السبت، 20 يوليو 2019

Make (Something) Smaller


سرديات الفضول
سلسلة تعتمد دافع الفضول في التحري عن الثقافة المعمارية في مجالات السينما والفن والادب

-5-

Make (Something) Smaller

افكر باللهجة العراقية العامية: نقول (يكمش) للاشارة الى الامساك بشيء، ولـ(يكمش) اصول عربية فصيحة، فـ(كَمَشَ) فعل ومنه (كَمَشَهُ من عُنُقِهِ: اي لواهُ بيدهِ من عُنُقهِ).

ونستخدم بالعامية ايضاً صفة (كَمش)، نطلقها على الرجل فنقول: (هذا واحد كَمش)، وهي مرادف لـ(الغشيم) وقد نقصد بها الانسان قليل الذكاء او قليل الحيلة فهو ينخدع من الآخرين بسهولة وينقاد خلف ما يريدون منه.
الـ(كمش) العامية، اصولها حيوانية، تطلق على الطائر الذي يمكن امساكه بسهولة وتأتي بعبارة (كمش عالتيغة)، والتيغة كما نعرف هي جدار السطح الذي تقف عليه الطيور غالباً.

وان الانسان الذي يتواصل مع شعوب العالم ومعاناتها عن طريق الاخبار او الافلام الوثائقية وغيرها من الوسائل المعاصرة ولا يدرك حجم الخطر الذي يتعرض له كوكب الارض نتيجة لسوء استخدامنا له فهو انسان (كمش).

اننا نستهلك كوكب الارض، وستصبح حياة الاجيال القادمة صعبة جداً، قد يهتم الاباء الفعليين (من لديهم ابناء الآن) بتوفير حياة افضل لهم انطلاقاً من حبهم لهم وخوفهم عليهم، اما الشباب فيجب ان يحفزهم التزامهم الاخلاقي او على الاقل مصلحتهم الشخصية وهم في اعمار متقدمة، لنتخيل انفسنا بعمر الثمانين مثلاً ودرجة الحرارة (60) درجة مئوية ولا توجد طاقة كافية لتشغيل اي وسيلة تبريد ولا ماء كافي للشرب او الاغتسال، انه الجحيم على الارض وقد نجده امامنا للابد في الحياة الاخرى.

تحاول الجهات المسؤولة رفع الوعي تجاه الحفاظ على الكوكب بوسائل كثيرة ومتنوعة، ومنها فلم (Downsizing) من بطولة الممثل (Matt Damon).


يشير الفلم الى ان التضخم في اعداد سكان الارض هي المشكلة الاكبر، خصوصاً مع نمط الحياة المؤذي للارض والمستهلك لمواردها، فنعيش الارتفاع في درجات الحرارة غير المسبوق والفيضانات وكوارث الطقس الاخرى.

ويقترح المؤلف في عالم الخيال، ان الحل الامثل والعلاج الحاسم لتلك المشكلة هو تقليص حجم الانسان!

حيث يتوصل مركز بحثي الى تصغير الانسان بطول 180 سم الى انسان بطول 13سم فقط، ولكم ان تتخيلوا كمية الموارد الذي يحتاجها هذا الانسان الجديد من الكوكب وكمية المخلفات المؤذية التي يطرحها في البيئة.


لا يخاطب الفلم التفكير الاخلاقي للمشاهدين فقط وانما يخاطب تفكيرهم المادي ايضاً، فمن يصغّر حجمه يستطيع ان يحقق جميع احلامه وان يعيش حياة سعيدة بمبالغ ضئيلة جداً، حيث تكفيه 83 دولاراً لعيش سنتين كاملتين.

ما يهمنا اكثر كمعماريين من طروحات الفلم وافكاره هو تقليص احجام المساكن وبالتالي القرى والمدن، فالمتطوعين الاوائل للتصغير وعددهم (38) شخصاً صممت لهم قرية متكاملة بمساحة (77) مترمربع.


والـ(Downsizing) في عمارة المساكن ليس بمفهوم جديد في العالم، ولكن الفلم يلفت انتباهنا له، علماً اننا نعيشه محلياً منذ مدة ليست بقصيرة. فبعد ان كانت مساحة 200 مترمربع للمسكن في مدينة بغداد تعتبر صغيرة لوجود مساكن بمساحة (400-600-800) وحتى (1000) مترمربع، وصلنا الى مساكن بمساحة 50 مترمربع فقط.

الهدف من المقارنة بين تطبيق المفهوم عالمياً والواقع الذي نعيشه هو لمحاولة التصحيح في المستقبل والاقتراب من الجانب العلمي الذي تعتمده دول العالم المتقدمة.
ان الدخول في تفاصيل اسباب انتقالنا من المساحات الواسعة الى الضيقة ياخذ الكثير من الوقت، ويمكن تلخيصها سريعاً بان التخطيط الاصلي للمدينة كان يعتمد ظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة جداً عن اليوم، ووجود قانون سابق لا يسمح لكل من يرغب بشراء منزل في مدينة بغداد، وقوة تطبيق القانون الذي يحدد 200 مترمربع كاصغر مساحة يمكن ان تكون منزلاً مستقلاً قابلاً للبيع والشراء وغيرها بالتاكيد. ليأتي بعدها التغيير عام 2003 بتحدياته الامنية والاقتصادية والادارية لنصل الى المساحات الصغيرة الحالية.

وقد نفكر ان المشكلة ليست بالمساحات الصغيرة نفسهة، فالاشخاص يعيشون بمساحات بحجمها او اصغر منها في مدن العالم الاخرى، ففي نيويورك تعيش (Felice Cohen) بمساحة (8،5) مترمربع وتقدم نصائح للآخرين للعيش بمساحات مقاربة، وغيرها من الامثلة كثير، ولكن مشكلتنا العراقية في قضيتين:
طريقة تصميم تلك المساحات واسلوب عيشنا داخلها.


يخبرنا (Finn Macleod) عن :
5 Things Architecture Can Learn From the Tiny House Movement
وهي تالياً كعناوين فقط اما التعليق والتفكير محلياً فهي لي :
Bigger isn’t always better
المساكن الصغيرة هي اسهل واقل كلفة في البناء والصيانة وهي مناسبة اكثر للمالكين في ظل التحديات الاقتصادية المعاصرة في دول العالم، اما محلياً فهو اختيار اجباري، فمن اختار المساحة الصغيرة ليس لديه خيار المساحة الكبيرة من الاصل. بينما من الجانب النفسي او الروحي فالمساحة الواسعة هي بنظر المجتمع اكثر تفضيلاً على ان تقترن بالراحة في تفاصيل الحياة الاخرى بالتأكيد.

Capitalize on vertical space
واحدة من ايجابيات المساكن الصغيرة الغربية هي الفضاء الداخلي المفتوح على الرغم من صغر المساحة، فالمسكن يتضمن فضاء واحد مضاعف الارتفاع في اغلب الحالات ومن ثم اقتطاع فضاءات الخصوصية الصغيرة منه بقواطع بسيطة كفضاء النوم والاستحمام.


وهذا محلياً يأخذنا الى عدة قضايا، الاولى تتعلق باسلوب الحياة العراقية والتي تميل الى التأكيد على خصوصية الفضاءات، فنرى ان قطعة الارض بعرض (5) متر فقط ومن ثم لا يتنازل المقاول او صاحب البيت عن اقتطاع متر كامل لممر بجانب غرفة الضيوف الامامية، وذلك كي لا يرى الضيوف في حال وجودهم من يخرج ويدخل من العائلة.
 الانفتاح الوحيد التي بدأنا نراه في مخططات البيوت الضيقة هو انفتاح فضاء الطبخ على فضاء جلوس العائلة وهي معالجة جيدة كبداية. بعدها يجب علينا كمعماريين ان لم نستطع اشاعة ثقافة انفتاح الفضاءات على بعضها ان نشيع ثقافة التقطيع باستخدام الاثاث او عناصر معمارية ذات سمك قليل (اقل من 25سم) لزيادة مساحة الفضاءات.
ثم نأتي للفضاء المضاعف والذي له اصول محلية منذ التسعينات حيث ظهر كميزة غنى ورفاهية واطلق على نمط بيوت حينها بالـ(دبل فوليوم)، وانا اعتقد ان مصدر الفكرة هي القصور الرئاسية للنظام السابق، وللفضاء المضاعف وجود ايضاً في شقق الطاقة الشمسية المطلة على النهر في شارع ابي نؤاس.


