الأحد، 27 مارس 2022

سكّان بغداد الجدد

 سكّان بغداد الجدد


-       لقد فقدنا رئيس الوزراء.

-       .......

كان وينستون تشرشل حينها مختفياً لتنفيذ نصيحة الملك جورج السادس بالذهاب الى الشعب. يخبرهم بالحقيقة بشكل صريح، فيدعهم يرشدوه بين الحرب والسلام (الاستسلام) في الحرب العالمية الثانية. ركب قطار الأنفاق للمرّة الأولى في حياته. سأل ركّاب إحدى المقصورات:

- إن حدث الأسوأ، والعدو ظهر في سمائنا، ماذا ستفعلون؟

- سنحاربه بأي شئ يقع تحت أيدينا. أجابه أوليفر ويلسون. وعندما سأله تشرشل عن مهنته قال: أنا بنّاء سيدي.

فقال له تشرشل مازحاً:

-قريباً سنكون بحاجة لعدد كبير من البنائين، سوف تزدهر هذه المهنة!

كل ذلك وأكثر في سيناريو فلم (Darkest Hour) الذي دفعتني رغبة التواصل مع شخصية تشرشل لمشاهدتهِ وهو الفائز بأكثر من جائزة أفلام عالمية. لماذا تشرشل بالذات؟ لمقولته التي توثقها الكثير من المواقع الالكترونية:


"We shape our buildings; thereafter they shape us


كتبتها مترجمة على غلاف كتاب (بغداد، قصة هوية)، وأعود لأكتب عنها مرّة أخرى.

أفكّر في بعض الأحيان أنني أتصرف بسطحية ساذجة عندما التقط أي كتاب يتضمن إشارة للعمارة من بعيد أو قريب. في معرض الكتاب الأخير ألتقيت (ماكيت القاهرة)، رواية للروائي المصري طارق إمام. ماكيت (موديل) لمدينة، ومخطط ملون للقاهرة على الغلاف، لم أستطع تجاوزها بالتأكيد حتى مع سعرها المرتفع.

بعد صفحة الاهداء نقرأ إقتباساً لمنسي عجرم:


"الأمكنة تخلق قاطنيها. إن نشأت نسخة جديدة من بيت ستنشأ نسخة جديدة من ساكن"


يقترب المعنى كثيراً من مقولة تشرشل السابقة. علاقتنا بالعمارة علاقة حلقية، نبنيها فتبنينا وتبني أبنائنا فيبنوها مرة أخرى وهكذا دواليك.

ما أثار اهتمامي أكثر بمقولة منسي عجرم عملي في الفترة الماضية على تصميم مسكنين، الأول لقريب والثاني لصديق. الأول على أرض بأبعاد (5*20) متر والثاني على أرض بأبعاد (4.45*21.5) متر.

ليست نسبة الأرض الطولية بجديدة على مدينة بغداد أو مدن عراقية أخرى، لكنها في ازدياد ملحوظ، بل تكاد تكون النسب الوحيدة المتوفرة حالياً في سوق العقارات. في الشارع الذي نسكن فيه تم هدم منزلين قديمين متجاورين، ليتحولان سريعاً الى سبع منازل طولية متجاورة جديدة.

يسكن عدد كبير من الناس تلك المساكن الطولية، وسيسكنها عدد كبير آخر في المستقبل. فإن كانت هي نسخ جديدة من المساكن في مدينة بغداد، فكيف ستكون النسخ الجديدة للساكنين فيها؟

تفرض الأراضي الطولية على المعمار كما نعلم قرارات تصميمية لا مفر منها. ما يزيد من حتميتها متطلّبات الساكنين العراقية. فبينما نجد مساكن بنفس النسب الطولية على شبكة الانترنت تم التعامل معها باسلوب المخطط المفتوح مثلاً. في المستوى الأرضي فضاء واحد مستمر يتم توظيفه حسب الحاجة، زيادة على الارتفاع  المضاعف عمودياً في بعض أجزاء ذلك الفضاء للزيادة من سعة المساحة الأفقية الصغيرة. أما مساكننا فيجب أن تكون غرفة الضيوف أصحاب القداسة في المقدمة ومن ثم المعيشة أو المطبخ ثم الحمام وأخيراً غرفة النوم في الطابق الأرضي. يتم بعدها تكرار تلك الفضاءات في الطابق الأول والثاني وحتى الثالث.

كيف تؤثر تلك المساكن تحديداً على شاغليها؟

هل النوم في غرفة تقع في قعر المسكن يُشعر الانسان بالأمان والابتعاد عن فوضى الشارع ؟ أم يُشعره بالضيق من فضاء لا مفر منه عند حصول أي حادث طارئ يغلق الطريق الى الخارج؟

هل تؤثر الإنارة الطبيعية الضئيلة في الفضاءات على راحة الانسان؟ وهو لا يستطيع تعويض ذلك النقص بالخروج لنور الحديقة التي تم الاستغناء عنها من الأساس.

هل يتغير سلوك الإنسان وهو يعيش في فضاءات متتالية تخترقها ممرات الحركة دون استئذان؟

لا أمتلك إجابات للأسئلة السابقة لأنني لا أسكن مسكناً طولياً على الرغم من كوني أول الساكنين فيه عندما كان يسمى بـ(المشتمل)، وقد أعود للسكن فيه عاجلاً أم آجلا. لكن من المفترض أن تجيب عن تلك الأسئلة دراسات وبحوث علم النفس والعمارة سوية.

ما أنا متيقن منه هو التأثيرات النفسية السلبية للاستغناء عن موقف السيارة الداخلي وتركها مركونة على الرصيف أو الشارع. شعور دائم بالقلق من تعرضها للضرر خاصة مع الاختيارات غير المنطقية للعراقيين. مستأجر لطابق في مسكن طولي يمتلك سيارة بسيطة ... رانج روفر.

قد يسكّن هذا القلق الاستخدام المحموم لكاميرات المراقبة التي لا تمنع الضرر بقدر توثيقه. لكن الشعور بالعدائية تجاه الجيران فلا علاج ولا مسكن له، أصبح ساكني الشارع يقسمون الى مهاجمين ومدافعين عن الفضاءات المتوفرة لركن السيارات.

ساكن أو سكّان في بيت طولي يفتقر لموقف سيارات يهاجمون أي فضاء متاح لركن السيارة في الشارع مهما كان ضيقاً، وسكّان آخرين يدافعون عن الفضاءات المحاذية لمساكنهم غير الطولية.

لا أتكلم من الخيال هنا فأنا قد أكون شخصاً مكروهاً من جيراني سكّان أحد المساكن الطولية المقسم الى ثلاثة شقق عموديا. قبل إنتهاء العمل بالبناء ذهبت الى أحد المشاتل لشراء عوائق كونكريتية راسخة وزعّتها على الرصيف المحاذي لواجهتنا، وبهذا منعتهم من ركن سياراتهم العديدة على ذلك الرصيف. تصرّف أناني وبغيض أليس كذلك؟

أنا أبرره بحجّتين. الأولى سيصبح الرصيف موقف دائم للسيارات، تعيقنا عند استخدام الأبواب الخارجية وتمنعنا من المحافظة على النظافة. أما الثانية فرغبتي أن تشعر مالكة العقار دائماً أن تحويل البيت الضيّق الى شقق مرتفعة وتأجيرها هو إجراء غير قانوني. وأن يشعر المستأجرين أنهم يسكنون في شقق مخالفة للقانون وليس الأمر (عادياً) كما يعتقدون.

أصبحت جميع الشوارع الفرعية مع العوائق الكونكريتية والبلاستيكية أو دونها مليئة بالسيارات. يخاطب ياس خضر الرئيس السابق بالتساؤل:


والشوارع مدري هي من الفرح تحضن الناس، مدري هي الناس من كثر الفرح تملي الشوارع ؟

سيدي شكد أنت رائع سيدي!

 

نعلم أن حال سوق العقارات في المدينة معقد جداً ولم يكن هدف الكتابة مناقشة الحلول لذلك الحال إنما الاستعداد النفسي والعلمي للمستقبل الفوضوي الذي تتجه اليه المدينة وساكنيها الجدد والسابقين.

لم ينتهي الاستشراف بعد. فمن نظرة واسعة لواقع المدينة سنجد أننا باتجاه نسخ متعددة أخرى من ساكني مدينة بغداد. فزيادة على النسخة المتوترة لساكني المساكن الطولية، ستظهر نسخ بغدادية لساكني مشاريع الاسكان الجديدة. كيف ستكون شخصيات وسلوكيات ساكني الاسكان العمودي؟ ماذا سيفرض العيش في شقة على الانسان العراقي؟ وكيف ستكون شخصيات وسلوكيات ساكني الاسكان الافقي المرفّه الراقي؟

 

وكأننا بحاجة الى تصنيفات وتقسيمات جديدة زيادة على ما ورثناه من آباءنا الأولين.

- من يا عمام؟ وين بيتكم؟ بي كراج سيارات؟

 



 

استدراكات:

- بعد أن بكيت متأثراً بمشهد قطار الأنفاق بين ونستون تشرشل والشعب، عرفت أن تشرشل نفسه دعى لاستعمال سلاح الجو البريطاني بشكل مكثف وعنيف ضد المشاركين في ثورة العشرين في العراق. ليس بالقنابل فقط وإنما بالغاز السام أيضاً!  

- وصلت رواية (ماكيت القاهرة) الى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). تصفها قناة (كوكب الكتب) بأنها ليست موجهة لقارئ مبتدئ ولا لقارئ متوسطـ بل موجهة لقارئ محترف، بل شديد الاحتراف! نعم إنها رواية معقدة جداً.