اسطورة ينبوع نصب الشهيد
كان عنوان البريد الألكتروني غيرَ مألوفاً لي... وما
جعلني أفتح الرسالة الواردة منه بلا حذر عنوانها: (المهندس المدني مسعود محمد علي)،
وبدأت أقرأ نصها مستغرباً:
تحية طيبة ...
أنا المهندس المدني مسعود محمد علي، أعيش حالياً في
استراليا، لقد كنت أنوي في الاسبوع الماضي شراء كلب صغير يؤنسني في وحدتي هنا، لذا
ذهبت الى أحد مراكز بيع الكلاب في المدينة التي أعيش فيها، وأنا في طريقي الى
المركز أعادتني ذاكرتي الى سوق الغزل في بغداد، فقد أخذني أبي أول مرة وأنا أبلغ
ست سنوات تقريباً ولم أنقطع بعدها عن زيارته كل عام حتى سنتي الأخيرة في بغداد قبل
أن أهاجرها.
أعجبني كلب من سلالة بيكَل فهو لطيف جداً والحقيقة
أعجبني لأنه نفس نوع الكلب الذي أهدته زوجة الممثل كيانو ريفز له في فلم John Wick: Chapter 2 الذي شاهدته قبل اسبوع في السينما، وفي طريقي الى المنزل كان
خيالي لا يزال يتجول في محلات سوق الغزل وأرصفته، محلات بائعي الطيور وبائعي أسماك
الزينة والكلاب الشرسة التي تختلط بالناس دون أن تؤذيهم، كم تمنيت أن أزوره مرة
أخرى، أحشر نفسي بين جموع المتفرجين وأنتقل من (لمّة) الى أخرى لأكتشف أي حيوان قد
جذب إنتباههم الى هذه الدرجة، أسف لأنني استرسل بذكرياتي قبل أن أخبرك ماذا أريد
منك ...
المهم... عندما
دخلت البيت ذهبت الى حاسوبي المحمول مباشرة وكتبت (سوق الغزل) على google، شاهدت بعض
التقارير المصورة عن السوق وآلمتني أخبار تفجيراته ثم عثرت على ما كتبته أنت في
مدونتك عن إسطورة مأذنة سوق الغزل، لقد كانت إسطورة جميلة عن معلم بغدادي كنت
أراقبه دائماً، وقررت حينها أن أكتب لك قصتي الشخصية مع معلم بغدادي آخر ليطلع
عليها الآخرين، لان تلك القصة حبيستي منذ وقت طويل جداً.
عام 1982 كنت موظفاً في هيئة تنفيذ المقاولات في بغداد،
وقد تم تكليفي مع آخرين من الهيئة بالإشراف على تصميم وتنفيذ نصب ومتحف الشهيد، لقد
كانت أجمل أيام حياتي، تعرفت حينها على الكثير من الشخصيات الممتعة، ومنهم خبير فني
ياباني بمواد الإنهاء إسمه (إيشيكاوا) كان يعمل مع شركة (كاجيما) اليابانية
المنفذة للمشروع، تعارفنا في فترات الاستراحة والغداء، في البداية كان يبتسم لي
بطريقة وديّة جداً عندما نتقابل ويلقي التحية بحرارة ثم بدأنا نتبادل الأحاديث
المختصرة بلغتينا الانكليزية المتواضعة لنصبح أخيراً من أعز الأصدقاء. ليحكي لي
بدوره قصته الخاصة، لقد كان طفله الصغير الأول مريضاً بمرض غريب جداً لم يستطع
الاطباء تشخيصه في تلك الفترة، لذا وبعد أن فقد الأمل تماماً بشفائه التجأ لزيارة
معابد الإله (إزاناغي)، حيث تقول أساطيرهم أنه في صراع مع زوجته (إزانامي) فقد
قطعت هي عهداً بأنها ستقتل ألفاً من الأشخاص الذين يخلقهم زوجها كل يوم، ولكن
إزاناغي رد عليها قائلاً: أن ألفاً وخمسمائة شخص جديد سيولد كل يوم، وكان صديقي
إيشيكاوا يصلي لأن يمنح إزاناغي روحاً من تلك الأرواح يومياً لإبنه ليعيش يوماً
آخر حتى يجد له العلاج المناسب.
ولأنه كان بحاجة الى الأموال للبحث عن العلاج، أسند مهمة
زيارة المعبد يومياً لزوجته وقرر قبول العمل مع الشركة في العراق، فالشركة تدفع له
راتباً محترماً، والعمل ينتهي خلال سنتين تقريباً، وأثناء إستعداداته للسفر الى
العراق ذهب الى مكتبة المدينة وأستعار كتاباً يتحدث عن العراق وحضاراته القديمة، لذا
كانت أغلب أسئلته في لقائاتنا اليومية على الغداء عن مواقع مدن تلك الحضارات
وشخصيات ملوكها وأساطيرها، وكان مهتماً بالتحديد بكلكامش وملحمته السومرية، لقد
كان يسألني بجدية عن إمكانية العثور على عشبة الخلود التي كان يبحث عنها كلكامش! كان
يسألني عن الأساطير التي تتحدث عن إمكانية شفاء الامراض وكنت إجيبه بمعلوماتي
البسيطة وما سمعته من جدي وجدتي من قصص وحكايات شعبية.
وفي إحدى زياراتي لجدتي رحمها الله، حكيت لها حكاية صديقي
إيشيكاوا وطفله المريض المسكين، فتعاطفت جداً مع القصة ونهضت بعدها الى كتاب ورثته
من أمها التي كانت تعلم القرآن لأطفال المحلة البغدادية، تصفحت الكتاب وقالت لي
سأصف لك ختماً قرآنياً للشفاء من الأمراض عسى أن يقبل بتجربته وهو الذي يريد
التمسك بأي محاولة لشفاء طفله.
