الاثنين، 22 يونيو 2015

نافورة ساحة الحرية

من الصعب ضمان صحة الحكم، ولكن من تجربتي الشخصية " نحن أصحاب أسوء خدمة للمطاعم في العالم" لم أشعر يوماً بالدلال في أي مطعم ذهبت اليه، لم أذهب الى مطعم معين وأعود مرة أخرى بحماس لأكرر تجربتي الممتعة فيه، يستثنى من ذلك "صاج الريف" لمحافظته على جودة طعامه، مع تواضع نوعية الخدمة والعناية بالزبون.
ولكن هل الأمر ينعكس على كل أنواع الخدمات وأصحاب المحلات؟ هل يفتقد الجميع لفن وثقافة البيع؟ أم الأمر مرتبط ببيع المأكولات فقط؟
في شهر رمضان قبل الماضي ذهبت مع خالي الى مثلجات الفقمة، وبعد الإطلاع على قائمة الأنواع، قررنا طلبنا، وصلت الى موظف الكاشير (إذا تمنيت أن يبتسم بوجهي هل تعتبر الأمنية مبالغ فيها؟)، قلت له: ثنين  Italian chocolate ... أرجع لي باقي المبلغ مع ورقة الطلب وقال: كُلة ثنين جوزي !
ولأن المقاعد ممتلئة بالناس، عدنا الى إحدى حدائق  ساحة الحرية الثلاثة ... كانت ليلة ممتعة لم أشهد مثلها منذ زمن، تدفع (النافورة) المياه الى الأعلى فيدفع الهواء الرذاذ علينا، نجلس وسط مساحة خضراء، نتطلع الى الفضاء المفتوح حولنا وتتنوع المشاهد بحركة الناس والسيارات، لنتسامر حتى منتصف الليل.
التجربة أعجبت خالي أيضاً، فدعى بعد عدة أيام صديقه وأطفاله الثلاثة، وبعد تناول المثلجات وشراء مياه الشرب، وصلنا الى (نافورتنا)، لا أتذكر بالتحديد من أين جاءتني الفكرة ! أعتقد أنني قلّدت طفل قريب منا، ثقبت سدادة قنينة المياه بقلم في جيبي لتتحول الى رشاش للمياه عند الضغط عليها، جلس خالي وصديقه بعيداً وأعتقد أن الجميع يعلم بعدم وجود حدود عند اللعب مع الاطفال، بدأنا برشة خفيفة على الوجه لأعود الى البيت وأنا مبتل تماماً.
هذه السنة ولعلاقتي السيئة مع المطاعم والكافيهات دعوت أصدقائي لجلسة ساحة الحرية المجانية، التقينا بعد الافطار ومشينا بإتجاه المكان الموعود.
كنت قد رأيتها سابقاً ولكن من زاوية أخرى، شاشة إعلانية عملاقة، تعطي ظهرها لفضاء الساحة وتهيمن عليه، لتعرض لسائقي السيارات القدرة العلاجية لحب السفايف والدكتورة رفيف الياسري! ولكن كيف تعمل هذه الشاشة عند أنقطاع التيار الكهربائي؟ مولدة ضخمة تقع خلفها وهي مغطاة بقفص حديدي ثقيل بصرياً. وكما كان الحكم على خدمة المطاعم غير دقيق، هذه المرة أقول إن عدم تشغيل النافورة هو لقرب الشاشة منها والخوف عليها من البلل (يجب أن أتاكد لاحقاً من هذا)، ولكن الخلاصة ... لم نجد رذاذ النافورة  ولا الفضاء المفتوح، وبدلاً عن ذلك وجدنا الاطفال الذين يستعطون النقود من السيارات في الاشارات الضوئية وهم منتشرين في الساحة وعند النافورة بالتحديد يتشاجرون ويتنمرون على بعضهم، يرمون (نعال) أحدهم ليُجبر على السباحة في مياة النافورة الآسنة لإستخراجه. ضوضاء المولدة  وأصوات محركات السيارات الامريكية التي  يتفاخر بها أصحابها بين فترة وأخرى. وبالإضافة الى دخان تلك المحركات ودخان مولدة الشاشة الاعلانية، يأتي دخان الآراكيل التي إحتل مدخنوها ثلث مساحة الحديقة الباقية.
قد يكون وصفي للفرق بين حالة الساحة السابقة والحالية مبالغ به، قد تكون نظرة معمارية حالمة غير واقعية، أو نتيجة لنظرتنا المسبقة عن التقصير الدائم لأمانة بغداد، او بسبب إشتياقي لخالي أو حتى كتابتي للنص قبل موعد الإفطار!
ولكنني أقرأ في ما سبق إشارات، إشارات عن حالة المدينة الحالية والمستقبلية، هيمنة رؤوس الأموال على المجتمع، إذا أردت أن تستمتع في المدينة، يجب أن تذهب لأحد المطاعم أو الكافيهات المنتشرة في مناطق معينة، تلتقط عدد من الصور تخبر أصدقائك أنك هناك، تدفع الفاتورة المقدسة وتعود الى أهلك. أما صاحب سيارة الأجرة إذا أراد أن يُمتّع عائلته في المدينة، يجب أن يجلس تحت اللوحة الاعلانية التي تذهب وارداتها لنفس الطبقة الاقتصادية التي تمتلك المطاعم.
سوف تفتقد بغداد للفعاليات الترفيهية المجانية أو حتى مقبولة الأسعار، لن تشعر الطبقات المجتمعية المتواضعة مادياً بالراحة النفسية، لن تتعرض لجمال الطبيعية، فتفقد القدرة على تذوق الجمال، تفقد القدرة على إنتاج الجمال، ولأن تلك الطبقات تمثل نسبة كبيرة من سكنة المدينة، نعود نحن بالعتب عليهم في وقت لاحق! لماذا لا يملكون ذوقاً فنياً؟ لماذا ينتجون عمارة قبيحة؟ لماذا لا يحافظون على جمالية المدينة؟
ماذا يمكننا العمل من موقعنا الأدنى؟ هل بإمكاننا المشاركة في حل مشكلة هيمنة المادة؟ هل نقاطع تلك المطاعم والكافيهات؟

لا أعلم، لو سمع أحد أصحاب المطاعم كلامي هذا لقال: زعلة العصفور على بيدر دخن !





الجمعة، 5 يونيو 2015

شارع المتنبي رحلة الشتاء والصيف

في الساعة الثامنة والنصف صباحاً كنت على الرصيف المقابل لرئيس الوزراء الأسبق عبد المحسن السعدون، وفي دقائق إنتظاري العشر (إنقهرت) عليه بشدة، فعلاوة على طريقة موته الغامضة وحجمه الصغير المتواضع، كان يقف تحت الشمس مباشرة، أما أنا فكنت محتمياً بظل معرض الزهور البلاستيكية المهجور، وعلى مسافة مترين مني (جريدي ممطول بنص الرصيف) لا أعرف إن كان ميتاً أم مخموراً.
وبعدها بعشرين دقيقة (إنقهرت) على الشاعر معروف الرصافي ثم على أبي الطيّب المتنبي، كيف يستطيعون الوقوف تحت الشمس كل هذه المدة؟ كيف يتحملون حرارتها بينما الناس تخلّوا حتى عن إلتقاط الصور معهم. فالمتنبي يقف اليوم وحيداً. ولقد نبهني أستاذي الى أن حركته  ينقصها هاتف نقال ، ليلتقط لنفسه (selfie) مع نهر دجلة في وحدته هذه!


قد يتضايق البعض من مبالغة المعماريين بحديثهم عن أهمية تخطيط المدينة وتصاميم مبانيها وتأثيرات التخطيط والتصميم على حياة الإنسان، حتى يَعُد بعضهم مهنة العمارة أكثر أهمية من مهنة الطب! وفي الحقيقة هي ليست أكثر أهمية من مهنة الطب، ولكن بينما يحفظ الطبيب حياة الإنسان فإن المهندس المعماري يجعل تلك الحياة أكثر راحة ومتعة وجدوى.
وبالحديث اليوم عن شارع المتنبي وكل ما يضمه من فعاليات علمية وثقافية وإجتماعية، كيف يستطيع الزائر أن يتطلع ويستمتع بعناوين الكتب الجذابة ورأسه يغلي من أشعة الشمس؟ كيف يستطيع الاستمتاع بجمال لوحة وتفسير معانيها وهي معروضة في قاعة خانقة ينقصها الاوكسجين؟ كيف يقف للإستماع الى خطيب معين و(نفسه تريد تموع من الحر)؟ وفوق كل هذا الجحيم تشاهد نافورة مياة جميلة ولكنك لا تستطيع الوصول اليها لانها محاطة بسور يعزلها عن الزائرين!
لذا فإن عدم تحقيق الراحة الحرارية للجسد الإنساني كفيل بجعل كل الفعاليات مرهقة غير ممتعة ولا جدوى منها، فالمهم هو إنجازاها بأسرع وقت ممكن والهروب الى أقرب فضاء يوفر الراحة الحرارية الملائمة.  
وفيما يخص الشارع فتوفير الراحة الحرارية لزائريه ليست مشكلة هندسية أبداً، فالحلول المعمارية والميكانيكية قريبة الى الذهن ولكن المشكلة بالتاكيد هي مشكلة إدارة الشارع وإتخاذ القرار المناسب وأعتقد أن الكرة في ساحة أمانة بغداد ومجلس محافظة بغداد.
ولكنني كمصمم معماري ومن تجربة اليوم ساحاول أن ألزم نفسي بصفات للمشاريع التي أقوم بتصميمها مستقبلاً، وأنظر من خلال تلك الصفات الى المشاريع التي يصممها الآخرون لأحكم عليها بالنجاح أو الفشل في بيئة العراق الحالية والمستقبلية:
-       كل شارع، ممر أو فضاء خارجي مخصص للسابلة يجب أن يكون مظللاً بعناصر تظليل قد تختلف أشكالها وأنواع المواد التي تشيد منها.
-       من المستحيل أن أوجه أو أضع القطع الخارجية لأجهزة التبريد على الممرات الخارجية للسابلة في كافة أنواع المباني، كما يحصل في بناية المركز الثقافي البغدادي، ففي سبيل تبريد القاعات الخاصة بالعرض والمحاضرات على الزوار أن (يشتوو) بالهواء الحار الخارج من أجهزة التبريد الى الممرات الخارجة المطلة على الفناء الوسطي الجميل.
-       يجب في كل فضاء خارجي، شارع أو ساحة أن أضع مصدر للمياه (نافورة) يستطيع الإشخاص الوصول الى مياهها الباردة بسهولة لأغراض التبريد.
وهنالك الكثير من الشروط البيئية الاخرى التي من الممكن تحقيقها لجعل المباني أكثر ملائمة لبيئة العراق الخاصة ولكن ماسبق ناتج عن تجربة اليوم فقط.
ولكن هل هذا الكلام جديد ولا يدرس في أقسام العمارة في العراق، لذا لا نجده في الكثير من المباني والفضاءات الخارجية المصممة؟
بالتأكيد لا، يدرس منذ أول تأسيس لأقسام العمارة في العراق.
ولكن في الوقت المعاصر وحتى قبله، كأّنَ الاعتماد على تكنولوجيا التدفئة والتبريد جعلت المصمم المعماري يهتم بكافة تفاصيل المبنى ولا يهتم بالناحية البيئية وتحقيق الراحة الحرارية.
ونتيجة لازمة الطاقة الكهربائية المتواصلة وحتى عدم كفاءة أجهزة التبريد المعروضة وتزايد درجات الحرارة جعل من الضروري أن تكون القرارات الرئيسية في أي تصميم معماري تستند على تحقيق الراحة الحرارية أولاً.

واخيراً فإن كل ماسبق كان نتيجة لضربة شمس اليوم وموعان الروح، ولشارع المتنبي في الشتاء قصة أخرى، فلكونه ذو عرض قليل ومستمر طولياً حتى النهر، يصبح (زمهرير) لأن أشعة الشمس الساقطة على فضاءه قليلة ويتحرك فيه تيار هوائي بارد، ولكن الأمر يُحل بزوجين من الجوارب وسترة سميكة ولفاف، ولكن اليوم كان الحل الوحيد هو (بطل الماء ابو الربع) وشاي ساخن في مقهى الشابندر.