الثلاثاء، 18 يناير 2022

سر الشارع

سر الشارع


يقف تمثال الرصافي على منصته المرمرية مستقبلاً العابرين لجسر الشهداء منذ العام 1970. أعادته أنامل النحّات الرائد إسماعيل فتّاح الترك بعد 25 عام على رقودِهِ، وبعد 52 عام أخرى لابد أن الرصافي يشعر بالفضول لما يحصل بالقرب منه ليلاً.

يقصُّ علينا (أوسكار وايلد) قصة تمثال الأمير السعيد وكيف طلب من طائر السنونو أن يحدثه عن عجائب آلام الرجال والنساء في مدينته وغموض البؤس فيها بدلاً عن قصص بلاد العجائب، وأتخيل أنا إتفاقاً مشابهاً بين تمثال الرصافي وخفّاش وحيد إنفصل عن جماعتِهِ لأسباب شخصية.

بعد نهار مليء بالفوضى ومنبهات السيارات يُصاب الرصافي بصداع شديد وألم في عضلات العين. تغيب الشمس، فيعالج هدوء شارع الرشيد عن يمينه وشماله وفضاء الساحة المحيط به تلك الآلام. يختفي المارّة والسيارات المارّة وتصبح أجواء المنطقة الموحشة المعزولة عن حياة المدينة مثالية للتمثال المُرهق.

بعد ليل مليء بالالعاب النارية يُصاب الرصافي بذلك الفضول الشديد، فالشارع عن يمينه بدأ يكتض بالسيارات ليلاً. إستحالة الحركة والالتفات تمنعه من معرفة السبب. يخبره الخفّاش: إنهم الزوار الجدد لشارع المتنبي.

رَكنتْ سيارتي للمرّة الأولى في شارع الرشيد، جوار جامع الحيدرخانة. وجدت المساحة الفارغة بصعوبة، فالسيارات تصطف على الجانبين من ساحة الرصافي وحتى مقهى الزهّاوي وما بعدها. بدأت علاقتي الوثيقة بشارع المتنبي بعد إعادة إعماره من خراب الانفجار العظيم الذي أصابه عام 2007. صباح الجُمعة مميز في روتيني الأسبوعي، أعود منه متحمساً لإكتشاف ما عثرت عليه من الكتب والمقتنيات. لكن زيارته بعد الغروب لها نكهة جديدة مختلفة عن زيارات الصباح. زواره مختلفون أيضاً. عائلات بجميع أفرادها من النساء والرجال والاطفال أو مجاميع من الشباب القاصدين للشارع القديم الجديد.

شارع المتنبي، بغداد

يُمكن عَدّ المكتبات المفتوحة على أصابع اليد الواحدة وتتبقى أصابع لعدّ بسطات الكُتب التجارية أيضاً. لم يمنع ذلك الزوار من الحضور للاستمتاع بعَمارة الشارع والتقاط الصور، الكثير من الصور. أمسى الشارع أستوديو أو موقع تصوير كبير، للهواة والمحترفين، لتصوير الناس والكتب والسيارات!

هذا ما يدفعنا للبحث عن المؤهلات التي إكتسبها الشارع حديثاً ليناسب تلك الوظيفة الجديدة. وظيفة جديدة؟ لا اعتقد أنها جديدة لكون الشارع موقعاً للتصوير منذ شيوع الكاميرات الرقمية في الهواتف النقالة أو الكاميرات الرقمية الاحترافية. الجديد هو تحوله من موقع تصوير صباحي الى صباحي مسائي، وتحول ثيمة الصور من الاهتمام بالفرد العراقي وهو يبحث عن المعرفة وسط فوضى المدينة الى الاهتمام بالفرد وهو يتواصل مع العَمارة الجميلة للمدينة الآمنة.

للإجابة عن سؤال (ماهو الشئ الجميل؟) يقول أوسكار آخر (أوسكار برينيفييه): (يميل معظم الناس الى إعتبار الأشياء المثالية والمتناغمة واللانهائية جميلة). وتلك هي الصفات التي إقترب منها الشارع مؤخراً. إختفت الأسلاك الكهربائية من مشهد الشارع وتُركت العناصر المعمارية للمباني واضحة دون تشويش.(35) مبنى تجاري شملته حملة التأهيل التي حرص منفذوها على تحقيق التناغم (الانسجام) بين تلك المباني. يعرّف الانسجام إصطلاحياً بوجودة عناصر أو صفات مشتركة (متشابهة) بين الأشياء، وتوجد تلك التشابهات في أصل الشارع، كالأعمدة المستمرة، الأقواس بأنواعها، الطابوق الجفقيم كمادة إنهاء.

أظهر التأهيل تلك العناصر بصورة أفضل وزاد من التشابهات في الشارع. إختفت اللوحات التعريفية والإعلانية المبعثرة للمكتبات والمحال ليستدل الزائرين على وجهاتهم بعناوين محفورة على عنصر معماري موحّد يحمل العنوان ويخفي خلفه الأبواب الستائرية المنزلقة. زيادة على تشابه وحدات الإنارة المعلّقة أو الموجّهة على طول الشارع، والصناديق المُزخرفة التي تخفي وحدات التبريد الخارجية.

الانسجام، الاستمرارية، الايقاع، تؤدي بالنتيجة الى (وحدة) المشهد في الشارع ليلاً فيجذب جماله الزوار لإفتقار المدينة بأكملِها الى شارع بنفس تلك الصفات.

يتحدث (آلان دوبوتون) في كتابه (عَمارة السعادة) وكأنه يصف شوارع بغداد: (نجد كُثرة من الشوارع قررت عناصرها المكونة ألا تلقي بالاً الى مظهر جيرانها بل راحت تزعق مطالبة الناس بالانتباه اليها مثلما يفعل عشّاق أصابتهم الغيرة وأستبد بهم الغضب). عناصرها المكوّنة أي بيوتها أو بناياتها التجارية التي لا تشترك باي صفة لتحقيق الانسجام المطلوب. بل تتنافس في الإقتراب من حدود الشارع وقد تلتهم الرصيف وتتنافس في الإرتفاع وفي التصميم العجيب الغريب، وكل ذلك بفعل فاعلَين: صاحب المبنى ومعماره إن وجد أو من يقوم بعملية البناء. بغياب دور ذات الجهة المشرفة على تأهيل شارع المتنبي والمسؤولة عن تحقيق انسجام شوارع المدينة بتطبيق المحددات البنائية التي أقرتها الأنظمة والقوانين العراقية.

يصف (دوبوتون) بالمقابل أحد شوارع باريس بالقول: (على الرغم مما في العالم من خلاف وإضطراب، نجحت هذه المباني السكنية في تسويهة إختلافاتها وفي الانتظام طائعة ضمن صف متكرر لا تشوبه شائبة. يمثل مشهد الدقّة هذا في عين الزائر أو في عين ساكن ذي حساسية إنطباعاً جمالياً متصلاً اتصالاً وثيقاً بخصائص الانتظام والتماثل).

شارع كريميو، أكثر شوارع باريس ظهوراً على إنستكَرام

يلخص لنا الفيلسوف البريطاني الدرس من النوعين السابقين من الشوارع: (يقدم لنا هذا الشارع المنظم درساً في منافع التخلي عن الحرية الفردية من أجل مسعى جمعي أعلى تصير فيه الأجزاء كلها شيئاً أعظم مما كانته عن طريق مساهمتها في الكل).

أنا بدوري أنصح جميع المعماريين لزيارة شارع المتنبي ليلاً لمراجعة ذلك الدرس وحفظه لحين عودة الروح للجهات التنظيمية البغدادية، لأن أنانية الإنسان ورغبته في التميز ستمنعه من التفكير الذاتي بالانسجام مع المجاورات وإحترامها.

نواجه في هذا السياق سؤالاً منطقياً، (ماذا إن كانت المباني المحيطة بالمبنى الجديد قديمة أو قبيحة والمعمار يرغب بتصميم مبنى جميل معاصر؟ لمن يحترم ومع من ينسجم؟ وفي ذلك تأثير على تحقيق جمالية مبناه). أضعف الإيمان الحفاظ على المحددات التنظيمية كمسافات الإرتداد عن الشارع وارتفاع الطوابق وبعض العناصر أو المبادئ التصميمية البسيطة. لكننا نعلم أن المعمار لن يفكر بذلك الانسجام إلا بالإكراه وهذا ما يحصل في (اوربا والدول المتقدمة).

ليس سراً ما يجذب الناس الى شارع المتنبي ليلاً، إنها الوحدة المعمارية التي يفتقدونها في بغداد. وعلينا الحرص لتحقيقها دوماً في أعمالنا القادمة. كما علينا الحرص أيضاً على عدم شرب المياه بكُثرة قبل زيارة شارع المتنبي في ليالي الشتاء الحالي. لأن الشارع يخلو من الحمامات الصحية. وللمحتاج تواليت صغير وحيد مجاور لموقد مقهى الشابندر والدخول اليه بالدور بين النساء والرجال.