاً ومراحلها، البيوت القديمة ومحاولات إعمارها، البيوت التي تفصل عن بعضها والبناء العمودي الحالي المخالف للقوانين. راقبت في الفترة السابقة الرايات (الأعلام) التي يثبتها أصحاب البيوت على واجهاتها وسطوحها، للتعبير عن قضية عقائدية يؤمنون بها، ولمختصي علم الإجتماع الدور الأهم في دراسة تفاصيل هذه الظاهرة، والحديث هنا فقط عن الراية والمسكن، لأن المسكن هو المجال الأوضح لممارسة الحرية الفردية فيه. أما الظاهرة في مؤسسات الدولة وشوارع المدينة يدخلنا في أحاديث أخرى.








ما يمس إختصاصنا (العمارة) هو موقع الراية من واجهة المنزل لتشكل عنصراً جمالياً علاوة على كونها عنصر رمزي يعبر عن الساكنين، وبعد (الفرة) الأخيرة في المنطقة وعطفاً على خلفيتنا الأمريكية، تذكرت البيوت الأمريكية وهي ترفع العلم الأمريكي على واجهاتها.
هل من الممكن للمعماري وهو يصمم منزلاً جديداً أن يأخذ رغبة صاحب البيت برفع راية تعبر عنه بنظر الإعتبار؟ أن يضعها في مكان مخصص لها تحديداً، لتصبح جزءاً من تكوين الواجهة بدلاً من إضافتها بطريقة غير مناسبة.
وما هو الموضع المناسب للراية على واجهة المسكن وأي معايير يجب أن يعتمدها المصمم؟ فكرت أن أذهب الى مرجعنا الأمريكي وكيف يتعاملون هم مع رايتهم.



وأتضح أن لهم أتيكيتاً في التعامل معها ...
 فالعلم يجب أن يرفع من شروق الشمس وحتى غروبها فقط، وعند وجود ضرورة لرفعه ليلاً فيجب أن يكون مناراً بطريقة مناسبة.
يجب أن لا يرفع في الجو العاصف السيء.
يجب أن لا يلامس العلم أي شي تحته، الأرض، الماء، أو أي عناصر أخرى.
يجب أن ينظف العلم دائماً ويصلّح إذا تمزق.

ومما سبق نستطيع أن نضع مواصفات عامة لموقع الراية ضمن تكوين واجهة المنزل، ولعل الأهم هو أن تكون بمتناول اليد، فهي بما ترمز اليه يجب أن تحترم .. وكما مر سابقاً فهي يجب تنزّل في الطقس السئ وأن تنظّف وتصلّح دائماً وأن تكون منارة ليلاً. لذا فإن التعامل المستمر معها يجعل وضعها في مكان صعب الوصول اليومي غير مرغوب أبداً، علاوة على أنها يجب أن تكون مستقلة، وفي موضع بارز فلا تمس شيئاً تحتها.

والمعماري هو مُصلح جمالي لمظاهر المجتمع، وإذا كان من الصعب عليه تعديل المباني السابقة فعليه مسؤولية تنظيم البناء المعاصر والمستقبلي، وأعتقد أن موضوع تصميم المسكن متوفر لعدد كبير من المعماريين الشباب، وهنا يبرز دورهم في قضية التنظيم الجمالي لرفع الراية بمختلف القضايا التي ترمز اليها.









الجمعة، 20 نوفمبر 2015

الوطن في آفاق جاله مخزومي

سمعنا كثيراً عن ضرورة الإستفادة من تجارب الآخرين، وفي الطرف الآخر نستمع لخوسيه موسيكا، الملقب بـ(أفقر رئيس في العالم) يقول:

يقولون لي، لا بل يصرخون وكأنه مبدأ: أن على المرء أن يتذكر، كي لا يعيد تكرار الماضي.
أعرفه، الكائن البشري!
هو الحيوان الوحيد الذي يتعثر عشرين مرة على الحصاة ذاتها!
كل جيل يتعلم من تجاربه، لا من تجارب الأخرين.
ماذا يمكن أن نجني من تجارب الآخرين؟ يتعلم المرء من الأمور التي إجتازها ...

ولكي لا أناقض نفسي في نص سابق بفصل قوله هذا عن سياق حديثه الكلي، فمن الضروري الإشارة، أنه كان يتحدث عن عدم جدوى تغذية الضغينة الماضية، لأن الآلام التي نعيشها لن يعوضها أحد، ويجب أن نتعلم كيف نحمل جراحنا ونمضي بإتجاه المستقبل، وأن ننساها حتى ... فالمهم هو الغد.


بعد لقائي به بثواني فقط، قلت: صدك بيروت تطبع!
لم ألتقِ بموسيكا ولكنني إلتقيت بكتاب أو (منشورة (كما تسميه الدكتورة جاله ...
آفاق ... يجمع بين العمارة، الفن والأدب ... وتقدم له الدكتورة بكونه "يحكي قصة بثلاثة أصوات، الصوت الأول مقتطفات من حياتي اليومية في الجامعة وبيروت، يمتد زماناً من كانون الثاني وحتى حزيران من سنة 2007. الثاني قراءتي للجنوب (جنوب لبنان) أثناء ستة الأشهر التي سبقتها. والصوت الثالث هو الرسوم، لوحات شقة 101 (رقم الشقة المطلة على البحر في سكن الحرم الجامعي) للأشهر الستة الأولى من سنة 2007. الأصوات تداخلت، لا شئ يربطها سوى أنها وسيلة لقراءة حاضر مفروض، وكونها وسطاً للتأمل في حياة أقتطعت، أفتقدها بكل كياني، أعيشها بالأحلام".




وهذه الأيام لا تكتمل قراءة كتاب من دون (البحوشة) على الشبكة، ماذا قال عنه النقاد؟ هل يقترب رأيهم من تجربتنا في قراءته؟
ولهدف آخر، التعرف أكثر على الكاتب نفسه، ماهي التجارب التي مر بها لينتج هذا النص هذه الرسوم؟ لم يعد هنالك فرصة (لموت المؤلف)، فهو موجود في كل مكان (غالباً)، عن طريق صفحاته الشخصية أو ما كُتب عنه.
وعن الدكتورة جاله مخزومي وجدت حواراً لها من ريكاردو كرم ... 57 دقيقة من السيرة الذاتية، العمارة، الإجتماع، التأريخ والأهم ... الوطن.
ومع وجود الحوار فليس هنالك ضرورة للحديث عنه .
والسؤال .. هل نقرر الإستفادة من تجربة دكتورة جاله أم نعتمد على مايقوله خوسيه موسيكا؟
 لا أعلم ... نتيجة تبدل المعطيات قد تكون مقوله موسيكا صحيحة ... وقد تكون المعطيات السابقة لا تقل صعوبة عن اليوم لذا فنحن نعيش نفس الصراع السابق ولكن بصور جديدة ...

أتمنى أن نستمع للتجربة ونجيب عن السؤال بما يحلوا لنا، لأننا نعيش عصر التعدد.


وأخيرا،ً هل يختلف وطننا عن بقية الاوطان ؟
تتحدث دكتورة جاله عن جنوب لبنان: (أطفال، شباب، نساء، شيوخ، إستشهدوا في مبنى واحد، قبورهم صفّت بنظام عقلاني محاولة لفهم ما لا يعقل).


أما في وطننا فحتى الموتى لا نمنحهم فرصة الفهم

















الجمعة، 13 نوفمبر 2015

سيلفي مع لو كوربوزيه

أتخيل تلك الرواية ... وهي تتحدث عن الزبون الأخير للو كوربوزيه عام 1965
الزبون الذي (لّعب نفسه) وجعله (يكره الدنيا) وزينتها، لذا قرر أن يثأر لجميع معماريي العالم من الزبائن المزعجين عن طريق لعنة شرقية تعلمها من خلال رحلاته الى الهند. ولكنها كانت تتطلب أن يضحي بنفسه لكي تتفعّل!
أكمل كافة مراسيم اللعنة وخلع ملابسه ودخل البحر.
كانت الخطوات الأولى مألوفة خاصة وهو يحب السباحة وممارس لها، حتى أنه يمتلك ندبة كبيرة على فخذه نتيجة لإرتطامه بمروحة قارب مر بقربه. ولكن ما إن وصل الماء الى فمه، الى أنفه حتى بدأ جسمه يمارس حركات النجاة اللاإرادية، وكان سبيله الوحيد لإيقافها هو التركيز على إستذكار جميع الزبائن المزعجين الذين قابلهم في حياته، وقبل شهيقه الأخير، أمال رأسه الى الخلف إرتفع فمه قليلاً فوق سطح الماء وقال: الله يشلع كَلوبهم مثل مشلعوا كَلبي!
ومن ذاك الوكت بعد مصار براسنا خير...



تأجلت زيارة صالة الألعاب الرياضية في بغداد ثلاث مرات بسبب سقوط  الأمطار، وكأنها آثار تلك اللعنة، أو أن لو كوربوزيه أراد أن لا نذهب لها إلا سباحة أو بواسطة الزوارق كما كان يحب أن يقضي إجازاته.


هي زيارتي الأولى لها، زيارة ممتعة وغير مسبوقة بصفتها، فقد خطط الدكتور عماد عبد الحميد والدكتور مصطفى كامل لإجتماع الطلبة من ثلاث جامعات (الجامعة التكنولوجية، أوروك والفارابي)، أما ما ينقصها فهو الوقت والتفاعل الإجتماعي بين الطلبة للإستفادة من فكرة الإجتماع في التقارب بين المدارس المعمارية في بغداد بدلاً عن الغناء كلٌ على ليلاه.




والكتابة عن تلك التجربة تستدعي الإضافة، قول ما لم يقال سابقاً، لذا لن أكتب عن تأريخ المصمم، عن إنجاز الإتـفاق مع معمار عالمي ليصمم في مدينة بغداد، ولا عن الصفات التصميمية للقاعة.
لن أكتب عن حالتها (المزرية) الحالية، لأن حالها من حال كل تفاصيل حياتنا الآخرى...
ولكني سأكتب عن الحمى التي أصابتنا عندما وصلنا للمشروع، (حمى التصوير) والتسمية الأكثر دقة (حمى السيلفي).

يتناول الناس ظاهرة السيلفي وكما هو الحال في كل الظواهر الحياتية من الجانب السلبي والإيجابي، وليس صحي أبداً أن ننظر لأي ظاهرة من جانب واحد، الجانب الإيجابي للسيلفي هو توثيق اللحظة، لحظة الحضور في مكان معين في زمن معين مع شخص أو أشخاص معينين.
أما الجانب السلبي فقد وصل حتى القول بأن من يكثر من صور السيلفي مصاب بمشاكل نفسية عويصة!

وفي زيارة معلم معماري مهم مثل الصالة الرياضية، من المفترض أن تتجه أغلب العدسات لعناصر المعلم وتفاصيله المعمارية والإنشائية كون الغرض من الزيارة هو رؤية تلك التفاصيل على الواقع وهو ما يختلف بصورة كبيرة عن الصور التي نشاهدها على الشاشة أو الكتب المطبوعة، وتأتي الصورة كتذكير وتوثيق لتلك التفاصيل بما يسند الرؤية الواقعية. ولكن ما حصل فعلياً هو أن أغلب العدسات وجهناها لأنفسنا، وحتى مع وقوفنا أمام تلك العناصر والتفاصيل فأن التركيز في الصورة على الأشخاص أكثر من العمارة.