الفضاء الداخلي للشقق السكنية في ابو نؤاس/ موسوعة العمارة العراقية
هي معالجة مريحة بصرياً ونفسياً ولكنها تتعارض مع المتطلبات الفضائية الكثيرة للعوائل العراقية فهم يريدون ثلاث غرف نوم وحمامين ومطبخ وصالة جلوس وضيوف وكل ما يحلمون به!

Mixed-use spaces are the only spaces
استخدام نفس الفضاءات بطرق متنوعة، وهذا ماهو واقع في مساكننا المحلية وخاصة استخدام فضاء الضيوف كمعيشة او استخدام المعيشة كطعام او الضيوف والمعيشة كفضاء للعب الاطفال.

Connect with the outdoors
وهنا واحدة من القضايا التي لا نستطيع توظيفها محلياً، وذلك لانعدام الفضاء الخارجي الذي تتحدث عنه المصادر الغربية، فلا تقع مساكننا في مناطق طبيعية مفتوحة وانما في شوارع ضيقة يخلو بعضها حتى من الارصفة. زيادة على قساوة البيئة الخارجية لارتفاع درجات الحرارة في اشهر عديدة من السنة.
الانفتاح على الخارج ليست بخيار سهل في عمارتنا المحلية.

Minimalism is the key
المنيمالزم او ترجمتها الى التقليلية او التبسيطية، هي فكرة في الفن والعمارة واسلوب حياة، وهي استخدام اقل عدد من العناصر للتعبير او لتأدية وظيفة معينة. ونحن محلياً ابعد ما نكون عنها.




نحن مجتمع لا يحب البساطة، لاننا نعتبر ان البساطة هي ضعف، ونحن ذو اصول مقاتلة لا نحب الضعف.
فنعمل مع المساحات الضيقة بتغليف واجهة البيت بالحجر واضافة العناصر الزخرفية بشتى انواعها ونملئ البيت بالاثاث الضخم والتحفيات واللوحات. كل هذا يجعلنا نقول:

اننا ذهبنا ولازلنا باتجاه المساكن الصغير ولكننا لا نمتلك ثقافة المساكن الصغيرة
فالعوائل والمقاولين والمهندسين المدنيين وحتى المعماريين يرغبون بحصر جميع صفات ومتطلبات المسكن الكبير في المسكن الصغير وهذا يجعلنا بعيدين عن الراحة المطلوبة.

ان نستطيع اشاعة ثقافة المساكن الصغيرة هو تحدي كبير وصعب، ماهي ثقافة المساكن الصغيرة؟
التبسيط او التقليل، في عدد العناصر المعمارية وفي التأثيث وفي كل شئ
فالبساطة للاقوياء







الجمعة، 12 يوليو 2019

عمارة معمرة


عمارة معمرة

كيف نستطيع تصميم مبنى ونتأكد بانه سيحتفظ بقيمته المعمارية لمئة عام قادمة؟
اي ان نصمم مبنى يمتلك من الصفات ماتجعله مرغوباً من الناس ويجذب اهتمامهم، وهذه الصفات نستطيع ان نعيدها الى ثلاثية فيتروفيوس، فيجب ان يكون ذو صفات تؤدي وظيفة معينة بنجاح وان يمتلك صفات جمالية مستمرة وان يحتفظ بقوته الانشائية حتى بعد مئة عام كاملة.

هل بالامكان تحقيق ذلك؟

للاجابة نستمع اولاً لما يخبرنا به الباحث والمؤلف (Nassim Nicholas Taleb) عن العمر الافتراضي للاشياء التي لاتهرم ولاتموت حيث يقول:
" ان هنالك قاعدة مجربّة لمعرفة العمر المتوقع للاجهزة والمباني والافكار، وهي معرفة كم تبلغ من العمر حالياً وكلما كانت اقدم، كانت فرصها اقوى في البقاء".

Nassim Nicholas Taleb

ان المبنى الذي نريده تصميمه خارج هذه القاعدة اذن، لانه لم يبنى بعد، اي ان عمره (صفر) سنة، لذا وجب علينا دراسة المباني المعمرة حالياً ونتعلم من صفاتها ونضمنها فيه، لانها هي المباني التي سوف تبقى لوقت اطول في المستقبل حسب ما تقوله القاعدة.

يعلّق (Tom Chatfield) على القاعدة السابقة في مقاله:
( The Simple Rule That Can Help You Predict The Future)
" اذا اردنا ان نتنبأ بالمباني التي ستبقى لقرون من الآن تقترح القاعدة بأن نبدأ باقدم المباني الموجودة في المدينة. فالزمن هو المعيار الاهم عند تقدير العمر المتوقع، فاذا اردنا معرفة المعالم التي ستبقى مستقبلاً علينا النظر الى المباني التي صمدت بالفعل في وجه صروف الدهر وضرباته لعقود او قرون او آلاف السنين".

هذه القاعدة كان قد اطلق عليها نسيم طالب اسم (Lindy's Effect)، نسبة الى (Lindy's Law) الذي اقترحه المؤلف الامريكي (Albert Goldman) عام 1964 ولكن مع بعض التعديلات.


(Lindy's Effect) كما يعتقده نسيم طالب ينص على " ان الاشياء التي ظلت صامدة لفترة طويلة، لا تشيخ كالبشر، بل تتقادم عكسياً اي ان كل عام تصمد فيه امام التقلبات يضاعف عمرها المتوقع". اي ان استمرارها سابقاً يزيد من عمرها مستقبلاً.

لنحاول تطبيق (Lindy's Effect) على مباني مدينة بغداد، ولنأخذ المنطقة التي نتفاعل مع ابنيتها القديمة ونزورها وهي الممتدة من المدرسة المستنصرية وساحة الرصافي وحتى ساحة الميدان ووزارة الدفاع القديمة.


ننتبه الى ان هنالك ثلاث حالات لتلك المباني المعمرة:
-       مباني استطاعت المحافظة على قيمتها الجمالية والانشائية ولكنها لا تلبي وظيفة فعلية حالية، كالمدرسة المستنصرية والقصر العباسي.
-       مباني استطاعت الحفاظ على قيمتها الجمالية والانشائية وتم توظيفها بوظائف جديدة غير التي صممت لاجلها، كالقشلة وبناية المحاكم (المركز الثقافي البغدادي).
-       مباني استطاعت الحفاظ على قيمتها الجمالية والانشائية وبنفس الوظيفة التي صممت لها وهي المساجد والجوامع المتعددة في المنطقة، كجامع السراي وجامع الوزير وجامع الحيدرخانة.

جميع تلك الامثلة السابقة تفوق اعمارها المئة عام وبعضها تفوقه بكثير، وهي لاتزال محتفظة بقيمتها المعمارية بصورة عامة وسنأتي الى تفصيل تلك القيمة والتعلّم منها.

لنبدأ بالصفات الوظيفية اولاً والتي كانت مؤثرة في التصنيف السابق:
المباني الوحيدة التي حافظت على نفس وظيفتها بنجاح هي المباني الدينية، لاننا نعرف ان متطلبات الجانب العبادي من الدين لم تتطور او تتغير، كالصلاة تحديداً. زيادة على هذا الثبات النسبي هنالك الجانب القدسي لكل ما يتعلق بالدين في مجتمعنا، مما يجعل المبنى محترماً سالماً من التجاوزات ومعتنى به من الجميع، ثم يأتي الجانب القانوني المتمثل بنظام (الوقف) الاسلامي الذي يمنع التصرف بالمبنى لغير هدفه الموقوف له وتخصيص موارد لصيانته.


جامع الحيدرخانة سابقاً وحالياً
اما المباني التي استطاعت استيعاب وظائف جديدة، فهي ذات مخططات مرنة، والتي تتضمن غرف منفصلة مفتوحة على فضاء عام واسع، حيث يمكن استخدامها لوظائف متنوعة، فمخططاتها لاتحتوي على خصوصيات تصميمية وظيفية من الممكن ان تصبح غير ملائمة بعد خمسين او مئة عام.
مع الانتباه لمتطلب مؤثر وهو تكنولوجيا التكييف والتبريد غالباً او التكنولوجيا بصورة عامة، فمبنى المركز الثقافي او حتى القشلة قد استوعب اجهزة التبريد دون حصول تشوهات جمالية شديدة. ولكن لنتخيل مبنى المدرسة المستنصرية او القصر العباسي مع وحدات تبريد منتشرة في اروقته او على جدرانه الخارجية!

المركز الثقافي البغدادي
مجسم للقشلة على Google Earth وعلى اليسار جامع السراي والى الاعلى جامع الحيدرخانة

وهذا ياخذنا الى القيم الجمالية التي تمتلكها تلك المباني، فلا احد منا يستطيع ان يقول ان المدرسة المستنصرية قبيحة.
والسبب هو نظم التناسب المتنوعة التي اعتمدتها عمائر الحضارات السابقة ومن ضمنها العمارة الاسلامية التي من الممكن تصنيف عمارتنا او ارثنا المعماري المحلي ضمنها.
لنظم التناسب تفاصيل عديدة يمكن دراستها في كتاب (الهندسة والرياضيات في العمارة-دراسة في التناسب والمنظمات والمنظومات التناسبية) للدكتورة قبيلة المالكي، وفهمها اساس لكل معمار يطمح لانتاج اعمال مميزة، مع وجود الكثير من الادوات المساعدة لاستخدام تلك النظم كالمواقع الالكترونية وخيارات برامج التصميم والاظهار الحاسوبية.


بالاضافة الى النسب الجميلة هنالك عنصر القوس، هذا العنصر الذي استطاع ان يحافظ على جماله لاكثر من مئة عام فسوف يستطيع الاستمرار لمئة قادمة حسب قاعدة (Lindy's Effect)، الا يدفعنا هذا التنبؤ الى استخدام القوس والاعتماد على نجاحه السابق؟

المدرسة المستنصرية
القصر العباسي

نصل الى الصفات الانشائية المطلوبة للمبنى المعمر، لقد كان التحدي في السابق اصعب بكثير مع مواد الانشاء الطينية والخشبية، اما اليوم فلدينا الخرسانة المسلحة التي يتراوح عمرها الافتراضي بين(50-100) عام وحسب دقة المواصفات والتنفيذ والبيئة المحيطة.
ثم ستمر سنوات قليلة لنحصل على تكنولوجيا بنائية اكثر متانة واسهل تحكم كالمواد المضافة للخرسانة بانوعها ومن ثم المواد النانوية المستقبلية.
الا ان تلك الابنية الطابوقية المعمرة لم تستمر هياكلها الانشائية كما هي دون اعمار واصلاح بين فترة وأخرى، ولكن ما يدفع الانسان الى اعمارها دون غيرها هو قيمها الرمزية والوظيفية والجمالية سابقة الذكر.

واخيراً علينا كتابة الوصفة التي تعلمناها ويفضل ان نتبعها لجعل تصاميمنا معمرة ايضاً:
-       صمم جامع او مسجد او حاول ان تضيف بُعد ديني للمبنى الذي تصممه مهما كان نوعه، استأجر جماعة من الناس لتمثيل حصول معجزة في المبنى! حاول ان تدفن فيه شيخاً او ولي من اولياء الله الصالحين.

-       حاول ان يكون المخطط الافقي مرناً وقابل للاستخدام باكثر من وظيفة. من الممكن ان تتضمن دراسة الجدوى للمبنى قبل البدء بالتصميم الوظائف المستقبلية التي من الممكن ان يتحول اليها.
لنتخيل تمريناً لمادة التصميم المعماري يطلب من الطالب ان يصمم مبنى واحد ولكنه ملائم لوظيفتين مختلفتين:
صمم مستوصفاً طبياً في منطقة معينة للحاجة الماسة اليه، ثم بعد خمس او عشر سنوات يخطط لاستخدامه كمدرسة ابتدائية نتيجة لزيادة عدد سكان تلك المنطقة ودون اجراء تغييرات جوهرية على المبنى.

-       يجب ان نقوم بدراسة نظم التناسب وفهمها والتصميم بموجبها لانها وسيلة لضمان قاعدة للجمال لا تتبدل بتبدل الاذواق و(المودات) ومن ثم استعمال عناصر جمالية اخرى من الممكن ان يتم تغييرها او استبدالها عند الضرورة.

-       ان اغلب الوظائف الانسانية تتغير متطلباتها نتيجة للتطور التكنولوجي، والتكنولوجيا هي سمة العصر الحالي وسنعيش طفرات عظيمة كما نقرأ في الدراسات المستقبلية ونشاهد في افلام الخيال العلمي، لذا اهم ما يجب ان يتصف به المبنى الذي نصممه هو كونه هيكلاً انشائياً يستطيع استيعاب وسائل التكنولوجيا والخاصة بتوليد الطاقة والتكييف غالباً في بيئتنا العراقية، ثم تأتي اهمية استيعاب تكنولوجيا الانارة والأمن والترفيه.

