الخميس، 25 أغسطس 2016

(التحدي) بين تسويق الكتب والعمارة

كتب علي الوردي قبل مقدمة كتاب (خوارق اللاشعور) التحذير التالي :
إن هذا كتاب ربما ينفع الراشدين من الناس – أولئك الذين خبروا الحياة وأصابهم من نكباتها وصدماتها ما أصابهم. أما المستجدون والمدللون والأغرار الذين لم يمارسوا بعد مشكلة الواقع ولم يذوقوا من مرارة الحياة شيئاً فالاولى بهم أن لا يقرأوا هذا الكتاب ... إنه قد يضرهم ضرراً بليغاً.

وكتب ديل كارنيجي في توصيف كتابه (دع القلق وإبدأ بالحياة) التوضيح التالي:
وبعد- فإنك لم تشتر هذا الكتاب لتقرأ كيف كُتب، بل إنك تتطلع الى التنفيذ. وهذا حسن. فلتبدأ بالقراءة ... وأرجوا أن تقرأ الصفحات الخمسين الاولى من هذا الكتاب ... فإذا لم تشعر بعدها أنك أحرزت قوة جديدة للقضاء على القلق والإستمتاع بالحياة ... فطوح بهذا الكتاب في سلة المهملات ... فلا خير لك فيه ! 

من منا يعترف أنه مستجد لم يمارس بعد مشاكل الواقع ولم يذق مرارة الحياة؟
ومن لا يطمع بالقضاء على القلق والاستمتاع بالحياة؟

إن العارف لشخصيتي الوردي وكارنيجي وإختصاصهما في علم الإجتماع والعلاقات الإنسانية يدرك إنهم الأكثر معرفة بطبيعة الإنسان وما يحركه ويدفعه لإتخاذ القرارات في حياته.
والرغبة في قراءة الناس لكتابهم وشراءه طبعاً رغبة مشروعة جداً ودافع لكي يكمل الكاتب مسيرته.
لذا إستخدم كلاً منهم تحدي أو إستفزاز القارئ ...

ومعنى التحدي، كما يخبرنا (Google): الدعوة الى فعل شئ مع (التلميح) الى عدم القدرة على ذلك.
أما معنى الإستفزاز فهو: إخراج المرء عن طوره، إثارته وإزعاجه ودفعه الى الغضب.

لذا فمحاولتهم أقرب الى التحدي من الاستفزاز، فالوردي يقول: أنت مدلل لذا لا تقرأ كتابي ... فأقول: كلا أنا لست مدلل وسأقرأ كتابك لأثبت لك ذلك.
وكارينجي يقول: أنت لا تريد أن تتخلص من القلق، ولا تريد أن تستمتع بالحياة، وإذا كنت تريد فأقرأ على الأقل خمسين صفحة ... فأقول: بالطبع أريد التخلص من القلق وسأشتري الكتاب وأقرأه حتى النهاية.
إذن هي حيلة تسويقية مشروعة، خاصة عندما يكون للكتاب محتوى جيد كما في المثالين، وتكون تلك الحيلة مبتذلة جداً لو كان الكتاب خاوي ومستهلك.

والآن كيف نستفيد من هذه الفكرة في تسويق العمارة ؟؟
كيف نتحدى الزبون لندفعه الى التعاقد معنا لتصميم مبناه؟ وكيف نتحداه بعدها لينفذه على أرض الواقع؟
ما أعرفه هو أن الأمر أكثر تعقيداً من الكتب، فأنا أقبل التحدي وأشتري الكتاب بعدد مقبول من آلاف الدنانيير، عشرة أو خمسة عشر ألف دينار ... ولكن ماذا عن تكاليف التصميم والتنفيذ؟
هل سيكون التحدي دافعاً كافياً ليدفع الزبون الملايين؟
وماذا سنقول له لإستفزازه ودفعه لقبول التحدي؟


حالياً لا أعرف، وأدعوكم للتفكير معي بمنطق أو إسلوب مناسب لتحدي زبون العمارة كما يتحدى الكتّاب قارئ الكتب، وكما تحدى المحتالين الإمبراطور وسكان مدينته في قصة ثوب الإمبراطور عندما قالوا له: سنصنع ثوب عجيب يراه كل الناس الا الأحمق !










السبت، 20 أغسطس 2016

سلطة الهامش الهندسي

وخدمة المحافظة على صورة الزبون المستقبلية

حكى لنا أستاذنا الدكتور علي العذاري في أحد الأيام عن الشهيدة ماركَريت حسن رحمها الله ...
  
