الخميس، 30 مارس 2017

قصة العوينات

قصة العوينات

أنا فرِح بنظارتي الشمسية الجديدة كطفل حصل على لعبة ممتعة.

هل تستحق نظارة جديدة الكتابة عنها؟

في الكتابة هنالك ثيمات أو أفكار عامة يستخدمها الكتّاب لمعالجة موضوعاتهم المتنوعة، ولعل تلك الثيمات (الأفكار) تظهر بوضوح في الافلام السينمائية أيضاً، أفلام خيال علمي، أفلام عن علاقة الإنسان بالطبيعة وظواهرها، وعلاقته بالحيوان وبكل ما يدور حوله...
وهنالك ثيمة علاقة الإنسان بما يصنعه من أدوات متنوعة أو عناصر البيئة المحيطة به، نقرأ عنها في (إسمي أحمر) لأورهان باموق وفي (فهرس) لسنان انطون، والحديث عن تلك العلاقة يكون بلسان الادوات والمحيطات وليس لسان الإنسان ذاته، ولكن بالتأكيد المقصود هو الإنسان أيضاً وبرؤية جديدة فالسجادة تتكلم عن الانسان والجدار يتكلم والتنور يتكلم وهكذا.
لذا الكتابة عن النظارات يأتي إتباعاً لتلك الفكرة وتجربة للثيمة كمجال عمل في المستقبل..

تبدأ قصتي مع النظارات الشمسية في مرحلة الدراسة الإبتدائية، عندما عادت عمتي من نيوزلندا وسط التسعينات وكان مع (الصوغة) عدد من النظارات الشمسية، في فترة الحصار الإقتصادي السابقة كانت الملابس أو الاكسسوارات من الخارج ممتلكات ثمينة جداً، وهي بدورها كانت بموديلات رياضية غير تقليدية، لذا كان إمتلاكي لها وإرتدائها يزودني بإحساس بالاختلاف والتميز !!
إستمرت مجموعة النظارات تلك معي حتى المرحلة المتوسطة لأبدأ بإضافة نظارات أخرى ولأسباب معينة، أتذكر بوضوح نظارة بعدسات خضراء كنت معجب بها نتيجة لعرض فلم (cobra) لسلفستر ستالون، كانت بنفس الموديل تقريباً وسلفستر ستالون كان أحد الأبطال الذين تزين بوستراتهم غرفتي الصغيرة، بعدها وبمرحلة الدراسة الإعدادية صدر فلم (the matrix) بجزءه الأول،  وكان الملفت للنظر صغر مساحة عدسات النظارات لأبطال الفلم وكونها تغطي مساحة صغيرة من العين فقط، لذا أتذكر إحدى محاولاتي بشراء نظارة شمسية مخصصة للأعمار الصغيرة لذا فإن (عضودها) لا تصل الى صيوان الإذن فإستبدلت (العضود) باخرى لنظارات أكبر لتصبح ملائمة لي وأحافظ على صغر مساحة العدسات.



الغريب إنني لا أتذكر بدقة نوعية النظارات التي إقتنيتها خلال فترة دراستي الجامعية، كنت أمتلك بالتأكيد نظارات ولكنها تجارية غير مميزة لتجعلني أتذكرها حالياً، لتأتي بعدها مرحلة العمل والحصول على مبالغ مالية مناسبة تجعلني أفكر بإقتناء نظارات بنوعيات جيدة وذات أشكال غير مستهلكة، ولا أتذكر الآن أيضاً كيف إخترت ذلك المحل المختص ببيع النظارات قريباً من ساحة كهرمانة ومع تعرفي عليه بدأت مرحلة جديدة من قصتي مع النظارات، أولها كانت بتصميم مائل مميز أتذكر كيف أنها في أحد المرات سقطت على الأرض لأضع فوقها قطعة سيراميك ثقيلة نوعاً ما ، فبقيت أزعج أصدقائي بالمبالغة بقوة النظارات وكونها غير قابلة للكسر، وبعد استخدامنا لشبكة الأنترنت بصورة واسعة تعرفت على أن المعماريين غالباً ما يرتدون نظارات بإطارات سوداء مميزة ولأنني أميل للعدسات ذات اللون السمائي لأنها تجعل الشارع والحياة أكثر نظافة ورقّة وفر لي صاحب المحل إمكانية تركيب عدسات سمائية زجاجية من منشأ إيطالي على إطار أسود سميك، ليصنع لي صديقة عزيزة استمرت معي لسنوات طويلة، كم فكرت بتغييرها من أجل التنويع والتغيير الشكلي فقط وبعد شراء عدد من النظارات الأخرى أعود اليها في كل مرة.