يمكن القول أن لذلك سبب عراقي (قلة أو إنعدام الحضور في معالم عامة مميزة).
 لذا فإن الزيارة الأولى تدفع الطالب الى أخذ أكبر عدد ممكن من الصور لأنها قد تكون المرة الأولى والأخيرة، وهو عندما يضعها على مواقع التواصل تجذب بقوة إهتمام الطلبة الأخرين لأنه حدث صعب الحصول بالنسبة لهم.
وبتكرار الزيارات لنفس المعلم أنا متأكد أن عدد الصور الشخصية الملتقطة سيقل تدريجياً ولكن القضية هي أننا لن نزوره مرة أخرى فنركز فيها بصورنا على المعلم وليس على أنفسنا.

السؤال الأهم هنا: هل من الممكن الإستفادة من ظاهرة السيلفي إيجابياً؟ معمارياً؟

يجب أن نبحث عن طرق جديدة، وهذا هو الحال مع كل الظواهر العالمية التي نلتقطها ونبدأ بإستخدامها سلبياً، يجب أن نفكر بتوظيفها لفائدتنا العلمية والإجتماعية.

لنتخيل نوعين من السيناريوهات وأيهم أكثر كفاءة للتنفيذ:
ففي الزيارة القادمة لمعلم معماري آخر في مدينة بغداد سيقول الأساتذة في السيناريو الأول:
صور السيلفي ممنوعة، الي راح نشوفة ياخذ صورة سيلفي لنفسة أو وية أصدقاءة (مدري شراح نسويلة)، لازم تاخذون صور بس للبناية وتفاصيلهة، شنو قابل متشبعون من الصور 24 ساعة !
 ولنتخيل ردود أفعال الطلبة وأصدقائهم ورواد مواقع التواصل عند سماعهم لهذه التعليمات القاسية:
هذولة شبيهم الأساتذة غير معقدين! قابل شراح تضر صور السيلفي؟ شوف العالم وين وصلوا وإحنة نمنع هاي الأشياء البسيطة!

أما في السيناريو الثاني فستكون تعليمات الأساتذة هي:
-إخذ صورة سيلفي يم عنصر أو تفصيل معماري وأكتب تقرير عن سبب إختيارك لهذا العنصر كأهم أو أجمل عنصر في المشروع.
-إخذ ثلاث صور سيلفي وقارن بين العناصر الموجودة في خلفية كل صورة من الصور.
-إخذ صورة سليفي وية عنصر يعبر عن أهم فعالية وظيفية في المشروع وصورة وية عنصر يعبر عن الناحية الإنشائية للمشروع وصورة وية أكثر عنصر جمالي بالمشروع.
-إخذ صورة سيلفي مع الاصدقاء وقدموا تقرير جماعي عن وجهة نظر كل طالب بكفاءة التفصيل المعماري في خلفية الصورة.

ولنتخيل مرة أخرى ردود أفعال الآخرين عند سماعهم لتلك التعليمات:

والله عمي إنتوا المعماري متونسين، هم سفرات وهم سيلفيات وبعدين تاخذون عليهة درجات...











الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

البغبغة

لقد تم تسميتي بطريقة غريبة ...
تروي لي جدتي أنهم إحتاروا في تسميتي وقتها، فإختاروا 3 أسماء وكتبوها على أوراق صغيرة ووضعوها في كيس، وكما في رئاسة الجلسة الأولى لمجلس النواب، إقترحوا على جدة والدتي لأنها أكبرهم سناً أن تسحب ورقة!
لا أعرف لماذا تم إعادة السحب 3 مرات ولكن في كل مرة تحمل الورقة إسم بلال.
قد ينقص الرواية الكثير من التفاصيل وهو حال أي قضية تأريخية نتصارع عليها حالياً، أتذكر دائماً صديقي (عامر بشير)، عندما يكون شاهداً على تحوير في نقل حادثة أو تغيير عند نقل كلام شخص، يقول متعجباً: لعد التأريخ شكد بي جذب؟!
وبالعودة الى قضية إسمي ... فأنا ممتن جداً لجدة والدتي ولشخصيات عربية أخرى.
مصطفى العقاد رحمه الله، جاهد لصناعة فلم الرسالة، وفي كل مرة كان يعرض على الشاشة كنت أزداد قوة، لا أقول أنها قوة في الوعي، ولكنها كانت تزرع في اللاوعي. قوة مستمدة من صمود بلال أسفل الصخرة، قتاله في المعركة ورفعه للأذان في المدينة. ويجب أن يستمر الإمتنان للممثل الليبي علي أحمد سالم لمشاركته في صناعة تلك الصورة المميزة.
سامي قفطان رحمه الله حياً، وقبله من إختار إسم شخصية (مقدم بلال) في مسلسل ذئاب الليل بجزءه الأول، لقد جعلني دائماً العب دور الشرطي عندما إنتشرت لعبة الشرطة والحرامية بسبب المسلسل في الصف الرابع الإبتدائي (طبعاً شرطي نص ردن)، لأنني الأقل حجماً بين طلبة الصف.
وبسبب الإسم أيضاً إنجذبت أول مرة للشخصية المصرية (بلال فضل)، يُعرّف نفسه بـ( كاتب على باب الله). كتب سيناريوهات أشهر الافلام المصرية المعاصرة ونقرأ له مقالاً يومياً على العربي الجديد. والأهم بالنسبة لي برنامجه الإسبوعي (عصير الكتب).
في لقاء له وقبل بث أول حلقة من البرنامج يستخدم بلال مفردة جميلة: (نبغبغ) من (البغبغة) للببغاء.
 واليوم أعتقد أن أعظم ما نعانيه هو البغبغة ... نقل ما نسمعه بدون تفكير، كما تفعل الببغاء بالضبط. وهي بغبغة في أحاديثنا في العالم الواقعي، والبغبغة على مواقع التواصل الإجتماعي.
بعد يوم المطرة إنقطع (الفيز البارد) في بيتنا، وعندما كان الكهربائي يعمل على إصلاح المشكلة، نقل لي ما مر به عندما اتصلوا به عمال دائرة الكهرباء ليحل لهم مشكلة في كهرباء بيت شخص مسؤول في الدولة، قال لهم هذا المسؤول إنهم لن يغادروا بيته ما لم يصلحوا العطل! ولأنهم مختصين بالتوصيل الخارجي فقط والمشكلة داخلية طلبوا مساعدة صديقنا الكهربائي، وعندما وصل للبيت تعرض لنفس التهديد! لن تغادر ما لم تصلح العطل. يقول الكهربائي إنه أجاب المسؤول بقوة، سوف يعمل على إصلاح العطل ولكنه يستطيع المغادرة متى يشاء، وبعد هذا الرد والقيل والقال، قال له المسؤول إنه رأه سابقاً في مكان ما، في إحدى وزارات الدولة في النظام السابق وبالنص قال له: إنت صدامي !
عندما تمعنت بعد أيام في نموذج الشهادة الجدارية لخريجي الجامعة وهي تتضمن نجمة ثمانية تحتوي شعار الجامعة، بغبغت مباشرتاً : هاي النجمة صدامية !
 فالقضية هي أولاً صراع بين العقل الباطن اللاواعي والعقل الواعي، عقلنا اللاواعي (مليان) بأفكار ولفظات متنوعة نتيجة للمعصرة التي نعيش فيها، وما إن نفقد السيطرة عليه قد نبدأ بالبغبغة أو لا نبدأ لإنه يتضمن من الإيجابيات أيضاً وهو ما يشير اليه الدكتور على الوردي.
وثانياً ترتبط القضية بالحديث النبوي الشريف: كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
لذا أعتقد أن الفرضية (صفر) التي يجب أن نتعامل بها مع كل ما نقرأ ونسمع ونشاهد على الشبكة، هو أن هذه المعلومة غير صحيحة، كاذبة، غير دقيقة، تم تغيير سياقها.
قبل عدة أيام شاهدت مقطعاً لدقائق يعطيك حكماً سلبياً 100% والمقطع غير مقبول منطقياً، لذا وبعد بحث بسيط تبين أنه مقتطع من برنامج يحمل رسالة معينة، تجعلك تحكم على المقطع بطريقة مختلفة 100% أيضاً !

هل يقتصر الأمر على المواضيع السياسية أو الدينية ؟ أبداً في كل المجالات ومنها العمارة بالتأكيد.

لذا لنكون شكاكين، لنشك دائماً، لأن الوصول الى الحقيقة (إذا كان ممكناً) يحتم علينا الحضور في موقع الحدث وهذا ما لن نستطيعه أبداً.

ولكننا نستطيع أن نتوقف عن البغبغة. 










الأحد، 11 أكتوبر 2015

كبرياء بغداد

كُتبت الكثير من المقالات عن الصورة التي تنتجها هوليوود عن العرب في أغلب أفلامها، ولكني لم أقرأ نصاً تخصص بمناقشة الصورة التي تعكسها الأفلام الأمريكية عن الشخصية العراقية في سلسلة من الأفلام التي تناولت الحرب الأخيرة عام 2003 تبدأ بـ Green Zone، The Hurt Locker وأخيراً American Sniper وغيرهم الكثير.
النظرة النقدية لعمل إنتج من قبل الأمريكان أو أي طرف خارجي آخر تدور كغيرها من القضايا في فلكي السلبيات والإيجابيات.
السلبيات عن الصورة المنقوصة التي تقدمها الأفلام مثلاً عن الفرد العراقي، وطريقة الكلام التي لا تطابق اللهجة العراقية، وعدم تطابق صفات المكان مع الواقع (والذي يشير بوضوح عبيط الى أن مواقع التصوير هي في المغرب العربي).
أما الإيجابيات فتتجسد في الصفات والمعالم العراقية التي تفرض نفسها على منتجي الأفلام، فمن خلال تلك الأفلام نستطيع أن نعرف نقاط قوتنا.
وحديثي هنا عن العمارة بالتأكيد، فقد نصاب بالتشوش الفكري والبصري نتيجة لفوضوية المدينة والحياة اليومية وتختلط علينا ممتلكاتنا الجيدة والسيئة فنستعين بعين جديدة تنظر لتلك الممتلكات لأول مرة فتستطيع تمييز الجيد والفريد منها لنركز عليه ونعيد دراسته مرة أخرى.
هذه الستراتيجية مألوفة في الحياة اليومية، تذهب لشراء قطعة ملابس أو حذاء مثلاً ونتيجة للخيارات المعروضة و(الفرفرة) المتواصلة في السوق لا تستطيع معها إختيار القطعة أو الحذاء المناسب لك (فتستعين بصديق) ليرشدك هو الى إختيار الصحيح نتيجة لعدم تشوش عينه وعقله (بـهوسة) السوق.  

وبدلاً عن الأفلام نجد (Pride of Baghdad) قصة مصورة للكاتب Brian K. Vaughan ورسوم Niko Henrichon وهي مستوحاة من قصة واقعية عن الأسد (Zill) وعائلته (صفا، نور والشبل علي) في حديقة حيوانات بغداد في متنزه الزوراء.


