الثلاثاء، 15 يناير 2019

من سيرى الـ(site) الخاص بي؟


من سيرى الـ(site) الخاص بي*؟

يتفق الجميع على أن العمارة تشترك مع الاعمال الفنية الأخرى بالفائدة الجمالية والفكرية ثم تمتاز عنها بالفائدة الوظيفية، ففي الثلاثية الخالدة لفتروفيوس تشترك العمارة والفن بركن الجمال ثم تختص هي بركني المنفعة والمتانة.
وصناعة الجمال في تصميم العمارة والأعمال الفنية يتم بقواعد واحدة تقريباً، باستخدام عناصر التصميم التي تجمعها علاقات شكلية معينة لتحقيق مبادئ التصميم المتعددة والتي بهيمنة احدها يتحقق تكوين فني أو معماري يتسم بالوحدة، فلا تكوين بدون وحدة كما تخبرنا المعمارية شيرين احسان شيرزاد.

ولمّا كان الإنسان يتخيل الأشياء من حوله فطرياً بطريقة مجسمة، ويشاهد الناس التصاميم المعمارية بعد تنفيذها على أرض الواقع بطريقة مجسمة ايضاً، يشترط على المعماري تحقيق الجمال في المنظور ثلاثي الأبعاد الخاص بتصميمه. فعناصره وتنوعها وعلاقاته ومبادئه وتنوعها تتضح للانسان المار في الشارع امام المبنى من مختلف الزوايا او المتوجه لدخوله مباشرة.

وهنا نتساءل، هل يوجد مشاهد في الشارع (ليس معمارياً وهم الغالبية بالتأكيد) يحاول الوقوف أمام التصميم (المبنى) بطريقة متعامدة ليشاهد واجهته ثنائية الابعاد تماماً فيحكم على جمال عناصرها وعلاقاتها ومبادئها؟
الاجابة هي: لا بالتأكيد ...

اذن ما الفائدة من تصميم ورسم الواجهات ثنائية الابعاد والعناية بكل تفاصيلها الجمالية؟
نحن نعلم ان عملية تنفيذ التصاميم المعمارية اي تحويلها من المخططات على الورق الى عناصر بمواد مشيدة لا يتم بالاعتماد على المنظور، وانما على مخططات ثنائية الابعاد بقياسات ثابتة لاتتغير بتغير زاوية الرؤية وارتفاع الناظر. وبذلك فتصميم ورسم الواجهة والاهتمام بجماليتها هو لاغراض تقريب جماليات المنظور من التنفيذ، فجماليات الواجهات ثنائية الابعاد هي ترجمة لجماليات المنظور بلغة هندسية انشائية.

ويأتي السؤال الاكثر أهمية، كم عدد المشاهدين الذين سيركبون الطائرات لمشاهدة (site) المبنى او التكوين المعماري وتقييم جمالياته؟
قد نفترض ان الاجابة هي: لا يوجد، فلا احد يرى تكوين المبنى من الاعلى وحتى الاشخاص على الطائرات فهم على ارتفاع كبير جداً لتمييز تفاصيل التكوين.

 لماذا نهتم بجمالية التكوين من الاعلى اذن؟ فمن الممكن ان يكون الـ(site) مستطيل فقط ثم تنتظم الكتل المرئية من قبل المشاهدين في الشارع على واجهاته الخارجية.
وللاجابة يجب ان نعرف ان تصميم الـ(site) هو انعكاساً دقيقاً لتصميم المخطط الافقي للمبنى، فالعناصر الشكلية التي تعطي للمخطط هيئته الكلية والنابعة عن الفكرة التصميمية بمختلف مصادرها هي ذات العناصر التي تؤلف هيئة الـ(site) للمبنى.
واذا كان المخطط الافقي للمبنى هو المعبر عن التصميم الوظيفي له، باشكال فضاءاته وابعادها ومداخلها والفضاءات الانتقالية بينها، فما الحاجة الى الجمال فيه؟ ليكن مخططاً مستطيلاً او مربعاً بحلول وظيفية مريحة وفعالة.
بعيداً عن آراء بعض الحركات المعمارية التي طُرحت في زمن ابتعد كثيراً  كحركة الحداثة وبعيداً عن بعض الانماط الوظيفي كالابنية الصناعية والمخازن، فأن حضور جمال التكوين في المخطط الافقي وفي الـ(site) انعكاساً، من الاساسيات في التصميم المعماري. وعن ذلك يشير (francis ching) الى ان جماليات المخططات واعتماد تصميمها على النُظم البصرية قد لا تُدرك مباشرة بواسطة المشاهد غير المختص بالعمارة، ولكنها تصبح محسوسة ويتم تمييزها عن طريق سلسلة من الزيارات او التجارب مع المبنى بمرور الزمن.
فتصميم (site) يمتاز بالتنوع ضمن الوحدة وبالتالي مخطط افقي بنفس الصفة، يفتح الباب امام المستخدم لاستكشاف علاقات وتفاصيل جديدة في كل مرة يزور المبنى وتستمر المُتعة البصرية مع الحفاظ على الحلول الوظيفية الناجحة بالتأكيد، فهو يعيش الجمال في حركته بين الفضاءات وداخلها وليس من الخارج فقط.

ولكن هل تكوين الـ(site) بحاجة الى عناصر كثيرة وخاصة عناصر لا يمكن رؤيتها من مسقط آخر؟ ونحن نرى الكثير من المشاريع الناجحة والمنفذة بمخطط موقع بسيط جداً وبدون تعقيدات شكلية، ونعلّق بعدها ساخرين ان هذا التصميم لو قدمناه لاساتذتنا فلن ينال درجة النجاح بالتأكيد!


California Academy of Sciences / Renzo Piano


 وللاجابة عن السؤال نحن بحاجة الى ادراك الفرق بين الجانب الاكاديمي والجانب العملي للعمارة، ففي الجانب الاكاديمي يحاول الاساتذة تحفيز الطالب للطاقة القصوى ليصبح جاهزاً للمتطلبات التصميمية في الجانب العملي بكافة انواعها. الامر أشبه بتدريب عدّاء رياضي على قطع مسافة 2000 متر، بعدها يصبح مؤهلاً للمشاركة في سباقات 2000 متر و1500 و1000 و800 متر، بينما لو تدرب على قطع 1000 متر فقط فسيجد صعوبة للمشاركة في الفئات الاعلى.
وعند الانتقال للجانب العملي للعمارة سنجد الامر مختلف تماماً وتؤثر الكثير من القضايا البيئية والاقتصادية وغيرها على طبيعة التصاميم التي ننتجها، والتي قد تتسم بالبساطة حينها ولكنها ناجحة وكفوءة.

وبالعودة الى فرضية عدم رؤية الـ(site) من الطائرات، فقد تثبت التكنولوجيا عدم صحتها! نعم هنالك الآن طائرات تصور المباني من الاعلى وتستكشف جمالها من عدمه.
فمع ظهور الطائرات المسيرة (drons) وسهولة اقتناءها واستخدامها اصبح من السهل جداً توظيفها في تصوير وتوثيق العمارة واستكشاف جمالياتها من جميع المساقط، ونجد مثالاً ما قام به مختصوا التصوير المعماري (Denis Esakov) و(Dmitry Vasilenko) باستكشاف الهندسة الخفية كما اسموها لمباني الحداثة السوفيتية.




واخيراً وبالتفكير بمقياس اكبر فان مخططات المباني من الاعلى وطبيعة التخطيط الحضري لقطاعات المدن وشوارعها هي التي تعطيها هوية مميزة عن جميع مدن العالم الاخرى، فنستطيع معرفة مربعات برشلونة ومثلثات باريس وغيرهن من المدن المميزة.



      

*العنوان بوحي من كتاب (who moved my cheese) للكاتب سبنسر جونسون.