السبت، 28 ديسمبر 2019

يومان مع راسم بدران


يومان مع راسم بدران

هل تستطيعون كتابة اسم )راسم بدران(، (Rasim Badran) على محرك البحث Google ؟

معمار عربي كبير، لا استطيع ان اضيف شيئاً بالكتابة عن سيرته الذاتية المذكورة في الكثير من المواقع الالكترونية، ولكنني ساحاول سرد قصة معرفتي به اولاً ثم لقاءه شخصياً.

تم قبولي عام 2001 لدراسة العمارة، العام الذي يسبق شيوع استخدام شبكة الانترنت كمصدر مفتوح للمعرفة، لذا كان حصولي على مجموعة من الكتب والمجلات المعمارية كنز ثمين من صديقة والدتي التي درست العمارة بداية الثمانينيات.
مجموعة كبيرة من مجلات (Architectural Record)، والاهم كتاب باللغة الالمانية يتحدث عن معماريي العالم الثالث، وتوجهاتهم بين تقاليد عمائر بلدانهم وبين محاولاتهم في التجديد والاضافة، وقد طبع الكتاب عام 1980. ولانني لا افهم اللغة الالمانية فالفائدة الوحيدة حينها متابعة صور المشاريع المعمارية بالابيض والاسود.


ولكل معمار منهم صورة شخصية، احدى تلك الصور لمعمار بنظارات شمسية وشعر طويل يرتد الى الخلف بفوضوية، سالف طويل، شارب سميك ونظرة بعيدة عن الكاميرا. كانت صورته تتطابق مع ما سمعته عن غرابة اطوار الشخصية المعمارية، اتذكر تعليق شقيق صديقة والدتي نفسها عندما علم بدراستي العمارة، نظر الى الثلاجة امامه قائلاً: هل تعتقدون ان المعماريين يرون هذه ثلاجة؟ قد يرونها وردة، من يعلم!

صاحب هذه الصورة المميزة كان المعمار راسم بدران وقد حفظت اسمه منذ تلك الايام.



عام 2019 عندما علمت باستضافته في  المؤتمر الدولي للعمارة والتصميم الداخلي  لجامعة Tishk  الدولية (TIU) في مدينة اربيل، قررت الذهاب والمشاركة بلا تردد.
وكانت حصيلتي معه: الاستماع لمحاضرتين ممتعة، زيارة مشتركة لقلعة اربيل التأريخية واوتوكراف ثمين.




جدالات وافكار كثيرة حفزها ذلك اللقاء السريع عن الشخصية المعمارية وعن التصميم المعماري بتفصيلاته المعقدة وعن بيئة التصميم والعمل، ولكن كعادتي في الكتابة وضعت عناوين لافكار لم اجدها عندما استعنت بـ(google) للبحث عن المعمار راسم بدران:

-الارث العائلي: ينحدر المعمار من عائلة عريقة ومختصة في الفن، والده جمال بدران فنان تشكيلي ونحات وخطاط واكاديمي، وقد كانت موهبة راسم بدران واضحة منذ البداية، يفوز بجائزته الدولية الاولى بعمر 12 عام في مسابقة لفنون الرسم والتصوير، ويمتلك اسلوباً مميزاً بالرسم والتخطيط منذ الطفولة.



من البديهي ان يتميز الانسان او المعمار تحديداً الذي يعتمد على ارثه العائلي عن انسان او معمار آخر ينحدر من عائلة وبيئة بسيطة، فهو يتغذى الفن والثقافة منذ الطفولة بينما قد يتعرف عليها الآخر في مرحلة الدراسة الجامعية.
لاتوجد قاعدة ثابتة بالتأكيد، لكننا ننتبه للحالات المتكررة ونعتبرها ظاهرة، وقد نكون مخطئين.
تلك الحالات تشير الى ان من يمتلك ارثاً عائلياً يلتزم غالباً بطروحات ذلك الأرث، ويسير على نفس الطريق باختلاف الاتجاه لكل عائلة او فكر، وقد يكون مجبر على ذلك او مختار. اما من لا يملك إرثاً فسوف يشق لنفسه طريقاً حراً لا يلتزم ولا يهتم لمنجز اب او جد.

اقتبس لكم سريعاً عن الطرفين للاثبات:

يخبرنا معاذ الآلوسي في مقدمة كتابه نوستوس قائلاً: (كان الوالد يذكرني على الدوام بميراثي، نصيحته الدائمة لي هي "مقياسك لأي قرار مرغم على اتخاذه هو مدى رضى السلف الصالح من الاجداد على هذا القرار").

