الجمعة، 28 أغسطس 2020

الله من وراء النقد

 

الله من وراء النقد


لنتخيل اننا نستطيع حساب عدد المرات التي يقول بها طالب العمارة كلمة (نقد) خلال مراحله الدراسية الخمسة.       

ولنتخيل اننا نمتلك جهازاً يستطيع قياس وتصنيف انواع المشاعر التي يختبرها طالب العمارة قبل واثناء وبعد النقد!

ثم ينتهي كل ذلك مع نيل شهادة التخرج.

ولكن هل تنتفي بعدها حاجته للنقد؟

يبدأ العمل في الاظهار والتصميم والتنفيذ المعماري ويعرض ما ينجزه على عارضات شبكة الانترنت المتنوعة. فيسبوك، انستكَرام، تويتر وغيرهم الكثير، وهناك تحديداً اصبح للنقد المعماري امزجة او اجواء خاصة.

يعرّف النقد في اللغة العربية بانه تمييز الدراهم واخراج الزائف منها، وفحص الشيء وكشف عيوبه. اما معناه الاصطلاحي المستخدم في الآداب والفنون فهو ادراك النتاج (ادبي، فني، معماري) وكشف مواطن الجودة والضعف فيه.

لكننا في الاستخدام اليومي الشائع قد نميل الى حرفية اللغة العربية ونقيّد مفهوم (النقد) بكشف العيوب ومواطن الضعف غالباً وتهميش الاشارة الى مواطن الابداع والقوّة المتفردة.

وسأكتفي حالياً بالتعريف لانني لست بصدد الكتابة عن مفهوم النقد تفصيلياً (وهذا ما توفره مصادر ومواقع الكترونية متعددة) بقدر مناقشة (الاعتراف بالنقد والناقد محلياً).

في اجواء فيسبوك واخواته نحن امام موقفين:

-موقف المنتج: ليس الهدف الاساس من عرضنا لنتاجاتنا على الآخرين هو للحصول على النقد منهم. وانما نبحث عن نيل الاستحسان بالدرجة الاولى. نستعرض ما نبذل من جهد ونريده ان يعجب المتلقين.

-موقف المتلقي: جميع مشاهدين النتاج لهم امكانية توجيه النقد. وبسبب استيعاب تلك المواقع لجميع المستويات الثقافية والفكرية فقد اختلط النقد الايجابي المدروس بالنقد السلبي الساذج (وهو الغالب).

لذا اصبح المنتج في موقف دفاعي من النقد بصورة عامة وتشكّلت قناعة شائعة ان الهجوم النقدي هو دليل على النجاح وان الجميع تقتلهم الغيرة ويحاولون التقليل من قيمة العمل او النتاج.

كيف نستطيع التأسيس للاعتراف بالنقد والناقد؟

المشكلة الاولى عدم وجود مؤسسة معمارية اكاديمية رسمية تعطي (شهادة) للناقد لممارسة النقد. وتكون هذه الشهادة الخطوة الاولى للاعتراف به وتعتمد الخطوات اللاحقة على امكانياته النقدية.

ابلغني الصديق احمد جبار ان قسم الفنون المسرحية في كلية الفنون الجميلة جامعة البصرة يحتوي على فرع (الادب والنقد) ولا اعرف ان كان موجوداً في جامعة بغداد لعدم الاشارة اليه في موقعهم الالكتروني.

هل من الممكن ان تذهب اقسام العمارة الي تأسيس فرع للنقد المعماري؟ لا اعلم.

نحن بحاجة الى التمييز بين المؤهلات التي يجب ان يمتلكها الفرد ليصبح ناقداً معمارياً وبين ما يجب ان يلتزم به عند فعل النقد.

 فننتقل الى سؤال: اذا لم يكتسب الناقد المعماري صفته من مؤسسة فكيف سيكتسبها اذن؟

كانت نتائج الاستبيان (شبه العلمي) ان عليه ان يكون ذو ادراك ودراية بتاريخ ونظريات العمارة. كيف بدأت العمارة وكيف تطورت وماهو نمط تطورها والكثير من المعارف الخاصة بالانسان وحاجاته وترجماتها المادية باختلاف الزمان والمكان.

ثم ان عليه ان يكون خبيراً بالتصميم المعماري عارفاً بتفاصيل تحويله من المخططات الى هيئة واقعية بكل عناصرها وتحدياتها المادية والبشرية.

وان ينال شهادة اكاديمية عليا في العمارة (لاغراض القبول والتقدير الاجتماعي).