-       الاهتمام بشروط التنفيذ الانشائية وهي مهمة المهندس المدني والمقاول وفريقه، ولكن من الممكن للمعمار الاشراف على عملية التنفيذ والعناية بها.

ولكن كل المتطلبات السابقة بحاجة الى عميل (الجهة المستفيدة من المبنى) مثقف ومتفتح ينظر بعيداً الى المستقبل لا الى المبالغ التي سيدفعها اليوم فقط  دون حساب عوائدها المستقبلية، وهو المتطلب الاصعب تحقيقاً بين جميع ما سبق.








الثلاثاء، 2 يوليو 2019

دروس من برج آينشتاين


دروس من برج آينشتاين

لماذا نقرأ تاريخ العمارة او نحاول فهم نظريات العمارة السابقة؟

الاجابة واضحة: لنتعلم من التجارب والجهود البدنية والفكرية السابقة للانسان. ولكن الواقع يثبت عكس هذه الاجابة البديهية، اننا غالباً لا نتعلم من التاريخ.

ماذا يمكننا ان نتعلم اليوم من برج آينشتاين؟

لابد من مقدمة تعريفية للمبنى، فهو مرصد فلكي يقع في الحديقة التي سميت باسم آينشتاين ايضاً (The Albert Einstein Science Park) في مدينة (Potsdam) المانيا.
شيد البرج تكريماً لآينشتاين حيث تم التخطيط له عام 1917 ثم تنفيذه بين عامي 1919-1921 وأخيراً تشغيله عام 1924، حيث نصّب فيه تلسكوباً لمراقبة الشمس تم تصميمه من قبل عالم الفلك (Erwin Finlay-Freundlich)، والذي يساعد الباحثين في اختبارات دحض او اثبات النظرية النسبية. علماً ان آينشتاين نفسه لم يمارس اي نشاط داخل البرج.




الاهم بالنسبة لنا كمعماريين ان البرج من تصميم المعمار الالماني (Erich Mendelsohn) والذي توفي عام (1953)، ويشتهر باعماله كاحد رواد العمارة التعبيرية (Expressionist Architecture) في القرن العشرين.

Erich Mendelsohn

ماهي العمارة التعبيرية اذن؟
يرى التعبيريون ان مزاولتهم للعمارة ليس هدفها تقديم خدمة فحسب (اي سد الحاجة عن طريق وظيفة المبنى فقط)، بل اعتبروها نوعاً من الرسالة الاجتماعية التي خصتهم العناية الالهية بتقديمها، فهي كنوع من الهندسة الاجتماعية الاصلاحية للمجتمع وصولاً الى المجتمع المثالي الفاضل.
وتحرص التعبيرية على صون الحرية الفنية الفردية للفنان او المعمار، بحيث يحتفظ بالقدرة على التفكير والعمل المستقل، لان الحرية هي اهم شروط الابداع الفكري والفني والمعماري.
بالتالي فالشكل المعماري الناتج هو رهن بارادة المعمار الفنية وقدرته التعبيرية، وتعبيره عن ذاته وعن قضايا عصره.

ولكن في مقابل هذا التوجه المعماري التعبيري كان هنالك التوجه الوظيفي، الذي يقرّب المعمار من المهندس ومناهجه المقننة، والتشبه به وبطرائق عمله الممنهجة. وينادي بالنمذجة والمقاييس المعيارية (Typification And Standardization).

نلاحظ مع اختلاف المسميات لطرفي الصراع، انه صراع قديم جداً ونحن نعيشه اليوم ايضاً، ممكن ان نطلق عليه صراع بين (العقل) (Reason) والمخيلة (Fantasy)، او (الموضوع) (Objective) و(الذات) (Subjective).

 فهل يجب انتاج العمارة وفق قواعد صارمة تفرض على المعمار ويجب ان يفسر علمياً جميع قراراته التصميمية؟

ام له مطلق الحرية في اختيار الاشكال معتمداً على خياله الغني لخدمة قضية معمارية معينة يؤمن بها؟

لكي نتعلم من التأريخ يجب علينا ان لا نجادل بتفضيل الاعتماد على (الذات) (المخيلة) او على (الموضوع) (العقل)  وكاننا اول انسان يخوض هذا الجدال على الكوكب.

لقد استهلكت القضية بحثاً وجدالاً وهنالك كتب كثيرة مختصة باستعراض الثنائية عبر التأريخ ومنها كتاب (Sources of Architectural Form) لـ(Mark Gelernter).


علينا ان نقرأ الجدالات السابقة، وان نميّز جيداً ان النقاش في القضية يختلف في مجال التعليم المعماري عن مجال ممارسة العمارة، فلا يمكن لطالب المرحلة الاولى او الثانية ان يقول اني اعتمد على الذات او الخيال الذي لا يحتوي على شيء او لم يتم اكتمال بنائه ليصبح هو المصدر للانتاج، وعلينا اخيراً ان نفكر في الحالة الوسطية بين الطرفين:

يقول (Erich Mendelsohn):
"من المؤكد ان الوظيفة (Function) هي العامل الرئيس الذي يجب على المعمار التركيز عليه، لكن الوظيفية البحتة لا تنتج العمارة بل مجرد منشآت، مباني ميتة خالية من الدم في العروق، اما التعبيرية البحتة فسوف تهلك بسبب حيويتها الزائدة. يكمن التحدي الحقيقي اذن في الدمج بين الوظيفة والحيوية."
ودائماً نسمع ان خير الامور اوسطها.

واذا كان خيال الفنان هو مصدر الشكل المعماري للتعبيرين فما هي صفات الشكل ذاته؟

يتميز شكل برج آينشتاين بخطوطه الانسيابية والدينامية الفائقة للشكل الخارجي للبرج وقاعدته التي تحتوي المدخل المرتفع ببضعة درجات عن الارض، فلا وجود للحافات الحادة او الاشكال الهندسية المنتظمة في تكوينه.

ينقل الصحفي والمؤرخ الامريكي (Otto Friedrich) ان مصمم البرج قد اخذ آينشتاين في جولة مطولة داخل وخارج البرج بعد اكتماله، وكان ينتظر منه علامات الاعجاب او المباركة للمشروع، لم يقل آينشتاين شيئاً الا بعد ساعات عند اجتماعه باللجنة المسؤولة عن المبنى، عندما همس بكلمة حكمه الوحيدة : ORGANIC !


لماذا هذه العضوية؟ والتي تعتمد على خطوط المنحنية بالطبع.
السبب هو مفهوم التماهي (Empathy) لدى التعبيريين، وهو قدرة الانسان التخيلية على اسقاط ذاته على الاشكال المحيطة به، وتأثره الانفعالي بحالتها الظاهرة امامه.
ويسمى المفهوم ايضاً بـ(تخيّل الذات) (Imaging Of The Self)، فعندما ننظر الى الاشياء المحيطة بنا، نتخيل اجسادنا في حالة مشابهة لما نراه امامنا. فان كان مانراه فراغاً واسعاً فاننا نشعر بالانطلاق والتحرر، وان كان فراغاً محصوراً احسسنا بالضيق والانضغاط، وبنفس الطريقة التي تشعرنا بها الغيوم المتحركة باننا نتحرك معها بالرغم من اننا راسخون في مكاننا.
واعتماداً على التماهي اهتم التعبيريون بالخط المنحني (Curve)، وذلك بالنظر لقدرته على الايحاء بالحركة، او بتشابهه مع خطوط معالم الجسم البشري وبالتالي الايحاء بالحيوية وارادة الحياة، وزيادة قدرتنا على تخيل ذواتنا في الاشكال الجامدة حولنا.

هذه النظرة للخط المنحني ظهرت في بداية القرن العشرين (1908) اما التفسير المعاصر لانجذاب الانسان نحو الخطوط المنحنية في التصميم فيخبرنا به (Eric Jaffe) في مقال:


يصف الناس غرفة جميلة عندما يكون تصميمها منحنياً او كروياً اكثر مما لو كان مستقيماً، وعندما يطلب منهم الاختيار بين شيئين احدهما ذو خطوط مستقيمة والاخر ذو خطوط منحنية فانهم غالباً ما يفضلون الاخير: الساعات الدائرية، خطوط الكتابة المنحنية، المقاعد وحتى خيوط تنظيف الاسنان ذات العلب منحنية الحافات.

وقد وجد علماء الاعصاب بأن ذلك لايتعلق بالذوق الشخصي للافراد، وانما لاسباب تتعلق بتكوين الدماغ البشري.