 ثم يحدثنا بيدرو ميرال (روائي ارجنتيني) عن دانيال بطل احدى رواياته:
(عندما ادرك انه تاه، لم يرتبك، بالعكس، احس بحماس غريب ولّدته امكانية تفسّحهُ دون ان يقع على شخص او شيء معروف، ولأول مرة لمس الحرية التي يجدها المرء حين يكون نكرة: يفعل ما يريد دون ان يعلق احد على فعله، او ينتقده او يربط افعاله باسمه او عائلته).

نقرأ لعالم الاجتماع الدكتور علي الوردي تشبيهاً بان لكل حضارة قدمين، ولكي تستمر (تمشي) هذه الحضارة، فان لها قدماً ثابتة (متمسكة بالماضي) وقدماً متحركة (كافرة بالماضي)، وقد يكون هذا الحال في العمارة ايضاً، يقسم المعماريين الموهوبين الى قسمين مع ضرورة وجودهما دائماً. قسم يسير على ارثه العائلي، فيحافظ على اسرار المهنة وينتج عمارة جميلة تتمسك بالماضي وقسم يسير باي طريق يحلو له فيجدد فيها ثم يصنع لنفسه ارثاً ويفرضه على ابناءه بعد حين.  

-المعمار وجامع الدولة الكبير: ليس الهيكل العظيم الموجود في موقع مطار المثنى سابقاً، وانما هو جامع تم الاعلان عن مسابقة دولية لتصميمه عام 1982 حيث تم دعوة 23 مكتباً معمارياً (محلياً وعربياً وعالمياً) للاشتراك في المسابقة، نال المركز الاول فيها التصميم المقترح من قبل المعمار راسم بدران.


وقد سمعت منه شخصياً ونقرأ في مصادر أخرى أن لتلك المسابقة في العراق وللمعمار رفعة الجادرجي الذي دعاه للمشاركة فضل كبير على المعمار ومنجزاته اللاحقة، لان تلك المسابقة قد نالت نصيب من النقد والنشر المعماري العالمي حينها، مما وضع اسم راسم بدران ومنجزه المعماري وتوجهه التصميمي امام اعين العملاء الآخرين والسعوديين تحديداً لينال فرص تصميم مشاريع عديدة هناك نالت جوائز عالمية كثيرة.

المسابقة توثقها الكثير من الكتب العربية ايضاً لمن يريد المزيد عنها، حيث يفرد لها معاذ الالوسي مثلاً فصلاً في كتابه نوستوس.

-تجربة مكان: لراسم بدران اسلوب معماري مميز نجد جميع تفصيلاته في كتاب (The Architecture of Rasem Badran)، هو يسميها عمارة المجتمع الاسلامي، فيتواصل مع التراث ويوظف عناصره بطرق متنوعة تحقق هدف المبنى بالتأكيد، مع الاهتمام بـ(قصة التصميم) التي نسميها (الفكرة التصميمية) والتي تنبع في اغلب الاحيان من طبيعة الموقع والمجاورات وبذلك يحاول ان يخلق صلة مع البيئة القائمة (الطبيعية والعمرانية) فيكون تصميمه متجانساً مع الموقع وانسان الموقع وليس مقحم فيه وعليه.
 في احدى مساجده في السعودية يفتخر بان رجل كبير اخبره بأن المسجد (يذكرني ببيت اهلي).




وبعد احدى محاضرتيه بدأ نقاش مدى تقبّل الاجيال الشابة لمثل تلك الافكار التي قد تحسب ظاهراً على العمارة التقليدية مقابل كل ما ننبهر به على شبكة الانترنت من عمارة عالمية معاصرة.
الاجيال الشابة وحتى العملاء الجدد اصبحوا يعتبرون مفردة القوس مثلاً مفردة قديمة بالية لا نجدها في اغلب تصاميمنا المعاصرة، وغيرها من المفردات المعمارية المحلية التي تنبع من البيئة المناخية والجغرافية للعراق ودول الشرق الاوسط.
كان جواب المعمار ان توجهه ومفرداته ليست قديمة او تراثية وانما هي مناسبة لتحقق بيئة معمارية ملائمة للمكان فالتصاميم تحقق تنوع في المشاهد المعمارية بالاعتماد على عناصر المدينة العربية زيادة على تحقيق الانارة الطبيعية وغير المباشرة، المتعة البصرية والحركية وجميع مبادئ التصميم المعماري.

ولكن الحقيقة ان الاجابة غير مقنعة مادمنا نشاهد مشاريعه كصور على شاشة ذكية او على حواسيبنا واجهزتنا النقالة فقط.
نعم نحن نشاهد المشاريع بحاسّة واحد فقط فتخبرنا عيوننا ان تلك العناصر قديمة من الماضي، ولكن ماذا ستخبرنا حواسنا الاخرى عندما نزور تلك المشاريع ونتجول داخلها؟
ان علاقتنا مع العمارة التراثية او المحلية هي علاقة مشوّهة لاننا نشاهدها كصور فقط. طلبة العمارة والمعماريين بحاجة الى تجربة فيزيائية للمعالم المعمارية المحلية، وهي اشكالية ليست بجديدة والحديث عنها ليس جديد ايضاً، اما عن الحلول فـ(كلٌ يعمل على شاكلته)، استاذ العمارة يخصص الكثير من الوقت لزيارة تلك المعالم، وطالب العمارة وخريجها يزورها ان استطاع اليها سبيلا.

لم انهِ ذلك اللقاء ونقاشاته بصور رقمية ليست ذات قيمة، بل نسخت عدّة صفحات من كتاب اعماله والذي يحوي الكثير من مخططاته، ورجوته ان يوقع لي على احداها لتبقى مؤطرة تذكرني براسم بدران ولقاءه الممتع الذي قد لا يتكرر.     











الأحد، 1 سبتمبر 2019

برج اللؤلؤة


سرديات الفضول
سلسلة تعتمد دافع الفضول في التحري عن الثقافة المعمارية في مجالات السينما والفن والادب

-6-

برج اللؤلؤة

يتساءل المشاهدون على محرك البحث Google هل البرج الذي يظهر في فلم (Skyscraper) هو مبنى حقيقي؟
والاجابة هي: كلا انه مبنى خيالي، تم تصميمه ليخدم قصة الفلم، او بتعبير ادق تم تصميمه ومن ثم بناء قصة الفلم المشوّقة.

فلم (Skyscraper) انتاج عام 2018 ومن تمثيل Dwayne "The Rock" Johnson ويتشارك معه البطولة البرج نفسه والذي يحمل اسم (The Pearl).



برج اللؤلؤة افتراضياً هو البرج الاطول في العالم والاكثر تطوراً ويقع في مدينة هونك كونك، يتألف من(240) طابق وبارتفاع (1067) متر علماً ان ارتفاع برج خليفة الحالي في دبي (830) متر. وينتهي البرج بقاعة مراقبة كروية الشكل منحته اسمه (اللؤلؤة).




صمم البرج للفلم (Jim Bissell) وهو مصمم انتاج شهير وليس بمعمار، ولكننا نجد معه حوار ممتع عن تحديات تصميم البرج وعلاقته بالتصميم المعماري على موقع dezeen.com.


وللبرج فكرة تصميمية كما يخبرنا المصمم ومصدرها اسطورة صينية قديمة تدور حول تنين ولؤلؤة، نقرأها باكثر من رواية عند البحث عن تفاصيلها، فمرة هو تنين يمتلك لؤلؤة يستأنس بها ثم يسرقها البشر منه، ومرة هو ولد وامه يمتلكون لؤلؤة ايضاً وعندما يرغب الآخرين بسرقتها يبتلعها فيتحول الى تنين يحمي القرية التي كان يعيش فيها. وفي كل الاحوال فالتنين في الثقافة الصينية يمثل رمزاً للقوة والمتانة والحظ الجيد.



يجسد البرج تصميمياً فكر وتوجه الاستدامة المعاصرة في اكتفاء الطاقة والبيئة الصحية للشاغلين وتمثل عناصر الاستدامة في البرج تحديات لبطل الحركة "The Rock" وافضل اجزاء دراما الفلم الممتع.

في مقابل اطلاعنا كمعماريين على العديد من تصاميم الابراج عالمياً وانبهارنا بها فاننا لانجد في مناهجنا الدراسية في اقسام العمارة ما يجعلنا اكثر معرفة في تصميم الابراج ومعرفة متطلباتها.
قد تفسر المؤسسات التعليمية ذلك بعدم شيوع الابراج في البيئة العمرانية العراقية وبالتالي لا تعتبر المعرفة المعمارية الخاصة بالابراج اساسية في دراسة البكالوريوس على الاقل. وهو تفسير يتعارض مع التوجه المعماري المستقبلي ومع صفة العالمية التي نطمح ان يكتسبها المعماري العراقي.

علماً انني كنت محظوظاً بحضور كورس عن الابنية العالية في دراسة الماجستير تخصص تكنولوجيا عمارة للدكتور على العذاري، ولكن ذلك الكورس ذهب مع الدكتور علي عندما احيل على التقاعد مع الاسف. والدكتور على العذاري هو مهندس انشائي كان من الاسماء البارزة في الجامعة التكنولوجية.

منهج الكورس الدراسي بخط الدكتور علي العذاري

وفي الايام الاخيرة كنت محظوظاً اكثر بعثوري في احدى المكتبات على كتاب تعليمي للاطفال، نعم للاطفال ولكنه مناسب لحصولنا على معرفة اولية في تصميم الابراج وحساباتها الرياضية في مختلف التفاصيل الانشائية والخدمية.

الكتاب  من تأليف Hilary Koll و Steve Mills وسأضيفه الى مجموعتي لاستقبال طلبة المرحلة الاولى سنوياً.


لم يبق امامنا سوى الكتب وشبكة الانترنت في تعلم المزيد عن تصميم الابراج او ناطحات السحاب او ان نسعى للحصول على كورسات تعليمية خارج العراق.









السبت، 20 يوليو 2019

Make (Something) Smaller


سرديات الفضول
سلسلة تعتمد دافع الفضول في التحري عن الثقافة المعمارية في مجالات السينما والفن والادب

-5-

Make (Something) Smaller

افكر باللهجة العراقية العامية: نقول (يكمش) للاشارة الى الامساك بشيء، ولـ(يكمش) اصول عربية فصيحة، فـ(كَمَشَ) فعل ومنه (كَمَشَهُ من عُنُقِهِ: اي لواهُ بيدهِ من عُنُقهِ).

ونستخدم بالعامية ايضاً صفة (كَمش)، نطلقها على الرجل فنقول: (هذا واحد كَمش)، وهي مرادف لـ(الغشيم) وقد نقصد بها الانسان قليل الذكاء او قليل الحيلة فهو ينخدع من الآخرين بسهولة وينقاد خلف ما يريدون منه.
الـ(كمش) العامية، اصولها حيوانية، تطلق على الطائر الذي يمكن امساكه بسهولة وتأتي بعبارة (كمش عالتيغة)، والتيغة كما نعرف هي جدار السطح الذي تقف عليه الطيور غالباً.

وان الانسان الذي يتواصل مع شعوب العالم ومعاناتها عن طريق الاخبار او الافلام الوثائقية وغيرها من الوسائل المعاصرة ولا يدرك حجم الخطر الذي يتعرض له كوكب الارض نتيجة لسوء استخدامنا له فهو انسان (كمش).

اننا نستهلك كوكب الارض، وستصبح حياة الاجيال القادمة صعبة جداً، قد يهتم الاباء الفعليين (من لديهم ابناء الآن) بتوفير حياة افضل لهم انطلاقاً من حبهم لهم وخوفهم عليهم، اما الشباب فيجب ان يحفزهم التزامهم الاخلاقي او على الاقل مصلحتهم الشخصية وهم في اعمار متقدمة، لنتخيل انفسنا بعمر الثمانين مثلاً ودرجة الحرارة (60) درجة مئوية ولا توجد طاقة كافية لتشغيل اي وسيلة تبريد ولا ماء كافي للشرب او الاغتسال، انه الجحيم على الارض وقد نجده امامنا للابد في الحياة الاخرى.

تحاول الجهات المسؤولة رفع الوعي تجاه الحفاظ على الكوكب بوسائل كثيرة ومتنوعة، ومنها فلم (Downsizing) من بطولة الممثل (Matt Damon).


يشير الفلم الى ان التضخم في اعداد سكان الارض هي المشكلة الاكبر، خصوصاً مع نمط الحياة المؤذي للارض والمستهلك لمواردها، فنعيش الارتفاع في درجات الحرارة غير المسبوق والفيضانات وكوارث الطقس الاخرى.

ويقترح المؤلف في عالم الخيال، ان الحل الامثل والعلاج الحاسم لتلك المشكلة هو تقليص حجم الانسان!

حيث يتوصل مركز بحثي الى تصغير الانسان بطول 180 سم الى انسان بطول 13سم فقط، ولكم ان تتخيلوا كمية الموارد الذي يحتاجها هذا الانسان الجديد من الكوكب وكمية المخلفات المؤذية التي يطرحها في البيئة.


لا يخاطب الفلم التفكير الاخلاقي للمشاهدين فقط وانما يخاطب تفكيرهم المادي ايضاً، فمن يصغّر حجمه يستطيع ان يحقق جميع احلامه وان يعيش حياة سعيدة بمبالغ ضئيلة جداً، حيث تكفيه 83 دولاراً لعيش سنتين كاملتين.

ما يهمنا اكثر كمعماريين من طروحات الفلم وافكاره هو تقليص احجام المساكن وبالتالي القرى والمدن، فالمتطوعين الاوائل للتصغير وعددهم (38) شخصاً صممت لهم قرية متكاملة بمساحة (77) مترمربع.