تبدأ القصة مع بداية الهجوم الأمريكي على بغداد عام 2003 وتنتهي مع نزول القوات الأمريكية على الأرض.
بالتأكيد لا أريد إفساد متعة قراءتها، فهي تحتوي على العديد من الصراعات والحوارات التي تحمل معاني معلنة أو مبطّنة. لعلها صورة أمريكية جديدة لقصص كليلة ودمنة التي تناقش قضايا حياتية على لسان الحيوانات المتنوعة.
وبالعودة على موضع إهتمامي (العمارة) أحببت أن أشير لمعالم معمارية بغدادية تظهر بوضوح في خلفية الصورة وبيئتها المكانية، معالم قد نجهل الكثير عنها نحن سكنة بغداد ولكنها وقفت بوضوح أمام أعين كاتب ومصور القصة وهي تستحق منا إعادة الدراسة والإستكشاف.
-       قوسي ساحة الإحتفالات (قوس النصر) وهو من تصميم الفنان خالد الرحال وقد كتب عنه معد فياض في جريدة الشرق الأوسط :
قوس النصر، الذي يمثل كفي الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وهما تمسكان بالسيف العربي، ومتقابلتين لتشكلان في تشابك السيفين من الأعلى صورة قوس، حيث يقوم هذا القوس عند مدخل ومخرج ساحة الاحتفالات الكبرى في منطقة الحارثية، بجانب الكرخ من بغداد. وقد تم تقديم التصميم  ضمن مسابقة شارك بها عدد كبير من الفنانين العراقيين، إلى دائرة الفنون التشكيلية نهاية عام 1983 بناء على دعوة من رئاسة الجمهورية لتصميم قوس نصر عراقي تستعرض من تحته القوات المسلحة، وعرضت النماذج المشاركة في المسابقة جميعها على صدام حسين الذي أعجبته فكرة خروج ذراعه من الأرض وكفه اليمنى تمسك بالسيف العربي، فوافق عليها وأمر بتنفيذها، إذ تم إنجازه عام 1985.



-       برج متنزه الزوراء السياحي وهو من تصميم المعماري عدنان زكي امين (1931-2005(، يقول الدكتور إحسان فتحي: إن برج متنزه الزوراء يعتبر عملاً إنشائياً هاماً يرتفع حوالي 40 متر وفيه مطعم دائري على شكل قبة بصلية أثارت عدداً من الإنتقادات بسبب شكلها، الا أن هذا البرج يبقى الوحيد في العراق المصمم كلياً من معماري عراقي ويؤكد مهارة الراحل عدنان في التصدي لتصاميم جريئة ولعبه دوراً بارزاً في مسيرة العمارة العراقية.



-       مبنى بدالة السنك: وهو من تصميم المعماري رفعة الجادرجي، عام 1971 وقد تعرض للقصف في تلك الحرب ومن ثم تم إعادة تأهيله مرة أخرى، وهو يجسد بهيئته الخارجية الإسلوب المميز للجادرجي ويشكل أحد أهم بصماته في مدينة بغداد. وعلى الرغم من بعده عن موقع أحداث القصة الا أنه ظهر واضحاً في الخلفية وأعمدة الدخان تتصاعد منه.



تنتهي القصة بـ(زيل) وعلى وصفا ونور وهم على سطح بناية وأمامهم أفق مدينة بغداد بلون أحمر نتيجة للـ(عجاجة) المشؤومة، فيسأل علي أباه :
-       هل هذا هو الأفق؟
-       نعم .. نعم هذا هو.
تنفرد نور بالصورة وعلى الجدار أسفل منها أبو بريعص عراقي وتقول:
-       إنه جميل .. تلتفت الى صفا التي فقدت عينيها ... إعذريني صفا لقد نسيت أنك ....
-       لا تعتذري .. لقد سمعت وصفه الممل لهذه اللحظة مئات الآلاف من المرات، لذا فأنا أراه أفضل منكِ!
تلتفت صفا لـ(زيل) :
-       إذن ؟ هل يستحق كل هذا أيها الرجل العجوز ؟



كرااااك (صوت) ... يغمض زيل عينيه ليبدأ الفصل الأخير من القصة!