لم إفكر جدياً بإستبدالها حتى تعرضت للكسر، ولم تترك لي حلاً آخر.
عدت الى صديقي هذه المرة أيضاً وإذا به يمتك نفس نوع العدسات السابقة لإختار إطار أسود جديد يختلف قليلأ عن تصميم صديقتي، أكثر ميلاً للدائرة وأكثر معاصرة.


لماذا يرتدي المعماريون نظارات بإطارات سوداء؟ ولماذا يرتدون ملابس سوداء غالباً؟ هنالك عدد من التفسيرات التي سأكتب عنها لاحقاً، وانا اعرف إننا في العراق من الصعوبة أن نسير خلف المشاهير بإرتداء اللون الأسود نتيجة للعجاج الذي نعيشه وارتفاع درجات الحرارة المخيف، لذا لنرتدي نظارات بإطارات سوداء فقط ولنفتخر بكوننا معماريين !  







الاثنين، 20 مارس 2017

قل ولا تقل


محمود المرزوق: من تقصد بالمثقف؟
سعد محمد رحيم: هو منتج المعرفة وصانع الجمال الذي يمتلك رؤية نقدية ويهتم بالشأن العام.
محمود المرزوق: إسمع سعد سأفيدك بفكرة، المثقف (اليوم) هو ذلك الثرثار العاجز الذي يخدع نفسه بألاعيب بلاغية فارغة لا تقدم ولا تأخر، وهو في النهاية من الخاسرين!
كانت هذه الحوارية من رواية (مقتل بائع الكتب) خاتمة على سرير يوم ملئ بالأحداث.
وبدأ محمود المرزوق هذا حياته كفنان ثائر على مجتمعه، قضى الجزء الأكبر من شبابه وما بعده بين روسيا وبراغ وباريس، فيعود أخيراً الى بعقوبة مدينته الأولى، يفتتح مكتبة لبيع الكتب فيفشل مشروعه بمرورالوقت، لتنتهي حياته كشيخ كبير وحيد مع كتبه في سرداب عمارة رطب، ساخراً من زبائنه المعدودين وناقداً لهم بلا إستثناء.