والـ(Downsizing) في عمارة المساكن ليس بمفهوم جديد في العالم، ولكن الفلم يلفت انتباهنا له، علماً اننا نعيشه محلياً منذ مدة ليست بقصيرة. فبعد ان كانت مساحة 200 مترمربع للمسكن في مدينة بغداد تعتبر صغيرة لوجود مساكن بمساحة (400-600-800) وحتى (1000) مترمربع، وصلنا الى مساكن بمساحة 50 مترمربع فقط.

الهدف من المقارنة بين تطبيق المفهوم عالمياً والواقع الذي نعيشه هو لمحاولة التصحيح في المستقبل والاقتراب من الجانب العلمي الذي تعتمده دول العالم المتقدمة.
ان الدخول في تفاصيل اسباب انتقالنا من المساحات الواسعة الى الضيقة ياخذ الكثير من الوقت، ويمكن تلخيصها سريعاً بان التخطيط الاصلي للمدينة كان يعتمد ظروف اقتصادية واجتماعية مختلفة جداً عن اليوم، ووجود قانون سابق لا يسمح لكل من يرغب بشراء منزل في مدينة بغداد، وقوة تطبيق القانون الذي يحدد 200 مترمربع كاصغر مساحة يمكن ان تكون منزلاً مستقلاً قابلاً للبيع والشراء وغيرها بالتاكيد. ليأتي بعدها التغيير عام 2003 بتحدياته الامنية والاقتصادية والادارية لنصل الى المساحات الصغيرة الحالية.

وقد نفكر ان المشكلة ليست بالمساحات الصغيرة نفسهة، فالاشخاص يعيشون بمساحات بحجمها او اصغر منها في مدن العالم الاخرى، ففي نيويورك تعيش (Felice Cohen) بمساحة (8،5) مترمربع وتقدم نصائح للآخرين للعيش بمساحات مقاربة، وغيرها من الامثلة كثير، ولكن مشكلتنا العراقية في قضيتين:
طريقة تصميم تلك المساحات واسلوب عيشنا داخلها.


يخبرنا (Finn Macleod) عن :
5 Things Architecture Can Learn From the Tiny House Movement
وهي تالياً كعناوين فقط اما التعليق والتفكير محلياً فهي لي :
Bigger isn’t always better
المساكن الصغيرة هي اسهل واقل كلفة في البناء والصيانة وهي مناسبة اكثر للمالكين في ظل التحديات الاقتصادية المعاصرة في دول العالم، اما محلياً فهو اختيار اجباري، فمن اختار المساحة الصغيرة ليس لديه خيار المساحة الكبيرة من الاصل. بينما من الجانب النفسي او الروحي فالمساحة الواسعة هي بنظر المجتمع اكثر تفضيلاً على ان تقترن بالراحة في تفاصيل الحياة الاخرى بالتأكيد.

Capitalize on vertical space
واحدة من ايجابيات المساكن الصغيرة الغربية هي الفضاء الداخلي المفتوح على الرغم من صغر المساحة، فالمسكن يتضمن فضاء واحد مضاعف الارتفاع في اغلب الحالات ومن ثم اقتطاع فضاءات الخصوصية الصغيرة منه بقواطع بسيطة كفضاء النوم والاستحمام.


وهذا محلياً يأخذنا الى عدة قضايا، الاولى تتعلق باسلوب الحياة العراقية والتي تميل الى التأكيد على خصوصية الفضاءات، فنرى ان قطعة الارض بعرض (5) متر فقط ومن ثم لا يتنازل المقاول او صاحب البيت عن اقتطاع متر كامل لممر بجانب غرفة الضيوف الامامية، وذلك كي لا يرى الضيوف في حال وجودهم من يخرج ويدخل من العائلة.
 الانفتاح الوحيد التي بدأنا نراه في مخططات البيوت الضيقة هو انفتاح فضاء الطبخ على فضاء جلوس العائلة وهي معالجة جيدة كبداية. بعدها يجب علينا كمعماريين ان لم نستطع اشاعة ثقافة انفتاح الفضاءات على بعضها ان نشيع ثقافة التقطيع باستخدام الاثاث او عناصر معمارية ذات سمك قليل (اقل من 25سم) لزيادة مساحة الفضاءات.
ثم نأتي للفضاء المضاعف والذي له اصول محلية منذ التسعينات حيث ظهر كميزة غنى ورفاهية واطلق على نمط بيوت حينها بالـ(دبل فوليوم)، وانا اعتقد ان مصدر الفكرة هي القصور الرئاسية للنظام السابق، وللفضاء المضاعف وجود ايضاً في شقق الطاقة الشمسية المطلة على النهر في شارع ابي نؤاس.


الفضاء الداخلي للشقق السكنية في ابو نؤاس/ موسوعة العمارة العراقية
هي معالجة مريحة بصرياً ونفسياً ولكنها تتعارض مع المتطلبات الفضائية الكثيرة للعوائل العراقية فهم يريدون ثلاث غرف نوم وحمامين ومطبخ وصالة جلوس وضيوف وكل ما يحلمون به!

Mixed-use spaces are the only spaces
استخدام نفس الفضاءات بطرق متنوعة، وهذا ماهو واقع في مساكننا المحلية وخاصة استخدام فضاء الضيوف كمعيشة او استخدام المعيشة كطعام او الضيوف والمعيشة كفضاء للعب الاطفال.

Connect with the outdoors
وهنا واحدة من القضايا التي لا نستطيع توظيفها محلياً، وذلك لانعدام الفضاء الخارجي الذي تتحدث عنه المصادر الغربية، فلا تقع مساكننا في مناطق طبيعية مفتوحة وانما في شوارع ضيقة يخلو بعضها حتى من الارصفة. زيادة على قساوة البيئة الخارجية لارتفاع درجات الحرارة في اشهر عديدة من السنة.
الانفتاح على الخارج ليست بخيار سهل في عمارتنا المحلية.

Minimalism is the key
المنيمالزم او ترجمتها الى التقليلية او التبسيطية، هي فكرة في الفن والعمارة واسلوب حياة، وهي استخدام اقل عدد من العناصر للتعبير او لتأدية وظيفة معينة. ونحن محلياً ابعد ما نكون عنها.




نحن مجتمع لا يحب البساطة، لاننا نعتبر ان البساطة هي ضعف، ونحن ذو اصول مقاتلة لا نحب الضعف.
فنعمل مع المساحات الضيقة بتغليف واجهة البيت بالحجر واضافة العناصر الزخرفية بشتى انواعها ونملئ البيت بالاثاث الضخم والتحفيات واللوحات. كل هذا يجعلنا نقول:

اننا ذهبنا ولازلنا باتجاه المساكن الصغير ولكننا لا نمتلك ثقافة المساكن الصغيرة
فالعوائل والمقاولين والمهندسين المدنيين وحتى المعماريين يرغبون بحصر جميع صفات ومتطلبات المسكن الكبير في المسكن الصغير وهذا يجعلنا بعيدين عن الراحة المطلوبة.

ان نستطيع اشاعة ثقافة المساكن الصغيرة هو تحدي كبير وصعب، ماهي ثقافة المساكن الصغيرة؟
التبسيط او التقليل، في عدد العناصر المعمارية وفي التأثيث وفي كل شئ
فالبساطة للاقوياء







الجمعة، 12 يوليو 2019

عمارة معمرة


عمارة معمرة

كيف نستطيع تصميم مبنى ونتأكد بانه سيحتفظ بقيمته المعمارية لمئة عام قادمة؟
اي ان نصمم مبنى يمتلك من الصفات ماتجعله مرغوباً من الناس ويجذب اهتمامهم، وهذه الصفات نستطيع ان نعيدها الى ثلاثية فيتروفيوس، فيجب ان يكون ذو صفات تؤدي وظيفة معينة بنجاح وان يمتلك صفات جمالية مستمرة وان يحتفظ بقوته الانشائية حتى بعد مئة عام كاملة.

هل بالامكان تحقيق ذلك؟

للاجابة نستمع اولاً لما يخبرنا به الباحث والمؤلف (Nassim Nicholas Taleb) عن العمر الافتراضي للاشياء التي لاتهرم ولاتموت حيث يقول:
" ان هنالك قاعدة مجربّة لمعرفة العمر المتوقع للاجهزة والمباني والافكار، وهي معرفة كم تبلغ من العمر حالياً وكلما كانت اقدم، كانت فرصها اقوى في البقاء".

Nassim Nicholas Taleb

ان المبنى الذي نريده تصميمه خارج هذه القاعدة اذن، لانه لم يبنى بعد، اي ان عمره (صفر) سنة، لذا وجب علينا دراسة المباني المعمرة حالياً ونتعلم من صفاتها ونضمنها فيه، لانها هي المباني التي سوف تبقى لوقت اطول في المستقبل حسب ما تقوله القاعدة.