والحكاية تقول: عندما كانت تنتهي من إنجاز أحد المشاريع فأنها تبدأ بتأهيل كادر الإدارة والتنظيف قبل أن يباشروا عملهم في المشروع. وتقول في ذلك أو هو قول الدكتور العذاري، إن عامل أو عاملة النظافة مثلاً لديه مقياس للنظافة في البيئة التي يعيش فيها، ولأن هذه المهنة في العراق غالباً ما يعمل بها من لا تسمح له مهاراته العمل في مهن أخرى، أو لانه لا يمتلك من العلاقات ما توفر له مهنة أفضل وخاصة في القطاع العام، فإن مقياس النظافة الذي يقتنع به ويعمل عليه غير ملائم لمستوى المعايير الصحية للمشروع أو المؤسسة التي يعمل فيها.
ولمقاييس الجمال ودقة إنجاز العمل إختلاف أيضاً بين مقاييس البيئة التي يأتي منها عامل الخدمات بصورة عامة وبين مقاييس البيئة المطلوبة للمؤسسات الحكومية.
لذا يلعب تأهيل الكادر بمحاضرات مدروسة دوراً كبيراً في تعريفهم بمستوى العمل المطلوب وتغيير رؤيتهم لمستوى النظافة والجمال والدقة التي إعتادوا عليها في بيئتهم.


وهنا يأتي الإرتباط مع مفهوم سلطة الهامش (التدوينة السابقة) ...
عامل النظافة وعامل البناء قد نفكر بهم لأول مرة كهامش في إنجاز وإدامة وتشغيل المشاريع الهندسية، والسبب هو أنهم عديمي السلطة الهندسية والإدارية، فهل هذا صحيح؟

حان دوري لأحكي حكاية ...
يعمل إبن جيراننا وهو مهندس معماري على إضافة جزء جديد لمسكنهم، وهو يقوم بالأعمال بطريقة مدروسة وتدريجية كونه يمتلك الخبرة وكادر البناء المطلوب، وبعد إزالة الأنقاض وتجهيز حديد التسليح وتقطيعه، جاء دور الصبة الخرسانية ... ولأن شوارع المنطقة تم إكسائها منذ مدة ليست طويلة كنت قلقاً بخصوص الآثار التي ستتركها عملية مزج المكونات على سطح الإكساء وحتى تغيير لونه الغامق المنتظم لكل الشارع.
وفي فجر يوم جمعة يستحق النوم سمعت أصوات المحركات، خرجت الى السطح لأجد مضخة الخرسانة تقف أمام بيتنا مباشرة.
عدت للنوم وأنا مطمئن بأنه إتخذ القرار المناسب فلا وجود للمواد الأولية للخرسانة على أرضية الشارع ولا مزجها عليه، سيأتي المزيج جاهزاً عبر السيارات لتضخه المضخة الى الموقع المطلوب.
وعند إرتفاع الشمس بانت الأضرار، خرجت لاجد أرضية الشارع وقد تحولت الى خريطة ... وهنالك جُملة بذيئة لا أستطيع كتابتها ولكنها تصف تماماً ما حدث للأرضية.
 بقعة زيت محرك للسيارات كبيرة في وسط الشارع ... آثار إطارات السيارات وهي تدخل وتخرج من تلك البقعة ... الإسمنت والرمل الناتج عن تسرب مياه الخرسانة يلون الأرضية  ويترك آثار أحذية وإطارات السيارات ....
 ويجب ألقول أن المهندس قد وجه العمال بعد أن إنتهى العمل على التنظيف ولكن بعد خراب البصرة.
لم أكن حاضراً وقتها، ولكن يمكن الإستنتاج أن كل تلك الأضرار ناتجة عن أخطاء إرتكبها العمال المنفذين لخطة المهندس.
 قد نقول أن المهندس قد قصّر في متابعة العمل ولكن تلك الأخطاء ماكانت لتحدث لو تغيرت نظرة العمال (بإختلاف الأعمال التي ينجزونها) لمفهوم الجمال والدقة، فسائق السيارة مثلا لا يكترث لسيارته التي تترك بقع زيت قبيحة في كل مكان تقف فيه، ومن الممكن أن لا أحد إعترض على هذه الحالة في كافة الأعمال التي أنجزها. وسائق سيارة مزج الخرسانة لا يكترث للكميات التي تقع على أرض الشارع أثناء تفريغ الخرسانة في المضخة وهو قد يستطيع معالجة المشكلة بوضع حاوية أسفل مكان التفريغ.
لذا فإن الهامش الهندسي (العمال) بإنجازه للعمل بالطريقة التي يريدها أو هو مقتنع بها يؤدي الى تخريب العمل المعماري وقد لا يقتل العمل نفسه وإنما يقتل صورة صاحب العمل ...
لا أستطيع أن أمتنع عن ذم جاري وقد أضر بجمالية الفضاء العام (الشارع السكني)، ولنتخيل أن هنالك بيت جديد يُبنى في المنطقة ونحن لا نعرف الساكنين بعد، ولكن نتيجة للأضرار التي يسببها البناء (نتيجة لقرار المهندس أو المقاول أو حتى العمال) على راحة الجيران أو على الفضاء العام للشارع، سوف نتخذ موقفاً سلبياً من ذلك الجار المستقبلي.
لذا أتمنى أن نضيف للخدمات الهندسية التي تقدمها المكاتب المعمارية للزبائن خدمة (المحافظة على صورة الزبون المستقبلية لدى الجيران)، من خلال حرص المهندس المشرف أو توظيف شخص محدد لمتابعة عدم التسبب بأي ضرر للمجاورين، وحتى من الممكن أن يزور المهندس الجيران قبل البدأ بالعمل وخلق علاقة طيبة معهم والاستعلام منهم عن المنطقة وتفاصيلها كونهم يمتلكون الخبرة والمعرفة نتيجة للسكن فيها.

والآن نصل الى الحل المقترح لمواجهة العواقب السلبية لسلطة العمال، والسلطة ناتجة عن إنجازهم البدني للأعمال الهندسية في ظل غياب المكننة في العراق.
لن أقول أن الحل هو بفتح معاهد لتثقيف العمال وتطوير ذوقهم الفني لأنه حل خيالي جداً ويخرج عن سلطتنا الفردية، ولكن الحل هو تنبيه المنظفين والعمال الى عدم جودة ما يقومون به، فعندما نرى منظف ينتهي من مسح لوح زجاجي مثلاً وهو لا يزال غير نظيف من الممكن أن نأخذ منه أدوات التنظيف وننظفه بأنفسنا ليصل الى مستوى النظافة المطلوب. وعندما يقوم العامل برمي قناني المياه الفارغة ومخلفات البناء مثلا نقوم برفع تلك المخلفات أمام عينيه ونضعها في المكان المناسب.
الفكرة أن نشعرهم بأن ما يقومون به ليس هو المطلوب وأنهم لا يجيدون العمل تماماً كما يتخيلون.
قد يكون الأمر سهلاً لو كان لنا سلطة على أولئك العمال، كأن يأخذون أجورهم منا، أما لو كانوا خارج سلطتنا فقد نتعرض منهم للإستهزاء بالتأكيد وحتى بعض الأعمال العدوانية ...
فعندما تطلب من عمال البلدية أن ينجزوا العمل المطلوب منهم بدلاً عن عمل عامل واحد وبالبقية يتفرجون، يجيبك أحد العمال بتهجم: وإنت شعليك بيهم أكو مهندس وهو مسؤول عنهم!

كل ما سبق أحلام تنتظر التحقيق ولكن ما تركته ماركَريت هو الحقيقة ...


وللإستزادة عنها:















الاثنين، 15 أغسطس 2016

سلطة الهامش

القضية الأولى:

تدور أغلب أحاديثنا اليوم ضمن سيناريو وحيد:
-مجتمعنا يعاني من مئات المشاكل الإجتماعية والإقتصادية والأخلاقية ... وأي نظرة منطقية تستنتج أنه لا أمل بالتحسن في المستقبل القريب أو حتى البعيد.
-وما هي تلك المشاكل؟
-المشكلة الفلانية والفلانية والفلانية ... (وأي فرد عراقي يستطيع أن يستبدل الفلانية بمشاكل محددة يعرفها جيداَ ويعيشها يومياَ).
-وكيف نحل هذه المشاكل؟
-يجب أن نفعل كذا وكذا وكذا ... (يستطيع أي فرد عراقي أيضاً أن يخبرك بحلول تقليدية وإبداعية لتلك المشاكل).
-جيد ... إذا كنا نعرف المشاكل والحلول فماذا تبقى للتحسين والتغيير الإجتماعي؟
-تبقى الأفراد الذين يطبقون تلك الحلول !

القضية الثانية:

 من المسؤول عن التحسين أو التغيير الإجتماعي، الفرد أم الجهة الحاكمة؟
هل يبدأ التغيير من الوحدة الأصغر في المجتمع ومن ثم ينتقل للمجموع؟
أم أن الجهة الحاكمة تفرض التغيير على المجتمع ككل بالقوة لينتقل تدريجياً الى الأفراد؟
أليس الجهة الحاكمة هي مجموعة من الأفراد؟
(أعرف أن السؤال الأخير يوحي بأن الإجابة هي أن التغيير يبدأ من الفرد، والحقيقة لا أعرف الإجابة الصحيحة وقد لا تكون هنالك إجابة صحيحة وإنما يجب أن يشترك الطرفين في التغيير، ولكنني أتسآءل عن نقطة البداية وليس المحافظة على ديمومة التغييرات الإيجابية كما نراه في المجتمعات الأخرى، وأنا أعرف أيضاً أن هنالك الكثير من الأدبيات التي قد ناقشت هذه القضية عالمياً ولا ضير من طرحها مرة أخرى)

النتيجة:

أفكر بالسلطة ...
لكل فرد سلطة على عناصر البيئة المحيطة به وسلطة على نفسه الداخلية وسلوكها وهما يرتبطان طبعا لصياغة الفرد وبالتالي المجتمع، للفرد سلطة على تناول أو عدم تناول الطعام والشراب، للفرد سلطة على نفسه في منعها من الكذب أو السرقة، وللفرد سلطة على قنينة الماء البلاستيكية الفارغة وعلى نفسه أيضاً في عدم رميها في الشارع.

كل ما سبق فكرت به بعد قراءتي للدكتور فاضل عبود وهو يكتب (إمضاء على ورق شفيف) عن دلالات كلمة إمضاء وسبب إختيارها عنواناَ لمجلة فصلية تعنى بفن القص، وأقتبس قوله:
"والتوقيعات تشبه حد التطابق الهوامش التي يكتبها المسؤولون على عرائض أهل الحاجة اليوم، وهي في حقيقة أمرها تتضمن قوة إستثنائية تستمد شروطها من قوة صاحب (التهميش) وفاعلية موقعه الإداري والقيادي في جسد الدولة الذي يقرأ هامشه على وفق ما يمتلك من دقة وتأثير، فالهامش (سلطة) ناطقة تتقدم واجهة المشهد اليومي مظهرة في يدها ثنائية الحل والعقد في مجرى التداول اليومي لإشكالات الحياة."



وأعتقد أن أغلبنا خاض تجربة مع سلطة الهامش، أن تكتب نصاً لصفحة واحدة أو أكثر ويقع خلف النص جهد كبير لصاحب العريضة وهو يطلب من المسؤول طلباً معيناً ليأتي الهامش بكلمات معدودة على الأصابع ويحسم نتيجة ذلك الجهد.
وهنا يبرز التمييز بين الهامش بدون سلطة (كأن تقرأ كتاباً وتضيف ملاحظاتك وأفكارك كهامش قد يقنع أو لا يقنع القارئ الآخر).
 والهامش مع السلطة وهو ما تحدثنا عنه سابقاً والذي لن يبقى هامشاً ولكنه يأخذ إسمه من وجوده في أسفل الصفحة وكلماته معدودة مقابل النص الذي يعلق عليه ويتخذ القرار فيه.
وهذا يحيلنا الى البداية وقضيتي التغيير الإجتماعي ...
ولنفكر بالعمارة والفن كمثال ... فالمدينة منذ بدايتها العباسية حاوية للنتاجات المعمارية والفنية الناضجة، وقد تطورت تلك النتاجات نتيجة للتراكم والإضافة المستمرة، حتى وصلت المدينة الى حالة يتمناها الكثير من دول الجوار كما نتداول دائماً.
فإذا كان ما وصلت اليه المدينة هو النص فقد كان هنالك هامش يختلف عنها في البناء الفكري والشكلي المعماري والفني وبذلك كان هامشاً على صفحة كتاب العمارة والفن (هامش من الناحية العددية وليس هامش مكمل او متفاعل مع النص الأصلي)
ما تغير بعدها هو أن ذلك الهامش إكتسب السلطة والسلطة هنا هي سلطة مادية وسلطة القوة البدنية وفي غياب (تنفيذ) القوانين التي تهذب هذه السلطة وتسيطر عليها.
وبالتالي فإن عمارة وفن اليوم (وأفكر بالفن كغناء وأعمال تلفزونية) تخضع لسلطة الهامش وهو لم يعد هامشاً أبداً.

لقد علقت في نفس السيناريو! حددت المشكلة والحل وهو العودة الى النص الأصلي السابق المرتبط بتأريخ العمارة والفن في المدينة. ولكن ماذا بعد؟

نعود الى فكرة السلطة ... لديّ سلطة كتابة هذا النص ولديّ سلطة عدم رمي أي شي في الشارع وأن أنتج أعمالاً فنية ترتبط بما أنتجه الأباء والأجداد ... والسلام ... ولكل قارئ سلطة بدوره أتمنى أن يستعملها ليحافظ على مكانته ضمن النص ولا يتحول الى الهامش صاحب السلطة وهو النص الأصلي حالياً !


إختر النص الذي تريد العيش فيه ولا ترمي القناني البلاستيكية الفارغة في الشارع في كلا الحالتين ...