ثم نفكّر بعدها لماذا يقوم معمار بفعل النقد؟

ماهو الهدف الداخلي او الدافع او (النيّة) من وراء النقد؟

هل يكسب المال من كتابة المقالات النقدية او اللقاءات التلفزيونية او بانشاء قناة على يوتيوب؟

في سياقنا المحلي فان ذلك المكسب بسيط جداً وقد لا يستحق الوقت الذي تلزمه دراسة المشاريع وتحليلها وكتابة او تسجيل النص النقدي.

اذن هو اما ان يكون حريصاً على انتاج عمارة جميلة ملائمة (باختلاف ترجمة ملائمة) او ان يكون حاقداً على المعماريين الآخرين، مهووساً بالتقليل من قيمة الاعمال الناجحة، محباً لجذب الانتباه باراءه الصادمة والجارحة.

فيصبح تحدي الناقد هو اقناع الآخرين بصفاء نيّته حتى ان كان هو على يقين بانها صافية. اي كيف يشيع احساس حرصه على انتاج عمارة ملائمة بين فئة المعماريين (المنقودين)؟

واحدة من طرق الاقناع هو انتفاء تعارض المصلحة بين الناقد والمنقود.

فان كان الناقد يمتلك مكتباً عاملاً للتصميم المعماري ثم يقوم بكتابة مقالاً نقدياً عن تصميم منزل لمعمار آخر يعمل في نفس الزمان والمكان، لاصبح هنالك شكاً في ما دفعه لكتابة النقد حتى ان كان نصه علمياً مقنعاً، وذلك الشك لدى فرد المنقود على الاقل.

كيف سنوافق اذن بين الخبرة في التصميم والتنفيذ وبين انتفاء تعارض المصلحة؟

هل يفضل ان يكون الناقد معماراً شيخاً متقاعداً عن العمل بعد تجربة معمارية عظيمة وناجحة؟

واذا كان الناقد شيخاً فكيف سيتخلص من شبهة صراع الاجيال؟

انه يتوجه بالنقد للثقافات المعاصرة التي تبتعد كثيراً عما قبلها من ثقافة نشأ ومارس تجربته فيها. فثقافات اليوم تميل للشعبية مرة مقابل الرصينة السابقة. وتميل للتكنولوجيا المعقدة مرة ثانية مقابل البساطة السابقة. وهذا الموقف هو الذي جعل النقاد يهاجمون الكثير من النتاجات حين صدورها لتنجح بعدها وتصبح عالمياً الانتشار.

هل هو التحدي المستحيل؟ ان يكون الناقد محبوباً.

افكّر بحل عراقي، هو ان يجلس الناقد على مكتبه ويستقبل من يريد النقد طوعاً فقط. وهو حل لا يحقق اهداف النقد التفسيرية والتقويمية والارشادية.

او ان يقوم بنقد عمائر الراحلين من المعماريين ويرحل معهم بعد حين.





 

الأربعاء، 19 أغسطس 2020

متى يعوي النتاج المعماري؟

 

متى يعوي النتاج المعماري؟

 

يكتب David Mikcs عن Antonin Artaud الشاعر والممثل والمخرج المسرحي السريالي:

"عرض آرتو بدنه العاوي الى جمهور على استعداد لتذوق مسرحياته الطليعية ونوبات هيجانه على المسرح"

ولا اعتقد ان أي قارئ عراقي يستطيع ان يمنع ذهنه من التفكير بصفة (عاوي) العاميّة!

لنصبح في موقف يستدعي معرفة صفة ذلك البدن فيوصف من قبل Mikcs بالعاوي، وماذا نقصد نحن كعراقيين عندما نصف شئ او نتاج معماري (وهذا ما يهمنا) بانه عاوي ايضاً.

لن اطيل عليكم بالسيرة الذاتية لانطونين آرتو المتوفرة في وكيبيديا ومواقع اخرى، وما يهمنا هو انه مؤسس (مسرح القسوة).

يخبرنا عباس الماجد ان "المقصود بالقسوة ليست تلك القسوة الجسدية بما يمتلكه الإنسان من سادية بل هي عبارة عن أسلوب مسرحي يعتمد على مبدأ نسف النص وتحطيمه باستخدام العنف والصور الصادمة التي تناشد العواطف. وكانت الحركات الجسدية (الطقسية) عنصراً أساسياً وفي أغلب الأحيان حلّت محل النص التقليدي والبعض أدى العرض المسرحي بالكامل من خلال (الإيماءات) إذ كانت تُرى في تعبيرات الوجه وحركة الجسد".

اي ان الصراخ وتلوّي الجسد والذي خلق صوراً عنيفة او مزعجة في بعض الاحيان قد حل محل الكلمات في تجسيد افكار ومواقف المسرحيات المعروضة.

لذا يصبح الجسد ذو سلوك حيواني مشابه لعواء الذئب او الكلب. والهدف هو التعبير عن ذات الممثل او المؤلف بطريقة وحشية صادمة.


ثم نفكر، ماذا لو كان المنتج المعماري جسداً في مسرحية المدينة؟

فنتذكر (العمارة الوحشية)، (Brutalism) !

واقول مرة اخرى: لن اطيل عليكم بزمن ظهورها وروادها فيمكن معرفة جميع ذلك بسهولة.

ولكن لابد من اقتباس سبب تسميتها الذي اشتق من المصطلح الفرنسي (beton brut) ويعني الخرسانة الخام والتي استخدمت في البناء والتعمير بكثرة بعد الحرب العالمية الثانية. وسميت بــ(الوحشية) لان المعماريين الانكليز استخدموا مقطع (brut) فقط من المصطلح والذي يعني متوحش، لتتم تسمية الحركة بـ (Brutalism).

يقول الناقد المعماري Reynar Banham:

"هي حركة معمارية تهدف الى جعل فكرة ومفهوم البناء بكامله بسيطة ومفهومة دون الغاز او رومانتيكية، ولا غموض حول وظيفتها".

كانت مبانيها ذات مقياس نصبي ضخم جداً وكتل هندسية منتظمة ومتداخلة بشكل متوازن وذات هياكل انشائية كونكريتية مكشوفة للخارج والتي تشكل اغلب الكتلة المعمارية مع تعامل غير تقليدي مع اشكال ومواقع فتحات الشبابيك.

اذن فالوحشية ليست مفارقة لغوية بين الفرنسية والانكليزية فقط وانما هي صفة لمبانيها المتعددة.

هل يمكن ان نقول انها عمائر تعوي للتعبير عن وظيفتها او تكوينها المعماري او هيكلها الانشائي؟





 فالعواء اذن هو صفة الجسد او التكوين المعماري الذي تعبر هيئته وحركاته البشرية او المعمارية عن افكاره وذاته بطريقة قاسية وحادّة تكسر بقوة النمط المألوف للتمثيل او عمائر المدينة.


ماذا عن العواء العراقي؟

العاوي باللغة العربية هو فاعل العواء، اي الذئب او الكلب او من يسمى صوته عواء ايضاً. ونستطيع ان نتفق منذ البداية ان (العاوي) صفة سلبية تحديداً وليست متعددة الاستخدام. ولعل تلك السلبية تأتي من نظرتنا الدونية للحيوانات والكلب خاصة (لان بيئتنا اليومية تخلو من الذئاب). وتعطينا الامثال الشعبية صورة سريعة عن نظرة المجتمع تجاه الكلب فهم قد "وضعوا ذيله في القصبة اربعين يوماً ولم يعتدل" و "هو يعض اليد التي تمتد له" و"ينبح والقافلة تسير" واذا كان لدينا حاجة عنده فنناديه حجي (جليب) ونستخدمه بفخر للشتيمة.

ومن اجراء استبيان شبه علمي لتحديد الصفة الاوضح للشخص او الشئ او النتاج المعماري الذي نصفه بالعاوي، كانت النتائج تشير الى كونه:

-       ساذج، اي بسيط جداً حد الضعف وليس البساطة المدروسة التي تعبّر عن القوة.

-       غير نافع فهو لا يؤدي الوظيفة التي وجد من اجلها.

-       وقبيح ومزيّف ايضاً ومعاني أخرى.


واقتبس للمعمار ابراهيم باسم قوله عن العواء: "كون الشكل يصرخ ويتألم من قباحته".

اي ان العواء او الصراخ هو واضح للمستمع حد الازعاج، وكذلك النتاج او التكوين المعماري العاوي هو واضح السذاجة وغير المنفعة والقبح للمشاهد.

ما ينتج عن البحث العالمي والمحلي عن صفة العواء ان الطرفين يشتركون بوضوح وقسوة التعبير ويفترقون في نوع التعبير ذاته، فهو قد يكون ايجابي او سلبي في مسرح القسوة والعمارة الوحشية. ولكنه سلبي فقط  في استخدامنا المحلي.

قد يرى البعض ان هذا الجهد المعرفي او البحثي عديم الجدوى. ما الفائدة من معرفة صفة النتاج العاوي فهو عاوي؟

انا اقول ان الهدف هو ان نكتسب المرونة في احكامنا ورؤيتنا للعالم وثقافتنا.

في يومِ ما قد نقول لطالب عمارة او معمار ان نتاجك (عاوي) ونقصد بذلك انه واضح وشديد التعبير عن فكرته حد القسوة.

اللهم اني قد بلّغت ... اللهم فاشهد ...