التفسير الاول هو ان مراقبة نشاط الدماغ للاشخاص الذين ينظرون الى التصاميم ذات الخطوط المنحنية تشير الى زيادة ملحوظة في نشاط منطقة فيه تسمى (The Anterior Cingulate Cortex)، مقارنة بالاشخاص الذين ينظرون الى التصاميم المستقيمة والمنتظمة، هذه المنطقة مسؤولة عن العديد من الوظائف الادراكية ولكن واحدة من الوظائف ترتبط بالدراسة حول الخطوط المنحنية والمستقيمة وهي (Involvement In Emotion) او اثارة المشاعر.
ويضرب لذلك مثلاً ببكاء المعمار الامريكي العريق (Philip Johnson) عندما زار متحف كونكنهايم بلباو لاول مرة للمعمار فرانك جيري وقال:
Architecture is not about words. It’s about tears

Philip Johnson

اما التفسير الآخر فيشير الى ان النظر الى العناصر المستقيمة والحادة يؤدي الى انتاج الدماغ لاحساساً بالخوف، تلك الاشكال تعطيه اشارات للاصابة باضرار جسدية فيعتبرها تهديداً لكيانه، اما الخطوط والاشكال المنحنية فهو يراها امينة واقل ضراراً عليه.
ويضرب لذلك مثلاً احساسنا ونحن نراقب الاطفال الصغار يتحركون في الفضاءات والخوف عليهم من الاصابة بالحافات الحادة للمناضد وقطع الاثاث ذات الحافات المدببة.



وهنا يجب ان نسأل انفسنا عن الاسباب التي تجعلنا نستخدم الخطوط والاشكال المنحنية في تصاميمنا المعمارية، هل نؤمن بفلسفة معينة؟ هل ندرك بذكاء انها الاحب الى قلوب الاساتذة والعملاء؟ اما اننا نستخدمها تقليداً فقط للمشاريع التي نراها امامنا على الشبكة؟

واخيراً نتعرف على المراجع الشكلية لتكوين برج آينشتاين والذي نعرفه نحن بـ(الاستعارة)، اي بماذا تغذى خيال المعمار لينتج هذه الاشكال؟

نقرأ ان مصادر الشكل في تصميم البرج هي تمثيلاً لموضوعين مهمين لدى التعبيريين هما (البرج) و(الكهف) اللتان شكلتا المعالم المكانية الرئيسية لرواية الفيلسوف الالماني (Friedrich Nietzsche)، (هكذا تكلم زرادشت) التي يصف فيها رؤيته للانسان الخارق. وفي تلك الرواية يعيش الحكيم زرادشت في كهف يقع اعلى قمة الجبل العظيم، وعندما يهبط الحكيم من الجبل الى السهول المنبسطة لينشر رسالته بين الناس يرى مدنهم ومنازلهم الوضيعة صغيرة الحجم ويتعجب لقناعة ساكنيها بها، التي يعتبرها دلالة على صغر نفوسهم وضعفها فالنفوس الشامخة في نظره لا تقنع بتلك المساكن بل تبحث دوماً عن القمة والانجازات العملاقة.



فالكهف (والذي يظهر في مدخل البرج) الذي اتخذه زرادشت مسكناً له فيرمز به نيتشه الى ضرورة البحث عن الذات من الداخل، واستلهام الرؤية في معزل عن الجماهير والتفرد في الرأي، بدلاً من الانسياق وراء الرأي العام ووراء الجماهير التي يفقد فيها الفرد شخصيته وقدرته على استلهام ذاته.


وجميع ماسبق مرتبط بالمسؤولية الاجتماعية للمعماريين التعبيرين وكيف يصلون بالافراد والمجتمع والمدينة الى حالة الكمال والمثالية.

وبهذا فلنا الحق في ان ننتج تكوينات معمارية او مباني تعتمد على روايات او قصائد شعرية او لوحات فنية او اي منتج انساني آخر، مع التأكيد مرة أخرى ان ذلك يتم بعد ان نتعلم اساسيات العمارة وقواعدها العالمية.





الاقتباسات الخاصة بالبرج وفلسفته ومصادر شكله من كتاب (من النهضة الى الحداثة، تاريخ العمارة الغربية ونظرياتها، نبيل ابو ديّة).