الجمعة، 26 مايو 2017

حرية مزيفة

هل هو نوع من أنواع الانتحار؟
أن تحشر نفسك وسط أكثر الأماكن زحمة في بغداد، تسير على أرصفة وشوارع زارتها المفخخات بكثرة، تلقي التحية على شرطي لا يكترث لمن يجتاز حاجر التفتيش الزائف...
 وكل ذلك لتبحث عن اللاشئ.

الحرية؟
من أشد الصراعات التي نعاني منها في حياتنا اليومية قضية عدم تكرار أخطاء الآخرين او عدم فعل ما لا نقبله من الآخرين، او بعبارة تقليدية : عامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
صباح الجمعة وفي الاسواق القريبة من المنزل كانت مهمتي شراء نصف طبقة من البيض، ولأن بعضه غير نظيف أمضيت الوقت وأنا أجمع البيضات النظيفة من هنا وهناك، وإذا بسيدة كبيرة السن تعترض أمام جميع المتسوقين.
 لماذا أختار ما يحلو لي؟ يجب أن أشتري طبقة البيض بما فيها من مشاكل؟ إنني أرتكب فعل محرم بتركي البيض غير النظيف للآخرين!
ولأنها زبونة إعتيادية وليست صاحبة الاسواق ذو الاخلاق العالية ... أجبتها إجابة حادة لا عهد لي بها، حتى أنا نفسي تضايقت من إجابتي ...
في طريق العودة حاولت تفسير سبب إنفعالي ... هو ذلك التدخل السافر والمفاجئ في شؤوني الخاصة ومن شخص ليس لي به علاقة من قريب أو بعيد.
كنت مستمتعاً بالصباح وبأداء نادر لمتطلبات المنزل خلال أسابيع مليئة بالانشغال الدراسي، وإذا بشخص يريد أن يفرض رؤيته الشخصية على ما أقوم به.
لقد أعتذرت بعدها من صاحب الاسواق ... ولكن:
 عندما يشاهد إبن أختي ما يعجبهُ من مقاطع فيديو لمتحدثي يوتيوب من دول الخليج ... أعبر عن رأيي بصراحة عن عدم جدوى مشاهدة هذه المقاطع عديمة القيمة والفائدة، وضرورة أن يشاهد مقاطع أخرى مفيدة وهادفة ... فعندما كان يشاهد مقطعاً لتحدي اللهجات اجبرته على ايقاف المقطع وبحثت له عن مقطع من قنواتي المفضلة كبديل لاقناعه بتفاهة ما يشاهده.
وبعد بحث طويل اخترت مقطعاً لصاحبة ورشة فنية تشتري الدراجات الهوائية القديمة لتستخدم قطعها في تصميم اشكال مبتكرة من الدراجات ... لم يعجبه الأمر أبداً ... جاملني لبضعة دقائق ثم عاد الى أصدقائه المفضلين!

إذا كنت أفكر في مصلحته كونه طفل صغير قليل الخبرة فأنا في نظر السيدة الكبيرة طفل أيضاً ولا أعرف كيف أتصرف وفقاً لآداب الشراء.

إذا كنا ننزعج من محاولات الآخرين لتقليص فضاءات الحرية فهل نستطيع أيقاف أنفسنا من التضييق على حريات الآخرين؟

فضاءات الحرية؟
في نفس صباح تلك الجمعة شاهدت لأول مرة جارنا السيد المسؤول، سكن منذ عدة سنوات مع كرفان حراسه الشخصيين وسيارات الأجرة التي يمتلكونها ومولدته الكهربائية وموكبه المظلل الصباحي.
عندما شاهدته كان بحاجة الى شئ من أحد الحراس ... الملفت إنه كان يقف على الخط الفاصل بين الكراج والشارع ولم يستطع تجاوزه، كان مرتبكاً بإنتظار حارسه ليأخذ ما يحتاجه ويختفي بسرعة وراء الباب.
أي حياة هذه لا يستطيع الإنسان معها أن يخرج الى الشارع؟ أن يمشي بين الناس، يراقب البيوت والاشجار والحيوانات.
أسف ... يستطيع أن يفعل كل ذلك ولكن خارج العراق!

أما في العراق فالحرية هي أن تزور المنطقة من باب الشرجي الى باب المعظم صباح الجمعة ... لن يهتم أحد لمن تكون أو ماذا ترتدي أو ماذا تحمل، تستطيع أن تطلق لنفسك العنان.
تمشي في دروب قديمة قدم بغداد، تختلط بالناس والكتب والدراجات والحيوانات، تغرق في غرائب بائعي الملابس والسلع المستعملة، يعطس شخص على يدك، ولا تستطيع أن تلمس وجهك لأن جميع أوساخ الدنيا قد أنتقلت الى يديك!  
 تستطيع أن تذوب في عالم عجائبي أفراده أُناس فقراء ممن يتمتعون بهذه الحرية الزائفة بدلاً عن السفر الى خارج العراق.
الغريب أن البحث عن اللاشئ في هذا العالم قد يوصلك الى إيجاد أشياء عظيمة:
(puzzle) لنسخة مصغرة عن جدارية الحب في باريس، معلم معماري لم أسمع عنه أبداً من قبل، جدار كتبت عليه العبارة الشهيرة بكل لغات العالم.


 تقول (Rebecca Plotnick) المصورة الفوتوغرافية والمصممة للـ(puzzle):
إن أفضل طريقة لإستكشاف باريس هي الضياع في شوارعها...   
لا نستطيع قول الشئ نفسه عن بغداد ولكن على الأقل نحن بحاجة الى السير على الاقدام في شوارعها لإستكشاف ما تخفيه عنا... كمكتبة لبيع الكتب (يوزك الشيطان) لدخولها فتجد بعد بحث نسخة ورقية عن كتاب يعني لك الكثير : لورنا سنواتها مع جواد سليم.


وكتاب عملاق عن جميع تفصيلات جائزة الآغا خان للعمارة.

تشتريهما وبأي سعر يطلبه البائع...

وأخيراً يروي لنا جدي دائماً قصته عندما كان صغيراً وهو يعود الى بغداد بعد سفرة الى إحدى المحافظات ... في السيارة ذات الهيكل الخشبي مع أبيه سمع أنهم سيصلون قريباً الى بغداد، فقال بلهفة الطفل : (هييي حنوصل بغداد) ... فأجاب الشيخ الذي يجلس بجانبهم:
بغْدَادُ دَارٌ لِأَهْلِ الْمَالِ طَيِّبَةٌ ... وَلِلْمَفَالِيسِ دَارُ الضَّنْكِ وَالضِّيقِ

ظَلَلْتُ حَيْرَانَ أَمْشِي فِي أَزِقَّتِهَا ... كَأَنَّنِي مُصْحَفٌ فِي بَيْتِ زِنْدِيقِ