يعلّق (Tom Chatfield) على القاعدة السابقة في مقاله:
( The Simple Rule That Can Help You Predict The Future)
" اذا اردنا ان نتنبأ بالمباني التي ستبقى لقرون من الآن تقترح القاعدة بأن نبدأ باقدم المباني الموجودة في المدينة. فالزمن هو المعيار الاهم عند تقدير العمر المتوقع، فاذا اردنا معرفة المعالم التي ستبقى مستقبلاً علينا النظر الى المباني التي صمدت بالفعل في وجه صروف الدهر وضرباته لعقود او قرون او آلاف السنين".

هذه القاعدة كان قد اطلق عليها نسيم طالب اسم (Lindy's Effect)، نسبة الى (Lindy's Law) الذي اقترحه المؤلف الامريكي (Albert Goldman) عام 1964 ولكن مع بعض التعديلات.


(Lindy's Effect) كما يعتقده نسيم طالب ينص على " ان الاشياء التي ظلت صامدة لفترة طويلة، لا تشيخ كالبشر، بل تتقادم عكسياً اي ان كل عام تصمد فيه امام التقلبات يضاعف عمرها المتوقع". اي ان استمرارها سابقاً يزيد من عمرها مستقبلاً.

لنحاول تطبيق (Lindy's Effect) على مباني مدينة بغداد، ولنأخذ المنطقة التي نتفاعل مع ابنيتها القديمة ونزورها وهي الممتدة من المدرسة المستنصرية وساحة الرصافي وحتى ساحة الميدان ووزارة الدفاع القديمة.


ننتبه الى ان هنالك ثلاث حالات لتلك المباني المعمرة:
-       مباني استطاعت المحافظة على قيمتها الجمالية والانشائية ولكنها لا تلبي وظيفة فعلية حالية، كالمدرسة المستنصرية والقصر العباسي.
-       مباني استطاعت الحفاظ على قيمتها الجمالية والانشائية وتم توظيفها بوظائف جديدة غير التي صممت لاجلها، كالقشلة وبناية المحاكم (المركز الثقافي البغدادي).
-       مباني استطاعت الحفاظ على قيمتها الجمالية والانشائية وبنفس الوظيفة التي صممت لها وهي المساجد والجوامع المتعددة في المنطقة، كجامع السراي وجامع الوزير وجامع الحيدرخانة.

جميع تلك الامثلة السابقة تفوق اعمارها المئة عام وبعضها تفوقه بكثير، وهي لاتزال محتفظة بقيمتها المعمارية بصورة عامة وسنأتي الى تفصيل تلك القيمة والتعلّم منها.

لنبدأ بالصفات الوظيفية اولاً والتي كانت مؤثرة في التصنيف السابق:
المباني الوحيدة التي حافظت على نفس وظيفتها بنجاح هي المباني الدينية، لاننا نعرف ان متطلبات الجانب العبادي من الدين لم تتطور او تتغير، كالصلاة تحديداً. زيادة على هذا الثبات النسبي هنالك الجانب القدسي لكل ما يتعلق بالدين في مجتمعنا، مما يجعل المبنى محترماً سالماً من التجاوزات ومعتنى به من الجميع، ثم يأتي الجانب القانوني المتمثل بنظام (الوقف) الاسلامي الذي يمنع التصرف بالمبنى لغير هدفه الموقوف له وتخصيص موارد لصيانته.


جامع الحيدرخانة سابقاً وحالياً
اما المباني التي استطاعت استيعاب وظائف جديدة، فهي ذات مخططات مرنة، والتي تتضمن غرف منفصلة مفتوحة على فضاء عام واسع، حيث يمكن استخدامها لوظائف متنوعة، فمخططاتها لاتحتوي على خصوصيات تصميمية وظيفية من الممكن ان تصبح غير ملائمة بعد خمسين او مئة عام.
مع الانتباه لمتطلب مؤثر وهو تكنولوجيا التكييف والتبريد غالباً او التكنولوجيا بصورة عامة، فمبنى المركز الثقافي او حتى القشلة قد استوعب اجهزة التبريد دون حصول تشوهات جمالية شديدة. ولكن لنتخيل مبنى المدرسة المستنصرية او القصر العباسي مع وحدات تبريد منتشرة في اروقته او على جدرانه الخارجية!

المركز الثقافي البغدادي
مجسم للقشلة على Google Earth وعلى اليسار جامع السراي والى الاعلى جامع الحيدرخانة

وهذا ياخذنا الى القيم الجمالية التي تمتلكها تلك المباني، فلا احد منا يستطيع ان يقول ان المدرسة المستنصرية قبيحة.
والسبب هو نظم التناسب المتنوعة التي اعتمدتها عمائر الحضارات السابقة ومن ضمنها العمارة الاسلامية التي من الممكن تصنيف عمارتنا او ارثنا المعماري المحلي ضمنها.
لنظم التناسب تفاصيل عديدة يمكن دراستها في كتاب (الهندسة والرياضيات في العمارة-دراسة في التناسب والمنظمات والمنظومات التناسبية) للدكتورة قبيلة المالكي، وفهمها اساس لكل معمار يطمح لانتاج اعمال مميزة، مع وجود الكثير من الادوات المساعدة لاستخدام تلك النظم كالمواقع الالكترونية وخيارات برامج التصميم والاظهار الحاسوبية.