وبعد حكاية واقعة حدثت لي بعد قراءة الرواية سأقول لكم الخلاصة، عندما قررت آخر مرة زيارة محلات بيع اللوحات الفنية في شارع كرادة داخل، نزلت الى سرداب إحدى البنايات للفرجة على اللوحات هناك، وعندما دخلت أحد المعارض المظلمة (والواقع أن إسم محل أكثر دقة من إسم معرض)، استقبلني (البائع، السمسار، الفنان) لا أعلم، المهم استقبلني بتعالي واضح جداً، وعندما قلت له أريد أن أتفرج على اللوحات المعروضة تركني لينشغل بحاسوبه المحمول، عثرت لديه على لوحات للفنان العراقي جميل حمودي وعند سؤالي عن أسعارها، أجابني بطريقة روبوتية، هاي بألف ونص دولار، والثانية بألفين ونص دولار، والثالثة بتلاثة ونص دولار... ولما كنت لا أحمل سوى 30 الف دينار عراقي لا غير في جيبي درت بسرعة على اللوحات المعروضة وشكرته وأنا اتجه نحو الباب للمغادرة، ولم يتعب نفسه حتى لإجابتي.
ولو فرضنا أن المتعامل بالفن هو مثقف أيضاً فالخلاصة هي:
 هل يتصف المثقف بالتعالي على العامة؟
وإذا كانت الإجابة نعم، فمن سياخذ بيدهم نحو الثقافة؟
هذه العلاقة الضعيفة بين المثقف والآخرين والتي تشككنا بتعريف سعد محمد رحيم للمثقف، كيف ستصل المعرفة التي ينتجها المثقف للناس؟ وكيف سيتذوقون ما يراه هو جميلاً وهم يخالفونه بالذائقة؟ كيف سيتقبلون منه النقد دون أن يروه متكبراً في برجه العاجي؟ وكيف سيعالج الشأن العام الذي يهتم به؟
يشتري المثقف سيارة فينفصل عن سائق التكسي والكيا والكوستر، يزور المحلات الراقية فينفصل عن بائعي (الجنابر) ومحلات السلع المستخدمة .. وهكذا، فالاتصال والإنفصال هو العامل الأهم في ثنائية المثقف وغيره.
لابد أن نعود الى الماضي أو نسافر خارج الحدود لضرب الأمثلة الإيجابية... العلامة مصطفى جواد عملاق اللغة العربية كما يصفه أبناء جيله، عمل على بث برنامج إذاعي إسمه (قل ولا تقل) يصحح فيه الأخطاء الشائعة في إستخدام اللغة العربية بين الناس، وكان يستمع له الجميع، المختصين والطلبة ومرتادي المقاهي، وقد تحولت مادته الى كتاب لاحقاً وهو متوفر على الشبكة.  وتنقل لنا جدتي إحدى تصحيحاته الكوميدية أو هي من تأليف الناس .. لا أعلم :
يقول: قل همٌ دهاكَ ولا تقل أهمداكَ !
ولكون البرنامج إذاعي فلم يتفضل علينا أحد بتحميله على you tube، ولكنني وجدت مقطعاً يعتمد على فكرة البرنامج.



كل ما سبق من أسئلة  كان سببها شائعة  سمعتها اليوم مرة أخرى وقد سمعتها سابقاً، حيث يشيع بين طلبة هندسة العمارة إستخدام مفردة (رينج) أو (الرينج) لوصف أعلى درجة تمنح لأحد طلبة المرحلة في تقييم  أحد التقاديم المعمارية، ولأن المفردة أصلها كلمة (range)  الانكليزية وترجمتها الأنسب (نطاق) أو (مدى)، لذا فهي تعبر وكما يستخدمها الأساتذة لوصف نطاق الدرجات المحدد بين أوطأ درجة وأعلى درجة. فالاستاذ عندما يقول (رينج الدرجات) يقصد جميع الدرجات وليس الأعلى فقط. ومن غير المناسب لغوياً إطلاقها على الحد الأعلى فقط من الدرجات.
والإشاعة الأكثر غرابة هو أن درجة نجاح الطالب أو رسوبه يحددها أعلى درجة في التقديم أو (الرينج) كما يقولون، فلو كان أعلى درجة منحت لطالب هي 80 مثلاً فأن الطالب الذي نال درجة 40 يعتبر ناجحاً في التقديم !
وإذا كانت أعلى درجة 50 مثلاً فإن درجة 25 تعتبر درجة نجاح أيضاً، وهذه إشاعة خاطئة تماماً.
صحيح إن مستوى تقديم أفضل طالب هو من يحدد درجات المستويات الأقل منه لطلبة المرحلة، ولكن تبقى درجة أي تقييم هي من 100 % وأن درجة النجاح هي 50 % وما فوق دائماً.

لذا وإتباعاً للعلامة المرحوم مصطفى جواد أقول لطلبة هندسة العمارة:
 قل أعلى درجة ولا تقل الرينج ...
الرينج وحمد !! ها ها ها .
وأنا أعلم أن مصطفى جواد سينعتني بصفات سيئة عندما يرى اللغة العربية التي أكتب بها... 











الجمعة، 10 مارس 2017

اسطورة ينبوع نصب الشهيد

اسطورة ينبوع نصب الشهيد

كان عنوان البريد الألكتروني غيرَ مألوفاً لي... وما جعلني أفتح الرسالة الواردة منه بلا حذر عنوانها: (المهندس المدني مسعود محمد علي)، وبدأت أقرأ نصها مستغرباً:
تحية طيبة ...
أنا المهندس المدني مسعود محمد علي، أعيش حالياً في استراليا، لقد كنت أنوي في الاسبوع الماضي شراء كلب صغير يؤنسني في وحدتي هنا، لذا ذهبت الى أحد مراكز بيع الكلاب في المدينة التي أعيش فيها، وأنا في طريقي الى المركز أعادتني ذاكرتي الى سوق الغزل في بغداد، فقد أخذني أبي أول مرة وأنا أبلغ ست سنوات تقريباً ولم أنقطع بعدها عن زيارته كل عام حتى سنتي الأخيرة في بغداد قبل أن أهاجرها.
أعجبني كلب من سلالة بيكَل فهو لطيف جداً والحقيقة أعجبني لأنه نفس نوع الكلب الذي أهدته زوجة الممثل كيانو ريفز له في فلم John Wick: Chapter 2 الذي شاهدته قبل اسبوع في السينما، وفي طريقي الى المنزل كان خيالي لا يزال يتجول في محلات سوق الغزل وأرصفته، محلات بائعي الطيور وبائعي أسماك الزينة والكلاب الشرسة التي تختلط بالناس دون أن تؤذيهم، كم تمنيت أن أزوره مرة أخرى، أحشر نفسي بين جموع المتفرجين وأنتقل من (لمّة) الى أخرى لأكتشف أي حيوان قد جذب إنتباههم الى هذه الدرجة، أسف لأنني استرسل بذكرياتي قبل أن أخبرك ماذا أريد منك ...
 المهم... عندما دخلت البيت ذهبت الى حاسوبي المحمول مباشرة وكتبت (سوق الغزل) على google، شاهدت بعض التقارير المصورة عن السوق وآلمتني أخبار تفجيراته ثم عثرت على ما كتبته أنت في مدونتك عن إسطورة مأذنة سوق الغزل، لقد كانت إسطورة جميلة عن معلم بغدادي كنت أراقبه دائماً، وقررت حينها أن أكتب لك قصتي الشخصية مع معلم بغدادي آخر ليطلع عليها الآخرين، لان تلك القصة حبيستي منذ وقت طويل جداً.
عام 1982 كنت موظفاً في هيئة تنفيذ المقاولات في بغداد، وقد تم تكليفي مع آخرين من الهيئة بالإشراف على تصميم وتنفيذ نصب ومتحف الشهيد، لقد كانت أجمل أيام حياتي، تعرفت حينها على الكثير من الشخصيات الممتعة، ومنهم خبير فني ياباني بمواد الإنهاء إسمه (إيشيكاوا) كان يعمل مع شركة (كاجيما) اليابانية المنفذة للمشروع، تعارفنا في فترات الاستراحة والغداء، في البداية كان يبتسم لي بطريقة وديّة جداً عندما نتقابل ويلقي التحية بحرارة ثم بدأنا نتبادل الأحاديث المختصرة بلغتينا الانكليزية المتواضعة لنصبح أخيراً من أعز الأصدقاء. ليحكي لي بدوره قصته الخاصة، لقد كان طفله الصغير الأول مريضاً بمرض غريب جداً لم يستطع الاطباء تشخيصه في تلك الفترة، لذا وبعد أن فقد الأمل تماماً بشفائه التجأ لزيارة معابد الإله (إزاناغي)، حيث تقول أساطيرهم أنه في صراع مع زوجته (إزانامي) فقد قطعت هي عهداً بأنها ستقتل ألفاً من الأشخاص الذين يخلقهم زوجها كل يوم، ولكن إزاناغي رد عليها قائلاً: أن ألفاً وخمسمائة شخص جديد سيولد كل يوم، وكان صديقي إيشيكاوا يصلي لأن يمنح إزاناغي روحاً من تلك الأرواح يومياً لإبنه ليعيش يوماً آخر حتى يجد له العلاج المناسب.
ولأنه كان بحاجة الى الأموال للبحث عن العلاج، أسند مهمة زيارة المعبد يومياً لزوجته وقرر قبول العمل مع الشركة في العراق، فالشركة تدفع له راتباً محترماً، والعمل ينتهي خلال سنتين تقريباً، وأثناء إستعداداته للسفر الى العراق ذهب الى مكتبة المدينة وأستعار كتاباً يتحدث عن العراق وحضاراته القديمة، لذا كانت أغلب أسئلته في لقائاتنا اليومية على الغداء عن مواقع مدن تلك الحضارات وشخصيات ملوكها وأساطيرها، وكان مهتماً بالتحديد بكلكامش وملحمته السومرية، لقد كان يسألني بجدية عن إمكانية العثور على عشبة الخلود التي كان يبحث عنها كلكامش! كان يسألني عن الأساطير التي تتحدث عن إمكانية شفاء الامراض وكنت إجيبه بمعلوماتي البسيطة وما سمعته من جدي وجدتي من قصص وحكايات شعبية.
وفي إحدى زياراتي لجدتي رحمها الله، حكيت لها حكاية صديقي إيشيكاوا وطفله المريض المسكين، فتعاطفت جداً مع القصة ونهضت بعدها الى كتاب ورثته من أمها التي كانت تعلم القرآن لأطفال المحلة البغدادية، تصفحت الكتاب وقالت لي سأصف لك ختماً قرآنياً للشفاء من الأمراض عسى أن يقبل بتجربته وهو الذي يريد التمسك بأي محاولة لشفاء طفله.
قالت حينها أن الختم يتضمن قراءة آيات الشفاء الستة، كل آية يتم قراءتها على الماء سبع مرات ثم يشرب الماء على الريق فيبرأ الإنسان من مرضه بإذن الله والآيات هي:
(ويشف صدور قوم مؤمنين)، (وشفاء لما في الصدور)، (وننزل من القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين)، (يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس)، (وإذا مرضت فهو يشفين)، (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء).
وعندما أخبرته عن الختم وأنه آياتٍ من القرآن الكريم كتاب المسلمين المنزل من السماء هلل وجهه فرحاً وتوسلني أن أسجل له تلك الآيات بصوتي على شريط كاسيت ليستطيع ترديد تلك الآيات بسهولة، فسجلت له الآيات في اليوم التالي وقدمت له الكاسيت وهو لا يكف عن الإنحناء تشكراً وإحتراماً لي.
في تلك الأيام كان إيشيكاوا يعمل على تغليف وإنهاء السطح الداخلي لينبوع الماء ضمن النصب والذي شرحت له حينها دلالته تعبيراً عن سخاء العطاء المنهمر للشهادة وكون الشهادة سبيلاً تغتني به الحياة وتتوالد وتستمر الى يوم الدين، وكنت أراقبه حينها وهو يعمل وقد علق على حزامه جهاز تسجيل صغير من نوع sony ترتبط به سماعات يضعها على إذنيه وهو يحرك شفتيه بالآيات القرانية الستة. أخبرني بعدها أنه مع كل قطعة سيراميك صغيرة يثبتها على ارضية الينبوع يقرأ إحدى الأيات، فقد خطط لقراءة كل آية من الآيات الستة سبع مرات عن كل يوم من عمر طفله الصغير وعند الإنتهاء من العمل وتدفق الماء من الينبوع سيأخذ من ذلك الماء ليسقي به طفله عند عودته الى اليابان.


كنت أراقبه في الأيام الأخيرة وهو يعمل بجد، لنلتقي في الاستراحة فيمازحني بأن أصحح له الآيات الكريمة وهو يقرأها غيباً دون الاستماع للتسجيل، كان يزداد فرحاً وبهجة كلما تقدم العمل وقرب على الإنتهاء.
بعد تشغيل ينبوع الماء والإنتهاء من كافة الإعمال التفصيلية للمشروع كنت منشغلاً عنه بفحص كل تفصيل والتأكد من سلامة كافة الأعمال لإستلام المشروع من الشركة المنفذة، وفي الأيام الأخيرة تفاجأت به يقف في غرفتي مبتسماً إبتسامة عريضة، أخبرني إنه قدم طلباً للشركة للعودة باكراً الى اليابان نتيجة لظروفه الخاصة، وعندما سألته هل أخذت من ماء الينبوع؟ إحتضن حقيبة صغيرة كان يعلقها على كتفه وإنحى لي ثلاث مرات ليغادرني في ذلك اليوم.
وبعد إسبوع تقريباً وكنت لا أزال أقوم بأعمال تسلم المشروع جاءني موظفاً من الشركة اليابانية وسلمني مظروفاً معنوناً لي من اليابان وبواسطة بريد الشركة المباشر، لقد كان من إيشيكورا... فتحته بروية محاولاً تخمين ما يتضمنه من أخبار، وبعد التحية أخبرني إن إبنه كان على حاله السئ عند عودته وفي اليوم التالي سقاه من ماء الينبوع صباحاً دون ان يخبر إمه عن قصة الماء، وبعد عودته من دوامه في موقع الشركة لاحظ تغيراً على وجه طفله، لقد إكتسب لوناً وصحة! وفي اليوم الثاني سقاه من الماء أيضاً ليشفى الطفل من مرضه تماماً بعد ثلاثة أيام! وتوسلني أن أرسل له كمية أخرى من ماء الينبوع بواسطه طرد على عنوانه البريدي الشخصي وليس عن طريق الشركة.
لقد كانت مفاجأة عظيمة لي، طفله الذي عجز أطباء اليابان عن شفائه، شفي بواسطة ماء ينبوع نصب الشهيد وببركة الآيات القرانية وبإذن الله سبحانه وتعالى.
ذهبت يومها الى بيت جدتي مباشرة وأبلغتها الخبر فصلت باعلى صوتها على نبينا محمد وآله وأصحابه وإغرورقت عيناها بالدموع.
بعدها كان يراسلني سنوياً ويطلب مني كمية أخرى من ماء الينبوع ليعطيها لأفراد عائلته وأصدقاءه المقربين، ولكنني توقفت عن ذلك عند مغادرتي للعراق مضطراً، فأصابه الحزن الشديد لسماعه الخبر، وهو يسالني دائماً إن كان هنالك أحد في العراق يستطيع أن يرسل له مزيداً من ماء الينبوع  ولكنني لا أعرف أحداً يقوم بهذه المهمة، لذا إن كنت تستطيع الذهاب الى هناك فأنا متأكد من إنه سيدفع لك مبلغاً محترماً مقابل أن ترسل له ما يريد، وأنا مستعد لإبلاغه بذلك وتزويده بعنوان بريدك الألكتروني للتواصل معك.
أتمنى لك السلامة دائماً وأسف على الإطالة ...
أخوك: مسعود محمد علي.


أغلقت نافذة بريدي الألكتروني وأنا أتساءل: هل يعقل أن تكون الطحالب التي رأيتها في مياه الينبوع آخر مرة هي نوعاً من أنواع عشبة كلكامش للخلود ؟!










الأربعاء، 8 مارس 2017

غرفة الشتائم

من حُسن حظ الإنسان أن يمتلك أصدقاءاً يكبرونه عُمراً، ومن حُسن سلوكه أن يستمع لهم... ثم يقرر بعدها الأخذ بنصائحهم وخلاصة تجاربهم أو أن يشق لنفسه طريقاً خاصاً به لا يتطابق مع طريقهم ولا يغفله أيضاً.
كنت برفقة د. بشار شامل عندما قررت أن أشتري سلحفاة... مجموعة من السلاحف الصغيرة الجميلة في حوض بلاستيكي نصف ممتلئ ومنصة خارج الماء لوقوف السلاحف وجهاز لتحريك الماء وتزويده بالاوكسجين، سأل البائع: أيهم تريد؟ فقلت لدكتور بشار: لنختار أكثرهن نشاطاً وحركة... فأجاب:
-أخشى أنها رقصة الموت!
تذكرت تعبيره اليوم وأنا أشاهد من شباك الطابق الثالث، طلبة أحد أقسام الجامعة وهم يحتفلون بتخرجهم...
أتضايق من هذه الأيام خلال العام الدراسي، أيام إحتفالات التخرج... نوعية الأغاني الهابطة والمبالغة بالمظاهر ليست هي السبب الحقيقي، السبب هو إستحضاري لمشاعر تخرجي من دراسة البكالوريوس، إذا كان هنالك مشاعر فرح بالتخرج فهو كما أعتقد بنسبة ضئيلة، والنسبة الأكبر لمشاعر القلق من نجاح الخطط بعد التخرج، خاصة في عام تعيس مثل عام 2006 وما بعده.
لا أريد الجزم بموضوع لست صاحبه، ولكني أعتقد ان رقص الطلبة بهذه الطريقة وعلى هذه النوعية من الأغاني هي (رقصة الموت).
ورقصة الموت كما يخبرنا الباحثون السوريون، هي قصيدة سيمفونية ألفت عام 1874 على يد الفرنسي كاميل سانت سين، وفكرته مستوحاة من لوحة رسمها الفنان ميكائيل فولغيمون عام 1493، وطبقاً للإسطورة: يظهر الموت عند منتصف الليل في الهالوين من كل عام، ويستدعي الأموات في قبورهم ليرقصوا له، بينما يعزف هو على كمانه، وتستمر رقصتهم هذه حتى يبزغ الفجر، بعدها يعود الأموات الى قبورهم لينتظروا للسنة التالية.


وكما يتخلص الإنسان من قلقه ومشاعره السلبية عن طريق الرقص، كنت أستمع للأمريكي ستيف هارفي وهو يتحدث عن دور إطلاق الشتائم في القيام بنفس الوظيفة. يقول أن من يطلق الشتائم لا يصاب بأمراض الرئة والقلب والشرايين...
ولأن الدين الأسلامي والأخلاق الإنسانية عامة تنهى عن إطلاق الشتائم على الأخرين، فمن المفضل الإبتعاد عنها... ولكن هل هذا سهل وممكن التطبيق؟
بالتأكيد هنالك مستويات من الشتائم، مستويات بذيئة جداً ولا يمكن بأي حال من الأحوال إستخدامها،  ومستويات غير بذيئة تستخدم الحيوانات مثلاً وما ينتعله الإنسان بقدميه بإختلاف الأنواع والمسميات.
أعتقد أننا بحاجة لإستخدام النوع الثاني، وخاصة عندما يفاجئنا أشخاص آخرين بمواقف سخيفة جداً وغير متوقعة كما حصل معي اليوم. عندما يمتلئ رأس إنسان بأفكار مريضة فيعتقد أن الآخرين يفكرون بنفس الطريقة التي يفكر بها!
عندما يكون الإنسان كاذب مثلاً فهو يعتقد أن الجميع كاذبون..
 ولأنني أحاول التفكير بكل ظاهرة بأكثر من طريقة، فقد لا يكون الإنسان كاذباً ولكنه لكثرة تشخيصه للكاذبين حوله سيفقد الثقة ويظن بهم ظن السوء.
المهم كنت بحاجة شديدة اليوم لإطلاق الشتائم، ولكنني لم أستطيع ولا أستطيع في مرة قادمة أيضاً، ولأننا نشترك بتلك الظاهرة الإنسانية التي تتمثل بإستعادتنا للمواقف التي نمر بها ونحاول أن نتخيل طرق أخرى للتعامل معها:
كان من المفترض أن أقول له كذا ... كان من المفترض أن أقنعه بالدليل الكذائي ... وهكذا.
لذا ونتيجة لتطور التكنولوجيا وبالتحديد تكنولوجيا الواقع الإفتراضي، أعتقد أننا بحاجة لفكرة جديدة وهي حتى بداية لمشروع تجاري مربح.
يأتي الزبون وهو منزعج من موقف سابق لم يتعامل معه بالطريقة التي يتمناها وتخيلها بعد إنتهاء الموقف، فنعمل على إعادة تصميم الموقف إفتراضياً، المكان والأشخاص ونترك له حرية التصرف هذه المرة بلا خوف من العواقب.
يُجيب ويقنع ويشتم ويضرب ... فيعود الى الواقع وهو أقل توتراً وحتى أكثر خبرة للتعامل مع المواقف في المستقبل لأنه مارس خياله على الأقل إفتراضياً ...



انا مستعد لدفع مبلغ محترم لإعادة مشهد اليوم وإستخدام ما أملتكه من خزين شتائمي غير المستخدم، فهل هنالك من يمتلك رأس مال كافي للبدأ بالمشروع؟