قالت حينها أن الختم يتضمن قراءة آيات الشفاء الستة، كل
آية يتم قراءتها على الماء سبع مرات ثم يشرب الماء على الريق فيبرأ الإنسان من
مرضه بإذن الله والآيات هي:
(ويشف صدور قوم مؤمنين)، (وشفاء لما في الصدور)، (وننزل
من القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين)، (يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء
للناس)، (وإذا مرضت فهو يشفين)، (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء).
وعندما أخبرته عن الختم وأنه آياتٍ من القرآن الكريم
كتاب المسلمين المنزل من السماء هلل وجهه فرحاً وتوسلني أن أسجل له تلك الآيات
بصوتي على شريط كاسيت ليستطيع ترديد تلك الآيات بسهولة، فسجلت له الآيات في اليوم
التالي وقدمت له الكاسيت وهو لا يكف عن الإنحناء تشكراً وإحتراماً لي.
في تلك الأيام كان إيشيكاوا يعمل على تغليف وإنهاء السطح
الداخلي لينبوع الماء ضمن النصب والذي شرحت له حينها دلالته تعبيراً عن سخاء
العطاء المنهمر للشهادة وكون الشهادة سبيلاً تغتني به الحياة وتتوالد وتستمر الى
يوم الدين، وكنت أراقبه حينها وهو يعمل وقد علق على حزامه جهاز تسجيل صغير من نوع sony ترتبط به سماعات يضعها على إذنيه وهو يحرك شفتيه بالآيات القرانية
الستة. أخبرني بعدها أنه مع كل قطعة سيراميك صغيرة يثبتها على ارضية الينبوع يقرأ إحدى
الأيات، فقد خطط لقراءة كل آية من الآيات الستة سبع مرات عن كل يوم من عمر طفله
الصغير وعند الإنتهاء من العمل وتدفق الماء من الينبوع سيأخذ من ذلك الماء ليسقي
به طفله عند عودته الى اليابان.
كنت أراقبه في الأيام الأخيرة وهو يعمل بجد، لنلتقي في
الاستراحة فيمازحني بأن أصحح له الآيات الكريمة وهو يقرأها غيباً دون الاستماع
للتسجيل، كان يزداد فرحاً وبهجة كلما تقدم العمل وقرب على الإنتهاء.
بعد تشغيل ينبوع الماء والإنتهاء من كافة الإعمال
التفصيلية للمشروع كنت منشغلاً عنه بفحص كل تفصيل والتأكد من سلامة كافة الأعمال
لإستلام المشروع من الشركة المنفذة، وفي الأيام الأخيرة تفاجأت به يقف في غرفتي
مبتسماً إبتسامة عريضة، أخبرني إنه قدم طلباً للشركة للعودة باكراً الى اليابان
نتيجة لظروفه الخاصة، وعندما سألته هل أخذت من ماء الينبوع؟ إحتضن حقيبة صغيرة كان
يعلقها على كتفه وإنحى لي ثلاث مرات ليغادرني في ذلك اليوم.
وبعد إسبوع تقريباً وكنت لا أزال أقوم بأعمال تسلم
المشروع جاءني موظفاً من الشركة اليابانية وسلمني مظروفاً معنوناً لي من اليابان
وبواسطة بريد الشركة المباشر، لقد كان من إيشيكورا... فتحته بروية محاولاً تخمين
ما يتضمنه من أخبار، وبعد التحية أخبرني إن إبنه كان على حاله السئ عند عودته وفي
اليوم التالي سقاه من ماء الينبوع صباحاً دون ان يخبر إمه عن قصة الماء، وبعد
عودته من دوامه في موقع الشركة لاحظ تغيراً على وجه طفله، لقد إكتسب لوناً وصحة!
وفي اليوم الثاني سقاه من الماء أيضاً ليشفى الطفل من مرضه تماماً بعد ثلاثة أيام!
وتوسلني أن أرسل له كمية أخرى من ماء الينبوع بواسطه طرد على عنوانه البريدي
الشخصي وليس عن طريق الشركة.
لقد كانت مفاجأة عظيمة لي، طفله الذي عجز أطباء اليابان
عن شفائه، شفي بواسطة ماء ينبوع نصب الشهيد وببركة الآيات القرانية وبإذن الله
سبحانه وتعالى.
ذهبت يومها الى بيت جدتي مباشرة وأبلغتها الخبر فصلت
باعلى صوتها على نبينا محمد وآله وأصحابه وإغرورقت عيناها بالدموع.
بعدها كان يراسلني سنوياً ويطلب مني كمية أخرى من ماء
الينبوع ليعطيها لأفراد عائلته وأصدقاءه المقربين، ولكنني توقفت عن ذلك عند
مغادرتي للعراق مضطراً، فأصابه الحزن الشديد لسماعه الخبر، وهو يسالني دائماً إن
كان هنالك أحد في العراق يستطيع أن يرسل له مزيداً من ماء الينبوع ولكنني لا أعرف أحداً يقوم بهذه المهمة، لذا إن
كنت تستطيع الذهاب الى هناك فأنا متأكد من إنه سيدفع لك مبلغاً محترماً مقابل أن
ترسل له ما يريد، وأنا مستعد لإبلاغه بذلك وتزويده بعنوان بريدك الألكتروني
للتواصل معك.
أتمنى لك السلامة دائماً وأسف على الإطالة ...
أخوك: مسعود محمد علي.
أغلقت نافذة بريدي الألكتروني وأنا أتساءل: هل يعقل أن
تكون الطحالب التي رأيتها في مياه الينبوع آخر مرة هي نوعاً من أنواع عشبة كلكامش
للخلود ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق