الخميس، 25 أبريل 2019

رابع جار


رابع جار

لقد كانوا جميعاً بانتظار تلك اللحظة، اللحظة التي ستنتهي فيها اعمال البناء في المنزل المجاور لهم. عام وعشرة اشهر وثلاثة عشر يوماً من الازعاج المتواصل.

استيقظ هادي صباح احد الايام على صوت محرك لرافعة شوكية وتوجيهات بصوت مرتفع في الشارع. وجد زوجته بجانبه على السرير وهي تتصفح هاتفها المحمول:
-        ماهذه الاصوات المزعجة؟
-        لا اعلم لقد ايقظتني انا ايضاً، اخرج لترى ماذا هناك.

عندما فتح الباب المطل على الحديقة باغته الهواء المثقّل بكمية كبيرة من ذرات الغبار، وعندما فتح الباب المطل على الشارع، باغته منظر المنزل المجاور وقد فقد عدداً من جدرانه.
كان منزلاً متواضعاً وبطابق واحد، وقد اصبح متهالكاً وبشقوق واضحة على واجهته مع مرور الزمن، جدرانه وسقفه مشيدة بالطابوق فقط وهي الطريقة التقليدية في بناء البيوت العراقية قبل استخدام الكونكريت المسلح في صب الاسس والسقوف والارضيات.
لم يكن سائق الرافعة يبذل جهداً كبيراً في عمله، فبمجرد ان يدفع بذراعها الهايدروليكي احد جدران المنزل حتى يتهاوى سريعاً ويتحول الى تلّة من الطابوق.

منذ ذلك اليوم واعمال بناء منزل جديد في مكان القديم متواصلة، حتى خلالعطلة نهاية الاسبوع، وهذا يعني الاستيقاظ صباحاً على اصوات العمال وادوات البناء، ومحاولة نوم قيلولة بعد الظهر على نفس تلك الاصوات.

 كان هادي يراقب تطور البناء يومياً اثناء خروجه في الصباح واثناء عودته الى المنزل. بدأً من اعمال تسليح الاساس الذي لم يعد ينفذ كما يتذكره هادي عندما اشرف على بناء منزله، كانوا يقومون بحفر الارض لايام طويلة وعلى شكل خنادق اسفل اماكن الجدران حتى يصلوا الى عمق متر كامل، اما اليوم فان الاساس الكونكريتي يقع فوق مستوى سطح الارض وهو يغطي كامل مساحة البناء. راقب هادي جدران الطابق الارضي وهي ترتفع عن الارض، ثم جدران الطابق الاول، ثم جدران الطابق الثاني، ثم الثالث!
لقد تحول المنزل ذو الطابق الواحد الى برج من اربع طوابق ينتصب وسط المنازل المنخفضة. وبدلاً عن عائلة واحدة سيسكنه اربع عوائل جديدة، في كل طابق شقة لاحدى العوائل.

استيقظ هادي صباح يوم الجمعة على اصوات مختلفة، اشياء تسحب على اسطح معدنية، اشخاص ينادون بعضهم بعضاً. لم تكن لديه النيّة لتفقد الامر بعد ذلك الازعاج المتواصل لاعمال البناء. لم يعد يشعر بالفضول او حتى الرغبة بمراقبة العمال خوفاً من ان يتسببوا لمنزله بالضرر.
-        لقد بدأ السكنة الجدد بنقل الاثاث لشققهم.
قالت زوجته بعدم اهتمام وهي تدخل الغرفة لتاخذ بعض قطع الملابس من الخزانة.
-        يا الهي سنستطيع النوم بهدوء اخيراً.

اعتاد هادي وعائلته تناول طعام الغداء يوم الجمعة سوية. لم يعد يلتقي بابنه ياسر وابنته ميادة كثيراً، لذا فقد حافظ على هذا التقليد العائلي لقضاء ساعة من الوقت معهم. بعد ان اصبح لكلاً منهم عالمه الخاص وشخصيته المستقلة، اما هو وزوجته سميرة فمنشغلين دوماً بالعمل وادارة المنزل وتوفير متطلباته.
-        يجب ان نعد اليوم طعام العشاء لجيراننا الجدد. قال هادي لزوجته وهو يتابع حركتها في رفع صحون الطعام عن المائدة.
ساد الصمت لنصف دقيقة قبل ان تجيبه سميرة وهي تجلس على الكرسي المقابل له:
-        لا اعلم يا هادي ولكني متعبة جداً، لا استطيع اعداد الطعام الكافي لاربعة عوائل.

قالت ميادة بصوت منفعل بعد ان كانت تساعد والدتها في اعداد كؤوس الشاي:
- هل تنوي تقديم العشاء لهم حقاً يا أبي
- نعم يا ابنتي. انه تقليد بغدادي قديم نشأنا عليه منذ الطفولة، فالساكن الجديد ينهي يومه متعباً في التنظيف ونقل الاثاث ومن واجب جيرانه ان يساعدوه، ولان اعداد الطعام بحاجة الى تجهيز المطبخ كاملاً، فكانوا يساعدونه بتقديم طعام الغداء او العشاء في اليوم الاول، ولتبدأ بينهم علاقة طيبة مبنية على المحبة والسلام.
اجابت ميادة باندفاع:
-        انه تقليد مناسب للماضي يا ابي، عندما كان الساكن الجديد يطرق الباب على بيت الجار ليستأذنه في السكن بجواره، او ليعتذر منه مقدماً اذا بدر منه اي ازعاج في بناء او ترميم البيت، اما اليوم فلقد كنت انت شاهداً بنفسك، لم يبذل احداً عناء الاعتذار عن الازعاج المستمر الذي عانيناه طوال الفترة الماضية. بالاضافة الى ان بناء المنزل المجاور مخالف للكثير من القوانين. انت تعلم ان القانون لا يسمح ببناء مرتفع وبسلم خارجي في المناطق السكنية، تخيّل المشاكل التي سوف نعانيها في الطاقة الكهربائية نتيجة للاستخدام الزائد للمنزل الجديد، تخيل عدد السيارات التي ستقف امام باب المنزل وعلى الرصيف لانه لا يحتوي على موقف للسيارات. ان تقديمنا العشاء لهم هو اعلان قبولنا لجميع تلك المخالفات واعترافاً بأنهم لم يرتكبوا اي خطأ بحقنا وبحق المنطقة والمدينة.
-        نعم انا اعلم جيداً ولكنها التقاليد، ثم انهم سيصبحوا جيراننا في كل الاحوال، سنلتقي بهم صباحاً ومساءاً لذا يجب ان نبني معهم علاقات طيبة، لسنا بحاجة الى المشاكل.
-        الاجدر بنا يا ابي ان نطيع القوانين اولاً ثم نفكر باتباع التقاليد.
-        ولكنهم قد يكونوا مجبرين يا عزيزتي، فالمدينة تعاني من ازمة في المنازل، لقد انتقل اليها الكثير من الموظفين الحكوميين والباحثين عن العمل من المدن الاخرى ولم تعد المساكن السابقة تكفيهم، بالاضافة الى صعوبة التنقل اليومي بين المناطق بسبب الازدحامات المرورية، لذا اصبح البعض يبحث عن منازل قريبة من اماكن عملهم.

كانت سميرة تستمع للنقاش بين زوجها وابنتها وهي تحرّك ملعقتها بهدوء في كأس الشاي امامها، لم تعجبها النبرة الحادة التي تتكلم بها ميادة مع ابيها، ارادت سميرة ان تقلل من حدة النقاش فقالت مازحة:
-     انتم تفكرون بتقديم الطعام لهم او بمقاطعتهم ولكنكم لا تفكرون بي! انا من ستعد طعام العشاء لهم وانا من سيذهب لمعالجة المشاكل معهم في حال حصولها.
ضحك الجميع وهم على يقين بصحة ماتقوله الام.

ساد الصمت على الطاولة، وفي تلك اللحظات كان كلاً منهم يفكر بالقضية من وجهة نظره الخاصة. الاب يحاول ان يلتزم بالصفات الجيدة التي تربى عليها في مدينته العريقة، سميرة تحاول دائماً ان تلعب دور الوسيط بين هادي والافكار التي يؤمن بها وبين اولادهما الشباب وافكارهما الثورية، ميادة كانت تحتقر كل من يخالف القانون ويسبب الفوضى والخراب للمدينة، اما ياسر فكان يفكر بالفتاة الجميلة التي شاهدها تنقل الاغراض من سيارة النقل الى الشقة في الطابق الثالث.

-        لما لا نقدم الطعام لاصحاب الشقة في الطابق الثالث فقط؟ قال ياسر بصورة عفوية عكست ما كان يفكر به حينها.
-        ولماذا شقة الطابق الثالث؟ سألته ميادة مع نظرتها المعتادة عندما لا يعجبها ما يبدر منه.
-        انهم في الطابق الاخير ولا يوجد في المنزل مصعد لنقل الاغراض لذا فهم اكثر من سيناله التعب في نهاية اليوم.
-        اذا كنا سنقدم العشاء لعائلة واحدة فمن المفترض ان يكون لسكنة الشقة في الطابق الارضي لانهم سيكونون الاقرب الينا فعلياً ولن يرانا سكان بقية الشقق ونحن نقدم لهم الطعام. اجابت ميادة بتهكم.

في هذه الاثناء رن جرس الباب الخارجي ونهض ياسر كعادتة ليتبين من الطارق، عاد بعد عدة دقائق وهو يحمل طبقاً مغلفاً بالسيلوفان اللمّاع وعلى وجهه ابتسامة غريبة.
-        ماهذا؟ سألته امه بسرعة.
-        انها وجبة غداء جاهزة من العائلة في الطابق الثالث!