شارع المتنبي رحلة الشتاء
والصيف
في الساعة
الثامنة والنصف صباحاً كنت على الرصيف المقابل لرئيس الوزراء الأسبق عبد المحسن
السعدون، وفي دقائق إنتظاري العشر (إنقهرت) عليه بشدة، فعلاوة على طريقة موته
الغامضة وحجمه الصغير المتواضع، كان يقف تحت الشمس مباشرة، أما أنا فكنت محتمياً
بظل معرض الزهور البلاستيكية المهجور، وعلى مسافة مترين مني (جريدي ممطول بنص
الرصيف) لا أعرف إن كان ميتاً أم مخموراً.
وبعدها بعشرين دقيقة (إنقهرت) على الشاعر معروف الرصافي
ثم على أبي الطيّب المتنبي، كيف يستطيعون الوقوف تحت الشمس كل هذه المدة؟ كيف
يتحملون حرارتها بينما الناس تخلّوا حتى عن إلتقاط الصور معهم. فالمتنبي يقف اليوم
وحيداً. ولقد نبهني أستاذي الى أن حركته
ينقصها هاتف نقال ، ليلتقط لنفسه (selfie) مع نهر
دجلة في وحدته هذه!
قد يتضايق البعض من مبالغة المعماريين بحديثهم عن أهمية
تخطيط المدينة وتصاميم مبانيها وتأثيرات التخطيط والتصميم على حياة الإنسان، حتى
يَعُد بعضهم مهنة العمارة أكثر أهمية من مهنة الطب! وفي الحقيقة هي ليست أكثر
أهمية من مهنة الطب، ولكن بينما يحفظ الطبيب حياة الإنسان فإن المهندس المعماري
يجعل تلك الحياة أكثر راحة ومتعة وجدوى.
وبالحديث اليوم عن شارع المتنبي وكل ما يضمه من فعاليات
علمية وثقافية وإجتماعية، كيف يستطيع الزائر أن يتطلع ويستمتع بعناوين الكتب
الجذابة ورأسه يغلي من أشعة الشمس؟ كيف يستطيع الاستمتاع بجمال لوحة وتفسير
معانيها وهي معروضة في قاعة خانقة ينقصها الاوكسجين؟ كيف يقف للإستماع الى خطيب
معين و(نفسه تريد تموع من الحر)؟ وفوق كل هذا الجحيم تشاهد نافورة مياة جميلة
ولكنك لا تستطيع الوصول اليها لانها محاطة بسور يعزلها عن الزائرين!
لذا فإن عدم تحقيق الراحة الحرارية للجسد الإنساني كفيل
بجعل كل الفعاليات مرهقة غير ممتعة ولا جدوى منها، فالمهم هو إنجازاها بأسرع وقت
ممكن والهروب الى أقرب فضاء يوفر الراحة الحرارية الملائمة.
وفيما يخص الشارع فتوفير الراحة الحرارية لزائريه ليست
مشكلة هندسية أبداً، فالحلول المعمارية والميكانيكية قريبة الى الذهن ولكن المشكلة
بالتاكيد هي مشكلة إدارة الشارع وإتخاذ القرار المناسب وأعتقد أن الكرة في ساحة
أمانة بغداد ومجلس محافظة بغداد.
ولكنني كمصمم معماري ومن تجربة اليوم ساحاول أن ألزم
نفسي بصفات للمشاريع التي أقوم بتصميمها مستقبلاً، وأنظر من خلال تلك الصفات الى
المشاريع التي يصممها الآخرون لأحكم عليها بالنجاح أو الفشل في بيئة العراق
الحالية والمستقبلية:
-
كل شارع، ممر أو فضاء خارجي مخصص للسابلة يجب أن يكون
مظللاً بعناصر تظليل قد تختلف أشكالها وأنواع المواد التي تشيد منها.
-
من المستحيل أن أوجه أو أضع القطع الخارجية لأجهزة
التبريد على الممرات الخارجية للسابلة في كافة أنواع المباني، كما يحصل في بناية
المركز الثقافي البغدادي، ففي سبيل تبريد القاعات الخاصة بالعرض والمحاضرات على
الزوار أن (يشتوو) بالهواء الحار الخارج من أجهزة التبريد الى الممرات الخارجة
المطلة على الفناء الوسطي الجميل.
-
يجب في كل فضاء خارجي، شارع أو ساحة أن أضع مصدر للمياه
(نافورة) يستطيع الإشخاص الوصول الى مياهها الباردة بسهولة لأغراض التبريد.
وهنالك الكثير من الشروط البيئية الاخرى التي من الممكن
تحقيقها لجعل المباني أكثر ملائمة لبيئة العراق الخاصة ولكن ماسبق ناتج عن تجربة
اليوم فقط.
ولكن هل هذا الكلام جديد ولا يدرس في أقسام العمارة في
العراق، لذا لا نجده في الكثير من المباني والفضاءات الخارجية المصممة؟
بالتأكيد لا، يدرس منذ أول تأسيس لأقسام العمارة في
العراق.
ولكن في الوقت المعاصر وحتى قبله، كأّنَ الاعتماد على
تكنولوجيا التدفئة والتبريد جعلت المصمم المعماري يهتم بكافة تفاصيل المبنى ولا
يهتم بالناحية البيئية وتحقيق الراحة الحرارية.
ونتيجة لازمة الطاقة الكهربائية المتواصلة وحتى عدم
كفاءة أجهزة التبريد المعروضة وتزايد درجات الحرارة جعل من الضروري أن تكون
القرارات الرئيسية في أي تصميم معماري تستند على تحقيق الراحة الحرارية أولاً.
واخيراً فإن كل ماسبق كان نتيجة لضربة شمس اليوم وموعان
الروح، ولشارع المتنبي في الشتاء قصة أخرى، فلكونه ذو عرض قليل ومستمر طولياً حتى
النهر، يصبح (زمهرير) لأن أشعة الشمس الساقطة على فضاءه قليلة ويتحرك فيه تيار
هوائي بارد، ولكن الأمر يُحل بزوجين من الجوارب وسترة سميكة ولفاف، ولكن اليوم كان
الحل الوحيد هو (بطل الماء ابو الربع) وشاي ساخن في مقهى الشابندر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق