سلطة الهامش
القضية الأولى:
تدور أغلب أحاديثنا اليوم ضمن سيناريو وحيد:
-مجتمعنا يعاني من مئات المشاكل الإجتماعية والإقتصادية
والأخلاقية ... وأي نظرة منطقية تستنتج أنه لا أمل بالتحسن في المستقبل القريب أو
حتى البعيد.
-وما هي تلك المشاكل؟
-المشكلة الفلانية والفلانية والفلانية ... (وأي فرد
عراقي يستطيع أن يستبدل الفلانية بمشاكل محددة يعرفها جيداَ ويعيشها يومياَ).
-وكيف نحل هذه المشاكل؟
-يجب أن نفعل كذا وكذا وكذا ... (يستطيع أي فرد عراقي
أيضاً أن يخبرك بحلول تقليدية وإبداعية لتلك المشاكل).
-جيد ... إذا كنا نعرف المشاكل والحلول فماذا تبقى
للتحسين والتغيير الإجتماعي؟
-تبقى الأفراد الذين يطبقون تلك الحلول !
القضية الثانية:
من المسؤول عن
التحسين أو التغيير الإجتماعي، الفرد أم الجهة الحاكمة؟
هل يبدأ التغيير من الوحدة الأصغر في المجتمع ومن ثم
ينتقل للمجموع؟
أم أن الجهة الحاكمة تفرض التغيير على المجتمع ككل
بالقوة لينتقل تدريجياً الى الأفراد؟
أليس الجهة الحاكمة هي مجموعة من الأفراد؟
(أعرف أن السؤال الأخير يوحي بأن الإجابة هي أن التغيير
يبدأ من الفرد، والحقيقة لا أعرف الإجابة الصحيحة وقد لا تكون هنالك إجابة صحيحة
وإنما يجب أن يشترك الطرفين في التغيير، ولكنني أتسآءل عن نقطة البداية وليس
المحافظة على ديمومة التغييرات الإيجابية كما نراه في المجتمعات الأخرى، وأنا أعرف
أيضاً أن هنالك الكثير من الأدبيات التي قد ناقشت هذه القضية عالمياً ولا ضير من
طرحها مرة أخرى)
النتيجة:
أفكر بالسلطة ...
لكل فرد سلطة على عناصر البيئة المحيطة به وسلطة على
نفسه الداخلية وسلوكها وهما يرتبطان طبعا لصياغة الفرد وبالتالي المجتمع، للفرد
سلطة على تناول أو عدم تناول الطعام والشراب، للفرد سلطة على نفسه في منعها من
الكذب أو السرقة، وللفرد سلطة على قنينة الماء البلاستيكية الفارغة وعلى نفسه
أيضاً في عدم رميها في الشارع.
كل ما سبق فكرت به بعد قراءتي للدكتور فاضل عبود وهو
يكتب (إمضاء على ورق شفيف) عن دلالات كلمة إمضاء وسبب إختيارها عنواناَ لمجلة
فصلية تعنى بفن القص، وأقتبس قوله:
"والتوقيعات تشبه حد التطابق الهوامش التي يكتبها
المسؤولون على عرائض أهل الحاجة اليوم، وهي في حقيقة أمرها تتضمن قوة إستثنائية
تستمد شروطها من قوة صاحب (التهميش) وفاعلية موقعه الإداري والقيادي في جسد الدولة
الذي يقرأ هامشه على وفق ما يمتلك من دقة وتأثير، فالهامش (سلطة) ناطقة تتقدم
واجهة المشهد اليومي مظهرة في يدها ثنائية الحل والعقد في مجرى التداول اليومي
لإشكالات الحياة."
وأعتقد أن أغلبنا خاض تجربة مع سلطة الهامش، أن تكتب
نصاً لصفحة واحدة أو أكثر ويقع خلف النص جهد كبير لصاحب العريضة وهو يطلب من
المسؤول طلباً معيناً ليأتي الهامش بكلمات معدودة على الأصابع ويحسم نتيجة ذلك
الجهد.
وهنا يبرز التمييز بين الهامش بدون سلطة (كأن تقرأ كتاباً
وتضيف ملاحظاتك وأفكارك كهامش قد يقنع أو لا يقنع القارئ الآخر).
والهامش مع السلطة
وهو ما تحدثنا عنه سابقاً والذي لن يبقى هامشاً ولكنه يأخذ إسمه من وجوده في أسفل
الصفحة وكلماته معدودة مقابل النص الذي يعلق عليه ويتخذ القرار فيه.
وهذا يحيلنا الى البداية وقضيتي التغيير الإجتماعي ...
ولنفكر بالعمارة والفن كمثال ... فالمدينة منذ بدايتها
العباسية حاوية للنتاجات المعمارية والفنية الناضجة، وقد تطورت تلك النتاجات نتيجة
للتراكم والإضافة المستمرة، حتى وصلت المدينة الى حالة يتمناها الكثير من دول
الجوار كما نتداول دائماً.
فإذا كان ما وصلت اليه المدينة هو النص فقد كان هنالك
هامش يختلف عنها في البناء الفكري والشكلي المعماري والفني وبذلك كان هامشاً على
صفحة كتاب العمارة والفن (هامش من الناحية العددية وليس هامش مكمل او متفاعل مع
النص الأصلي)
ما تغير بعدها هو أن ذلك الهامش إكتسب السلطة والسلطة
هنا هي سلطة مادية وسلطة القوة البدنية وفي غياب (تنفيذ) القوانين التي تهذب هذه
السلطة وتسيطر عليها.
وبالتالي فإن عمارة وفن اليوم (وأفكر بالفن كغناء وأعمال
تلفزونية) تخضع لسلطة الهامش وهو لم يعد هامشاً أبداً.
لقد علقت في نفس السيناريو! حددت المشكلة والحل
وهو العودة الى النص الأصلي السابق المرتبط بتأريخ العمارة والفن في المدينة. ولكن
ماذا بعد؟
نعود الى فكرة السلطة ... لديّ سلطة كتابة هذا النص ولديّ
سلطة عدم رمي أي شي في الشارع وأن أنتج أعمالاً فنية ترتبط بما أنتجه الأباء
والأجداد ... والسلام ... ولكل قارئ سلطة بدوره أتمنى أن يستعملها ليحافظ على
مكانته ضمن النص ولا يتحول الى الهامش صاحب السلطة وهو النص الأصلي حالياً !
إختر النص الذي تريد العيش فيه ولا ترمي القناني
البلاستيكية الفارغة في الشارع في كلا الحالتين ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق