الأربعاء، 29 يوليو 2020

ماذا يقدّم المعمار، خدمة ام منتج ؟


ماذا يقدّم المعمار، خدمة ام منتج ؟


اتذكر دائماً صرخة للروائي علاء الاسواني في روايته عمارة يعقوبيان:

"احنا في زمن المسخ"

وبدلاً عنها نفكّر:

"احنا في زمن التسويق"

 

ليس اختصاص او علم التسويق بجديد، فهو قديم قدم الثورة الصناعية وما قبلها، ولكن الجديد هو المنصات الاجتماعية على شبكة الانترنت وكونها اصبحت تمثل الساحة المثالية للتنافس على تسويق ما يريد الجميع بيعه.

نقرأ من ادبيات التسويق المعاصر عن الفرق بين البائعين، فهنالك من يقدّم خدمة وهنالك من يقدّم منتج. ولكل منهما فن او قواعد لتسويقه للمشترين.

ونحن كمعماريين في وسط هذا التنافس المحموم يفترض علينا ان نعرف اولاً هل ان ما نقدمه للمجتمع هو خدمة ام منتج؟ لنعرف بعدها كيف نقوم بتسويق ما نقوم به.

ماهو الفرق اولاً بين الخدمة والمنتج؟

لنبدأ بالمنتج: هو السلعة الملموسة التي يمكن وضعها على رفوف وعارضات المتاجر المتنوعة ومن الممكن تجريبها والتفاعل معها قبل الشراء وبعد الشراء مباشرة. والامثلة كثيرة جداً ومن حياتنا اليومية، المواد الغذائية، الملابس، الاجهزة الالكترونية والكهربائية والسيارات وغيرها.

اما الخدمة: فهي السلعة غير الملموسة، او العمليات التي يتم اجراءها للحصول على القيمة المضافة. والامثلة  عليها خدمات توفير المعلومات، خدمات الادارة المالية، خدمات الرعاية الصحية، الخدمات التعليمية وغيرها ايضاً الكثير.


لننتقل سريعاً الى مهنة العمارة، ياتي المستفيد الى شركات او مكاتب العمارة، وهو يريد بيتاً يلبي حاجاته ومعبراً عن شخصيته، هو يمتلك قطعة ارض محددة، فيجلس مع المعمار ليخبره بما يريده من فضاءات وما يفكر به من تفضيلات على مستوى صفات تلك الفضاءات والعلاقات بينها وشكل تكوينها. اما المعمار فعليه فهم المستفيد ويعدهُ بما يمكن تحقيقه عن طريق خبرته وامكاناته المعمارية.

حتى تلك اللحظة لم يرى المستفيد شيئاً بعينه، وقد يكون عليه ان يدفع جزءاً من الاجور مقدماً للمعمار.

بعدها يبدأ المعمار بتحويل معطيات الحوار مع المستفيد الى مخططات هندسية تصف البيت من الداخل والخارج. هنا يستطيع المستفيد ان يرى التصميم بعينيه وخياله فقط دون امكانية معرفة كيف ستكون تجربة العيش فيه. وعليه بالتاكيد ان يدفع جزءاً آخر من اجور التصميم.

يطالب المستفيد ببعض التعديلات لتنتهي العملية التصميمية باعداد المخططات النهائية والمعروضة على شاشات الاجهزة او على الورق، ويدفع المستفيد جميع ماعليه من اجور التصميم.

اذن ان العملية التصميمية هي خدمة لايمكن للمستفيد ان يلمس ويجرّب نتاجها بجميع حواسه. حتى مع صناعة المجسمات او تجربة الواقع الافتراضي او المعزز. وان نتاج هذه الخدمة يعتمد على تفضيلات ذلك المستفيد بالذات دون غيره من مئات او الاف  الافراد في المجتمع.

بعد مشاركة الكوادر الهندسية الاخرى والكوادر التنفيذية تتحول المخططات الهندسية الى بيت مادي ملموس يجّرب المستفيد العيش فيه ويكتشف الراحة او عدم الراحة في فضاءاته.

هل تحول البيت في ذلك الوقت الى منتج؟

تحول الى حالة ملموسة بالتأكيد ولكنها لا تطابق التعريف الاصطلاحي للمنتج بكونه جاهزاً امام المشتري فهو لا ينفصل عن الخدمة التي سبقته وهو نكرر مرة اخرى يلائم تفضيلات ذلك المستفيد بالذات دون غيره.

والآن نفكّر ماذا لو اراد ذلك المستفيد بيع البيت لسبب معين؟ ويبدأ الراغبين بالشراء زيارته والحركة داخل فضاءاته.

نعم لقد تحول البيت الان الى منتج. ولكنه منفصل عن المعمار واصبح مرتباطاً بسمسار العقارات.


فتصبح المعادلة:

ان المعمار يقدّم (خدمة) تصميمية فتحول الكوادر الهندسي نتائجها الى حالة مادية ملموسة (وهي لا تعتبر منتجاً مطابقاً للتعريف الاصطلاحي) ثم يأتي سمسار العقارات فيحول تلك الحالة المادية الى منتج عقاري صريح.


ولكننا نفكّر بحالة: ماذا لو زار المستفيد تصميم سابق منفذ للمعمار؟ شاهده من الخارج، تجول داخل فضاءاته قبل ان يجلس للاتفاق معه؟ هل سيقدّم المعمار في هذه الحالة منتجاً؟

وكأن المستفيد لمس وجرّب نتيجة العملية التصميمية قبل البدأ بها.

نقول: لو انه يمتلك نفس مساحة وابعاد قطعة الارض وطلب تماماً نفس التصميم فسيقدّم المعمار منتجاً، وهو بالواقع لن يقوم بالعملية التصميمية حتى. اما اي تعديل بالتصميم فهو سيحيلنا الى الحالة السابقة وبنسب متفاوتة بالتأكيد.

لابد ان نتذكر هنا ايضاً قضية المخططات الجاهزة والتي غالباً ما يبتعد المعمار عنها تاركاً اياها لمن يحاول انتهاك المهنة.


ثم نقول اخيراً ان هنالك زاوية اخرى للقضية عندما يشارك المعمار في عمليات التطوير العقاري. وهذا ما ساناقشه مستقبلاً ان شاء الله.   


والآن في خضم هذه التداخلات بين تقديم الخدمة او المنتج في مهنة العمارة ماذا سنسمي ذلك المستفيد؟ هل هو عميل ام زبون؟

انا افكر بتسميات جديدة تعبر عن الحالة، قد تكون (الزبيل) او (العمون) !








الأحد، 26 يوليو 2020

لماذا يتحمل استاذ العمارة ذنوبها؟



لماذا يتحمل استاذ العمارة ذنوبها؟

(يفضّل الاطلاع اولاً على النص السابق: الحرية ومسؤوليتها في التصميم المعماري)

يفسّر الدكتور خالد السلطاني في كتابه عمارة ومعماريون عدم امكانية الركون لجواب شافٍ وافٍ عن مفهوم العمارة لكونها ظاهرة ناتجة عن امتزاج العلم والفن.
 يقول: "انها تجمع ما يتعذر مبدئياً جمعه، فمن يقينية العلم وماديته الى آفاق التصور الرحبة المتخمة بها المخيلة الانسانية، تتجول العمارة ضمن هذا المدى خالقة بذلك نتاجها وامثلتها".
هل هذه تصريحات جديدة وصادمة؟
كلا بالتأكيد فنحن منذ اليوم الاول لدراسة العمارة نكرر: انها مزيج من العلم والفن.
فما هو العلم وماهو الفن ابتداءً؟
اولاً نقول كما قلنا عن مفهوم الحرية سابقاً: ان كلا المفهومين من السعة ما يتطلبه كتب ودراسات يصعب احصاء عددها.
 هل نستسلم؟ ولا نناقش هذا المزيج باختصار.
كلا، بل نختار تعريفاً مناسباً نبني عليه نقاشنا، ولا اشكال ابداً اذا اكتشفنا بعدها ان ذلك التعريف بحاجة للحذف او الاضافة.

نقول: ان العلم مجموعة من القواعد والمبادئ والتي من خلالها يتم شرح الظواهر المتنوعة والعلاقات القائمة بينها، فينتج عن تلك القواعد والمبادئ نسق من المعارف المتراكمة والتي يضاف اليها باستمرار بالاعتماد على الحقائق والادلة المختبرة لا على المعتقدات والرغبات الذاتية.

اما الفن فمجموعة من الوسائل التي يستخدمها الفرد لاثارة المشاعر والعواطف، بالتعبير عن افكاره وتوظيف خياله وابداعه، فينتج عن تلك الوسائل عمل جمالي يثير المشاعر في المشاهدين.

وهنا اذكركم مرة اخرى بثنائية (الذات-الموضوع). ذات المصمم، والظروف الموضوعية المفروضة عليه.
وكما هو واضح من التعاريف السابقة، فأن مساحة حرية الذات تتجلى في جزء الفن من العمارة والمسؤول قطعاً عن انتاج الجمال فيها، والظروف الموضوعية تتجلى في جزء العلم من العمارة باختلاف العلوم الفرعية التي يتألف منها.

تبدأ قصتنا اليوم عندما يقوم طالب العمارة او المعمار بفعل التصميم ومحاولة الموازنة بين ذاته وموضوع المشروع الذي يعمل عليه، لتأتي بعدها مرحلة التقييم.
استاذ العمارة يقيّم تصميم الطالب ويمنحه الدرجة التي يستحقها.
العميل يقيّم تصميم المعمار ويمنحه الاجور التي يستحقها.
واذا كانت (الذات) حاضرة في فعل التصميم ونتاجه المعماري فهل هي حاضرة ايضاً في فعل التقييم؟

المشهد الثاني: (نعم الثاني وليس خطأً طباعياً)
ما يميز مهنة العمارة ويزيد من اسباب تعقيدها هو الكلفة العالية لنتاجها، فالعميل عليه ان يدفع مبالغ طائلة لتصميم وتنفيذ دار له، وهو غالبا اصغر المشاريع المعمارية. فكيف الحال بكلفة انماط المباني الاكبر مقياساً؟ في مقابل ذلك البذل من العميل فهو وقد نكون نحن ايضاً على قناعة بان يحصل بالمقابل على نتاج معماري يحقق الوظيفة والمتانة اولاً ويحرك مشاعره ويعبر عن ذكرياته وعواطفه وافكاره ثانياً.
فالعميل يدفع اموالاً طائلة ومن حقه ان يلائم التصميم ذاته المتفردة وتفضيلاتها.
هل هو موقف سهل للمعمار؟ ان يحقق تصميماً ملائماً لذات العميل؟
قبل الاجابة بنعم او لا نفكّر، انه موقف صراع بين ذات المعمار وذات العميل.
ولعل ذلك واحد من اصعب المواقف في ممارسة مهنة العمارة.
يعمل المعمار على مشروع معين ويبذل فيه اقصى الجهد الفكري في صياغة الفكرة التصميمية ويتبعه جهد تصميمي في خلق الجمال مع متطلبات الوظيفة والانشاء بالتاكيد. وبعد دقائق من عرض المشروع على العميل يصاب المعمار بخيبة امل لا توصف، لم يعجب التصميم العميل! فهو لا يجد قيمة للفكرة التصميمية ولا يرى التكوين جميلاً لاسباب معينة تخصه.

وباختلاف ذات عميل لمشروع عن ذات عميل لمشروع اخر يعمل عليه المعمار، وهو خلال مسيرته يعمل على عشرات او مئات المشاريع فهو في مأزق شديد ما لم يكتسب مهارات مهمة:
-       كيف يقرأ المعمار ذات العميل قبل البدأ بالتصميم ويعرف خلفياتها البيئية والثقافية وتفضيلاتها الجمالية واحلامها وطموحاتها ليستطيع الحفاظ على جهده التصميمي من الضياع وان يوازن بين متطلبات المهنة وذاته من جهة وذات العميل مالك الاموال التي يحتاجها من جهة اخرى.
-       كيف يسوّق المعمار تصميمه للعميل ويقنعه به في حالة ان ذات العميل قد تميل الى ما يتعارض مع مبادئ المعمار او اسلوبه التصميمي. فهو بدلاً عن خسارة العميل وامواله يحاول ان يقنعه ببديل آخر يحقق التوازن بين الذاتين.
اذن ان المعمار بحاجة الى مهارة (قراءة ذات العميل) ومهارة (تسويق التصميم) المناسب له اذا كانت متطلبات ذات العميل غير مناسبة.
لينتهي المشهد بسؤال: كيف يكتسب المعمار تلك المهارات؟

المشهد الاول:
 بعد ان فرضنا ان لاغلب الاطراف المشاركين في دراسة وممارسة مهنة العمارة الحق بارضاء ذاتهم الشخصية وبنسب معينة (فطالب العمارة والمعمار تظهر ذاتهم في تصاميمهم، والعميل المستفيد باختيار التصميم المعبر عن ذاته)، فما هو الحال مع استاذ العمارة؟ هل يحق له الاعتماد على ذاته وارضاءها اثناء انجاز مهمامه التدريسية؟
نعرف اولاً انه انسان طبيعي حتى وان كاد ان يكون رسولا.
فان كان يملك ذاتاً كغيره من الناس ويعمل في مجال العمارة التي يعتمد احد شقيها (الفن) على تلك الذات، فلماذا لا يستخدمها؟
واذا كان هو يعلّم تلك المهنة فكيف سيقوم بتلك المهمة دون تنشيط ذاته؟
اذن لنعطه ذلك الحق، حق الاعتماد على (الذات والموضوع معاً)، (الفن والعلم) في تغذية الطلبة بالمعرفة المعمارية وفي (تقييم مشاريعهم) وهي الفعالية التي يعتمد عليها نجاحهم واكتسابهم شهادة المهنة.
ولكن هنا نفكّر بوجود حاجة للتمييز بين (تقييم الاستاذ وتقييم العميل)، فالتقييم الاكاديمي (تقييم الاستاذ لمشاريع الطلبة) يتم على اساس المجموعة، فالاستاذ مسؤول غالباً عن تقييم تصاميم عدد من الطلبة يقل او يكثر.
اما العميل فهو (غالباً) يقيّم تصميماً واحداً لمصمم ذهب لمكتبه او شركته للاستفادة من خدماته، او عدد من التصاميم (بدائل) لنفس المصمم او مكتب التصميم.
ويقع مابينهما المسابقات المعمارية، بان يقّيم العميل (بذاته او بلجنة يكلفها) مجموعة من التصاميم كما في الحالة الاكاديمية.
وانطلاقاً من هذا التمييز فان ميل الاستاذ لذاته في التقييم سيجعله يميل لمشروع طالب دون آخر في المجموعة او مشاريع عدد من الطلبة دون آخرين. والتي هي تتلائم مع تفضيلاته الفكرية والجمالية الذاتية.
هل يصح من الاستاذ ذلك؟
هذا هو سؤال المليون دولار!
ليس لان اجابته صعبة ولكن لان تلك الاجابة نادراً ما تتطابق مع الواقع.
يتفق اغلب طلبة العمارة الحاليين والماضين ان على الاستاذ ان لا يميل لمشروع دون آخر، وان يتعامل اثناء تقييم جميع المشاريع من موقف محايد واحد. وهنا اقول تحديداً:
لماذا يتحمل استاذ العمارة ذنوبها؟
يقوم بتدريس مهنة احد ركائزها الذات الفنية، وهو معمار بالتأكيد قبل ان يكون استاذاً ولديه ذات حساسة، ثم نطلب منه ان يصبح معصوماً من الميل لها.
نطلب منه ان يصبح موضوعياً كالقاضي في احكامه التي تعتمد على القانون فقط.
اعتقد ان الحل المناسب هو ان يرسل الله رُسل حقيقيين لتدريس العمارة، او ان يحاول الاستاذ السيطرة على ذاته وليس القضاء عليها تماماً.
افترضنا سابقاً ان على المعمار ان يوازن بين ذاته وظروف المشروع الموضوعية، والآن نفترض ايضاً ان على الاستاذ الموازنة بين ذاته وبين ظروف المشاريع التي يدرّسها للطلبة.
ولان الجو الاكاديمي هو جو معماري افتراضي، فلا مواقع واقعية تماماً ولا تفكير دقيق بكلفة المشروع وتفصيلاته، لذا فان تحقيق الموازنة عند الاستاذ اصعب بالتأكيد، فهو ان لم يكن واعياً لتحقيقها فقد يذهب مع ذاته بعيداً جداً. ولعل واحداً من سبل تحقيق تلك الموازنة هو وضع مجموعة من القواعد المعلنة والمتفق عليها بين الاستاذ والطلبة. قواعد تصميمية (علمية) تلائم المرحلة التي يعملون عليها. وقد تأتي من مرجع علمي معماري واحد او مجموعة مراجع.
والهدف هو تحديد مساحة ذات الاستاذ وذوات الطلبة ايضاً دون القضاء عليها، فبانعدام الذات تتحول العمارة الى تخصص آخر لا اعلم ماذا نطلق عليه تحديداً.
ماذا لو لم يكن الاستاذ واعياً لتحقيق تلك الموازنة؟
او هو يحاول تحقيقها ولكن نتائج المحاولة لاتزال غير مقنعة للطلبة. فلذاته حضور واضح امامهم.
ماهو الحل؟
هل سيواصل الطلبة التذمّر؟
ام نستطيع التفكير بطريقة مختلفة؟
هل تتذكرون نهاية المشهد الثاني؟
كيف يكتسب المعمار مهارة قراءة ذات العميل ومهارة تسويق التصميم المناسب له اذا كانت متطلبات ذات العميل غير مناسبة؟
لماذا لا نعتبر الاستاذ هو العميل المتعب؟ وان جميع تفاصيل تعاملنا معه هو تدريب لكيفية التعامل مع ذلك العميل المستقبلي.
ان نتدرب معه على كيفية قراءة ذاته، ونتدرب على كيفية تسويق تصميمنا له، لنحصل على الدرجة التي نريدها والتي تقابل الاموال التي نبحث عنها دائماً في الحاضر والمستقبل.
هل فهم احداً انني المّح لضرورة مجاملة الاستاذ والتقرّب منه او محاولة خداعه لنيل رضاه واقناعه بالتصميم؟
كلا ابداً، هي مطالبة باكتساب الطالب لمهارات في علم النفس (نعم هو علم موضوعي) وفي علم التسويق (وهو علم ايضاً تتوفر امكانية تعلّم مبادئه على شبكة الانترنت).
وان يطبّق الطالب تلك المهارات على الاستاذ الذاتي ويعتبره حالة تطبيقية للعميل المستقبلي والذي سيصادفه بكثرة.
فالعميل الموضوعي نادر الوجود. ولماذا نبحث عن عميل موضوعي وهو يدفع اموال طائلة لتحقيق ذاته؟

المشهد الختامي:
الخلاصة هي اما ان يكون الاستاذ واعياً فيضع قواعد علمية متفق عليها مع طلبته لتحديد ذاته، واما ان يكون غير واعٍ ولا يستسلم الطالب للتذمّر بسبب عدم ملائمة تصميمه لذات الاستاذ، لانه سيقع في نفس الموقف ولا يلائم تصميمه للعميل وعليه ان يجد الطرق البديلة لنيل الدرجات والاموال مستقبلاً.

ثم هنالك من يفكر اننا نحمل الطالب تقصير الاستاذ فمع ما هو مطالب به من تعلم مهارات معمارية نطالب منه الان تعلم مهارات نفسية وتسويقية.
لنفكر بطريقة اخرى هنا ايضاً، نحن لا نمتلك السلطة على تقصير الاستاذ ولكن نمتلك سلطة تحويل الموقف الى موقف تدريب وزيادة قوة للمعمار الشاب.
وبالتاكيد ان مهنة العمارة اليوم واكثر من الماضي كثيراً البقاء فيها للاقوى.
لن يستطيع الطالب الضعيف ان يعيش في سوق العمارة الصعب والمتطلّب دائماً.














السبت، 11 يوليو 2020

الحرية ومسؤوليتها في التصميم المعماري



الحرية ومسؤوليتها في التصميم المعماري

نسمع للكاتب والاعلامي المصري ابراهيم عيسى حواراً خطيراً كتبه لاحدى شخصياته السينمائية تقول فيه:
-         انا مش طايقة حمل الحرية الي انتوا مديهالي، "شوفي عقلك بيقولك اي يافريدة"، "شغلي مخك يافريدة"، انا بقا مش عايزة اشغل مخي. عايزة ابقة مع حد شخصيتو قوية.
-         مين قال ان الانسان لما يعيش حر حيبقة مرتاح؟!
-         دي مسؤولية بتخنق.
ثم نقرأ الكثير من الاراء عن العلاقة بين الحرية والمسؤولية منها:
ان المسؤولية هي ثمن للحرية، وان البطل هو الشخص الذي يدرك المسؤولية التي تأتي مع حريته.
وفي مهنة تعليم العمارة نفكر دائماً في صناعة (المعمار البطل)، لذا فنحن بحاجة الى تشخيص طبيعة تلك المسؤولية.

ولكن.. من قال اولاً ان المعمار يجب ان يكون حراً؟

ننطلق غالبا من تعريف ما نتحدث عنه، حتى ان لم يكن تعريفاً دقيقاً فهو افضل من الاعتماد على المعنى المتداول للمفهوم والذي يعاني من الضبابية والشواش في استخدامنا اليومي له.

"الحرية هي القوة او الحق للفعل او الكلام او التفكير كما يريد الانسان"، و"هي الانفلات من القيود والعبودية".
نعم ان مفهوم الحرية اوسع واعمق من ان يعرّف بسطر واحد، لكن لا عزاء لمن لا يحاول.

ولان جوهر العمارة هو فعل التصميم فلنستذكر سوية ما قرأناه سابقاً عن مفهوم التصميم المعماري:

هو ان يقوم الفاعل (المعمار المصمم) باتخاذ مجموعة من القرارات (اختيار شيء محدد من بين بدائل متوفرة) تخص طبيعة العناصر الاولية التي يستخدمها لانتاج منتج معماري جديد، وقرارات تخص صفات تلك العناصر وطبيعة تجميعها سوية، والكثير من القرارات الاخرى ليحقق المنتج الهدف الذي يطمح اليه.

لننظر الآن الى التعريفين ( الحرية – التصميم المعماري)، هل يحق للمعمار ان يختار ما يريده هو ذاته من اختيارات تصميمية؟ ان ينفلت من متطلبات العميل (مالك المشروع المعماري) ومواصفات قطعة الارض والمجاورات ومناخ المدينة وخصوصياتها؟
وهنا نصل الى النقطة نفسها التي وصل اليها الكثير ممن سبقنا في هذا السياق والذي صاغوا منها ثنائية (الذات- الموضوع).
متى ينتمي التصميم الى (ذات) المصمم اي شخصيته المتفردة ومتى ينتمي الى الظروف (الموضوعية) الواقعية التي تحيط بالتصميم المطلوب.

والحق ان فهم هذه الثنائية اعتبره من الاساسيات لتفسير الكثير من القضايا المعمارية الاكاديمية والواقعية. وقد كتب عنها وفيها الكثير من المؤلفات والبحوث العلمية. واذكر دائما ان ما استمتعت بقراءته وفهمه هو كتاب :
Sources of Architectural Form: A Critical History of Western Design Theory


ان خلاصة متى يكون المعمار حراّ ومتى يكون مقيّداً:
هي اننا سنستمر بالحركة في مساحة اللون الرمادي (الرصاصي) بدرجاته المختلفة. فلا حرية بيضاء ناصعة ولا عبودية سوداء قاتمة في العمارة.

فالمعمار مقيّد بالكثير من القواعد والظروف المكانية والزمانية للتصميم وحر في اتخاذ قرارات اخرى نابعة من ذاته الشخصية. وان الاقتراب من الابيض جدا او من الاسود جدا هي حالة غير سليمة غالباً.

لذا وربطاً بنقطة انطلاقنا بالبحث عن طبيعة (مسؤولية الحرية المعمارية)، فان المعمار البطل يجب ان يميّز متى يمكنه ان يكون حراً ومتى يلتزم بالقيود المفروضة عليه، ثم عليه ان يدرك المسؤولية التي تاتي مع حريته النسبية تلك.

بالعودة دائماً الى ثلاثية فتروفيوس لاركان العمارة الناجحة (المتانة والمفعة والجمال) فاننا نجد وقد يكون ذلك من البديهي ان ركن (الجمال) تتحقق فيه اعلى نسبة لحرية المعمار.
فـ(المتانة) تقع تحت قيود صفات المواد وعلوم الانشاء، و(المنفعة) تقع تحت قيود راحة المستخدمين.
لكن للجمال علم ايضاً، هو (علم الجمال) والذي يدرس كيفية الشعور بالجمال عند الانسان وكيفية تحقيق الجمال في العمل الفني، ويناقش صياغة قواعد اساسية لابتكار الاعمال الفنية الجيدة.
وبحضور القواعد حضر الالتزام بها وانتقصت حريّة الفنان او المعمار الكاملة.
قد نسمع من يقول: كلا ان الفن مجرّد تماماً من اي قاعدة، او هو يثور على القواعد، قواعد العلوم وقواعد الواقع عامة.
فنقول في حالة وجود قواعد للجمال او عدم وجودها فاننا يجب علينا ان نتعلمها اولاً ثم نلتزم بها او نثور عليها.

ونسأل مرة اخرى حتى لا نفقد مسار تفكيرنا: اين اصبحت الحرية؟
تكمن حرية المعمار جمالياً في ترجمة تلك القواعد العامة الى تكوينات معمارية محددة.
فالقاعدة هي قاعدة عامة مجردة، وتحتمل تطبيقها بعدد لا يحصى من الاحتمالات الشكلية.

ماذا عن مسؤولية تلك الحرية؟
هي ان نتحمل نتائج ترجمتنا لتلك القواعد او نتائج الاختيارات التي نقررها في فعل التصميم المعماري. وتلك النتائج يجب ان تصب في او تحقق الجمال قطعاً، الجمال الذي يراه الاخرين ايضاً وليس الذي نراه نحن فقط.

وبذلك نجيب اخيراً عن: هل ان المعمار حر في فعل التصميم؟ فنقول هو حر نسبياً وتظهر اعلى نسبة في ركن جمال التصميم.
ونجيب عن: ما هي مسؤولية المعمار في حرية خلق الجمال؟ فنقول ان يتحمل نتائج اختياره لاحد الاحتمالات اللانهائية لترجمة قواعد الجمال العامة.

لكننا نرى احيانا ان هنالك من يسلب حرية من يتعلم العمارة بطريقة واعية او غير واعية، وذلك عن طريق التوجيه لاختيار احتمالات معينة من بين ملايين الاحتمالات التي قد يختارها المتعلّم بنفسه لتحقيق قواعد الجمال.

وبالمقابل فان اغلب طلبة العمارة يجدون السهولة في التخلص من مسؤولية حريتهم في الاختيار ويتبعون طريق العبودية للآخرين.
وبذلك تظهر نتاجات مجموعة منهم متشابهة جداً لانها لا تعبّر عن شخصياتهم وعن خياراتهم الشخصية. وانما تعبر عن شخصيات من حرمهم حرية التعبير.
لقد تخلوا عن حريتهم للحصول على الراحة من مسؤوليتها.

وهو بالتأكيد ليس طريق الابطال.