بالاضافة الى النسب الجميلة هنالك عنصر القوس، هذا العنصر الذي استطاع ان يحافظ على جماله لاكثر من مئة عام فسوف يستطيع الاستمرار لمئة قادمة حسب قاعدة (Lindy's Effect)، الا يدفعنا هذا التنبؤ الى استخدام القوس والاعتماد على نجاحه السابق؟

المدرسة المستنصرية
القصر العباسي

نصل الى الصفات الانشائية المطلوبة للمبنى المعمر، لقد كان التحدي في السابق اصعب بكثير مع مواد الانشاء الطينية والخشبية، اما اليوم فلدينا الخرسانة المسلحة التي يتراوح عمرها الافتراضي بين(50-100) عام وحسب دقة المواصفات والتنفيذ والبيئة المحيطة.
ثم ستمر سنوات قليلة لنحصل على تكنولوجيا بنائية اكثر متانة واسهل تحكم كالمواد المضافة للخرسانة بانوعها ومن ثم المواد النانوية المستقبلية.
الا ان تلك الابنية الطابوقية المعمرة لم تستمر هياكلها الانشائية كما هي دون اعمار واصلاح بين فترة وأخرى، ولكن ما يدفع الانسان الى اعمارها دون غيرها هو قيمها الرمزية والوظيفية والجمالية سابقة الذكر.

واخيراً علينا كتابة الوصفة التي تعلمناها ويفضل ان نتبعها لجعل تصاميمنا معمرة ايضاً:
-       صمم جامع او مسجد او حاول ان تضيف بُعد ديني للمبنى الذي تصممه مهما كان نوعه، استأجر جماعة من الناس لتمثيل حصول معجزة في المبنى! حاول ان تدفن فيه شيخاً او ولي من اولياء الله الصالحين.

-       حاول ان يكون المخطط الافقي مرناً وقابل للاستخدام باكثر من وظيفة. من الممكن ان تتضمن دراسة الجدوى للمبنى قبل البدء بالتصميم الوظائف المستقبلية التي من الممكن ان يتحول اليها.
لنتخيل تمريناً لمادة التصميم المعماري يطلب من الطالب ان يصمم مبنى واحد ولكنه ملائم لوظيفتين مختلفتين:
صمم مستوصفاً طبياً في منطقة معينة للحاجة الماسة اليه، ثم بعد خمس او عشر سنوات يخطط لاستخدامه كمدرسة ابتدائية نتيجة لزيادة عدد سكان تلك المنطقة ودون اجراء تغييرات جوهرية على المبنى.

-       يجب ان نقوم بدراسة نظم التناسب وفهمها والتصميم بموجبها لانها وسيلة لضمان قاعدة للجمال لا تتبدل بتبدل الاذواق و(المودات) ومن ثم استعمال عناصر جمالية اخرى من الممكن ان يتم تغييرها او استبدالها عند الضرورة.

-       ان اغلب الوظائف الانسانية تتغير متطلباتها نتيجة للتطور التكنولوجي، والتكنولوجيا هي سمة العصر الحالي وسنعيش طفرات عظيمة كما نقرأ في الدراسات المستقبلية ونشاهد في افلام الخيال العلمي، لذا اهم ما يجب ان يتصف به المبنى الذي نصممه هو كونه هيكلاً انشائياً يستطيع استيعاب وسائل التكنولوجيا والخاصة بتوليد الطاقة والتكييف غالباً في بيئتنا العراقية، ثم تأتي اهمية استيعاب تكنولوجيا الانارة والأمن والترفيه.

-       الاهتمام بشروط التنفيذ الانشائية وهي مهمة المهندس المدني والمقاول وفريقه، ولكن من الممكن للمعمار الاشراف على عملية التنفيذ والعناية بها.

ولكن كل المتطلبات السابقة بحاجة الى عميل (الجهة المستفيدة من المبنى) مثقف ومتفتح ينظر بعيداً الى المستقبل لا الى المبالغ التي سيدفعها اليوم فقط  دون حساب عوائدها المستقبلية، وهو المتطلب الاصعب تحقيقاً بين جميع ما سبق.