السبت، 11 أبريل 2020

أقواس منتصف الليل


اقواس منتصف الليل

                                                                      أذار 2015

-1-

لا يوجد خبر عاجل في العراق لا يجلب الهَم، ولكن هذه المرّة، نعم ... خبر لا يسبب الكآبة، خبر خارج عن المألوف.
أصدر رئيس مجلس الوزراء العراقي أمراً برفع حظر التجوال الليلي عن العاصمة بغداد بعد 10 سنوات من منع خروج الاشخاص بعد منتصف الليل وحتى الخامسة فجراً.
قرار قد لا يضر ولا ينفع أغلب سكنة بغداد، ولكن (سامي) تحت فئة المستفيدين، فهو لا ينام في فراشه إلا ثلاث ليالٍ في الاسبوع فقط، وهذا حاله منذ أن بدأ عمله الجديد في شركة للإتصالات.
العمل في جانب الكرخ وهو يسكن أعماق الرصافة، وبسبب إنتهاءه في ساعة متأخرة من الليل فهو لا يملك الوقت الكافي للوصول الى مسكنهِ قبل الساعة الثانية عشر، لذا يضطر المبيت في العمل مع مجموعة من الزملاء الآخرين. والمبيت أو العيش في مكان يخلو من المرأة، مشابه للعيش في كهف نياتردالي لا تدخله الشمس، أو كوخ ثلجي في القطب الشمالي. والقرار الأخير على وشك أن يعيد سامي الى نور والدته وأخواته بعد أن أنهى عمله الساعة الحادية عشر وعشر دقائق متوجها الى البيت.

-2-

- بالترفك لايت نازل استادي.
نزل سامي من (الكيا) في ساحة الخلاني، عند نهاية الشارع القادم من جسر السنك، وكان عليه أن يمشي حتى ساحة الطيران حيث تقف (الكيات) التي تقله الى منطقته.
 عبر شارع الجمهورية الخالي من السيارات وهو ينظر الى يساره بإتجاه قبة ومنارة جامع الخلاني، كانت الليلة تمتلك ثلث قمر، يلوّن ضياءه المباني بلون رمادي كئيب. ما إن وصل زاوية الشارع المؤدي الى ساحة الطيران، حتى خفت ضوء القمر، دخل في فضاء مظلم، نظر الى الرصيف ليشاهد الحد الفاصل بين الضوء والظل، لأول مرة يكتشف أن للقمر ظلاً، الجميع في العراق يبحث عن ظل الشمس، ظل الشمس الرحيم، ولكن الأمر هنا مختلف، فظل القمر مخيف.  رفع رأسه الى الاعلى فشاهد مساحة كونكريتية واسعة، مساحة صماء ثقيلة. حاول أن يسرع الخطى للخروج من تحتها، فتناهى الى سمعه صوتاً بصدى:
أنا ... أنا ... أنا ... أنا ... أنا ... أنا مش عارفني
أنا تهت مني ... أنا مش أنا ...
الصوت من جهة البناية على يمينه، صاحبة السقف الكونكريتي :
لا دي ملامحي ... لادي ملامحي ، ولا شكلي شكلي...
تذكر السمعة السيئة لمنطقة باب الشرجي وضواحيها في الصباح فكيف الحال بعد منتصف الليل؟!
شاهد من بعيد كنيسة القديس كريكور المنور، وهو يوسع الخطى بإتجاهها، فلم يعد يسمع شيئاً سوى منبه سيارة يتكرر صداه في الشارع.

-3-

إن النوم في فراش نظيف ودافئ بعيداَ عن إزعاج الزملاء المدخنين، يستحق إعادة الرحلة الليلية المربكة مرة أخرى.
في اليوم التالي نزل سامي عند الإشارة الضوئية وعبر شارع الجمهورية وحيداً، لم يكن هنالك أحد في الفضاء المفتوح للساحة، مجرد سيارات تمر في الشوارع وتدور مسرعة وكأن سائقيها ينتقمون من (تبليط الشارع)، فهم لا يستطيعون إثبات قوتهم في النهار، فالزحام في هذه المنطقة لا يطاق. ما إن دخل الى ظل القمر حتى تناهى الى مسمعه نفس الصوت، صوت ليلة البارحة:
أنا مش عارفني ... أنا تهت مني ... أنا مش أنا ...
لا دي ملامحي ... ولا شكلي شكلي ... ولا دة أنا...
أبص لروحي فجأه لقيتني ... لقيتني كبرت فجأة .. كبرت
تعبت من المفاجأة ونزلت دمعتي...
تأكد مرة أخرى أن الصوت صادر من البناية التي يمشي بجانبها، التفت ببطئ، محلات بأبواب حديدية مغلقة بإحكام (مركز بغداد للخدمات البيطرية)، (عالم الحيوان-المركز الرئيسي)، (ساوة للخدمات البيطرية)، تذكر تلك النكتة (العبيطة) التي تقول: إن هنالك رجلاً يركب حماراً له وهو عائد الى مزرعته من السوق، يركض خلفه كلب المزرعة، وفجأة سمع صوتاً: حيل بعد شكد يلة نوصل! وبما أنه يسير مع حمار وكلب، إرتعب ورمى نفسه من الحمار وركض بإتجاه صخرة قريبة، ركض خلفه الكلب كعادته، وعندما استقر خلف الصخرة قال الكلب: إبن الزمال خرعنة!!
إبتسم كعادته عند تذكر هذه النكتة وفكّر... قد يكون حارس البناية؟ أجال بصره بسرعة لم يجد مدخلاً! أبواب حديدية فقط، وفي الطابق النصفي فوق كل بوابة مساحة مربعة مغطاة بألواح خشبية مصمتة وعلى الجانبين ثلاثة أقواس نصف دائرية بإرتفاعات مختلفة تكشف فراغاً مظلماً خلفها، تستمر الأقواس حتى السقف الخرساني الذي تركت الواح القالب آثارها عليه بوضوح.
شاهد قمة كنيسة القديس كريكور مع بقايا الصوت:
قوليلي ايه يا مرايتي .. قوليلي ايه حكايتي
تكونش دي نهايتي وأخر قصتي...
عوى كلب من بعيد، فتذكر محمد هنيدي وهو يقول (ياخراشي، هو أنا ناقصة)، من سيوصله الى ساحة الطيران!

-4-

 لأن "أبو المثل مخلة شي ماكالة" فقد قال "إذا تردون تحيرو خيرو" وهذا حال سامي بعد أن أصبح لديه خيارين، المبيت في العمل أو المبيت في المنزل، فحار بينهما بعد أن كان لديه خيار واحد فقط سواء أعجبه أم لم يعجبه. وليس هذا حاله فقط بل الجميع اليوم يعيش في حيرة وضياع بعد تعدد الخيارات في الحياة الجديدة، هل كان الناس يقعون في حيرة إختيار قناة فضائية يشاهدونها خلال ساعة واحدة؟ هل كانوا في حيرة التمييز بين الطيّب والشرير؟ كان النظام المتبع هو نظام الأرانب" تريد أرنب أخذ أرنب، تريد غزال أخذ أرنب" واليوم أصبحنا نعيش في سوق الغزل، هنالك أرانب ودجاج وقطط وكلاب وحمير. ومشكلة سامي أنه يريد الغزال ويستطيع الحصول عليه ولكنه يحتاج الى (ركضة)، لذا وبعد يومين من المبيت في العمل قرر في الليلة الثالثة أن يقوم برحلته الى ساحة الطيران.
إختفى ضوء القمر هذه المرة، بعد أن تحول الى هلال ينام مبكراً... إجتاز شارع الجمهورية وعيناه تحاول التعود على الظلام للبحث عن أي كلب يعاني من الأرق.
وعلى الرصيف المقابل للبناية العتيدة، شاهد كتلة رمادية اللون بدأت تتوضح تفاصيلها كلما إقترب أكثر، رجل يجلس على الرصيف، مد ساقيه أمامه ووجهة باتجاه المحلات المغلقة.
وأخيراً قد يكون هو المغني، الذي يستغرب نفسه وملامحه وشكله. ما إن دخل سامي تحت السقف الخرساني حتى سمع الصوت: 
أنا مش عارفني ... أنا تهت مني ... أنا مش أنا ...
لا دي ملامحي ... ولا شكلي شكلي ... ولا ده أنا...
يا دنيا طفيتي شمعي ... يا ناس كترتوا دمعي
والعمر راح هدر!
الصوت من اليمين والرجل جالس الى اليسار!
إذا لم يكن هو المغني فقد يعرف صاحبه، أراد سامي أن يعرف المصدر فضولاً ليس إلا ... وقبل أن يصل بخطوات، قرر أن يسأل الرجل الرمادي الذي لم يكن لملابسه أي لون مميز، شعر فضي خفيف مسحوب الى الخلف، أنف كبير واضح في الظلام.
-         السلام عليكم عمو.
-         عليكم السلام.
-         عمو تعرف هذا شنو الصوت؟ يومية من أفوت منا أسمعة.
-         ياصوت؟
-         هذا الصوت مدتسمعة؟ واحد ديغني.
-         أي ... هاي العمارة بيهة جني.
-         شنو عمو؟
-         إنت أطرش! هذا جني بالعمارة ديغني.
أطلق سامي ساقيه للريح، لم يتخيل يوماً أنه يستطيع الركض بهذه السرعة، ماهي الا دقائق حتى وصل ساحة الطيران، صعد الى أقرب (كيا) وأحس بتشنج عضلات فخذيه وهو يرمي بنفسه على المقعد بقوة. نظر بإتجاه ساحة الخلاني، فقال له (الحجي) الذي يجلس بجانبه: "شبيك عمي جيت ركض قابل شايفلك جني؟!"


-5-

تلك الليلة إنتظر النوم طويلاً، ومع كل حركة تؤلمه عضلاته الكسولة، لماذا ركض اصلاً؟ هل يؤمن بوجود الجن حتى يخاف منه؟
أرجع شريط قناعاته الى الوراء، هو يدّعي أنه إنسان يؤمن بالعلم، ثائر على الخرافات، ثائر على جميع التقاليد السابقة، يؤمن بإمكانية عقله في التفكير بطريقة مقبولة تجعله يقوم بسلوك أو قرار خاص به وحده، يعتمد على ظروف الوقت الراهن، قد يكون السبب هو عدم ثقته بالسابقين، ليس لعدم مقدرتهم الفكرية، ولكن لإمتلاكهم أسبابهم الخاصة، ظروفهم الخاصة، التي إتخذوا فيها قرارات أصبحت تقاليد وعادات بمرور الزمن، فتراكمت الأخطاء في حالة وجودها.
غالباً ما توجه تهمة لجيلهِ والأجيال اللاحقة " إنتو شايفين نفسكم"، "لا تمتلكون في داخلكم كمية كافية من الاحترام والتقدير للأجيال التي سبقتكم"، "تعتبرون نفسكم تفتهمون أكثر من الأكبر منكم" ولكن هل هذه الإتهامات صحيحة؟
وبعد (قلبة) من النوم على جهة اليمين الى جهة اليسار، غرق سامي مرة أخرى في أفكاره، لا يعتقد أن تلك الإتهامات صحيحة، ولكن هنالك نار سببت هذا الدخان، إنها الشبكة، شبكة الانترنت، جعلتنا نستغني عمن يكبرنا سنا،ً لم نعد بحاجة لسؤال أب، أم، خال حكيم أو عمة مثقفة.
وهذا ما صنع الإختلاف، عندما نبحث عن مرادنا على الشبكة قد نجد معلومات أو مواقف متناقضة، لذا نحن نحصل على المعلومة والشك فيها بنفس الوقت. وبتشغيل عقلنا نستطيع أن نتخذ موقف بين النقيضين، وقد نبقى في إرتباك وضياع، كما أضاع سامي بداية أفكاره وكيف وصل الى هذه النقطة.
تذكّر السؤال الذي إنطلق منه، هل يؤمن بوجود الجن؟ بالتاكيد لا، لا يؤمن بوجود الجن (وسوالفهم التعبانة)، ويشفق على من يتكلم بيقين عنهم ... لماذا ركض إذن؟
قد يكون الركض برهان لمقولة "الرجال أطفال كبار" قد يكون عقله ربط الحدث مع حدث سابق في الطفولة، عندما أرسلوه ليجلب الخبز من الخباز ليلاً، يوم كان الحصول على خبز مناسب للأكل قضية عظيمة في فترة "الحصار الإقتصادي الجائر على قطرنا الحبيب" (الكليشة التي حفظها لسنوات كونها أحد عناصر كتابة الإنشاء الناجح في المدرسة) بعد العودة من الخباز وفي مساحة مفتوحة داخل أحد الفروع المظلمة شاهد من بعيد إمرأة ترتدي عباءة سوداء، أصدرت صوتاً مخيفاً تردد في الفضاء، ولحسن الحظ كان هنالك طريق آخر للهرب... ركض حتى وصل للبيت. كان تفسيره وقتها أنها سعلوة ! وهو اليوم لا يؤمن بوجود السعلوة أيضاً.
وعلاوة على تكرار الركض عند الكبر، قرر أن يكرر عدم ذكر أي شئ عن الحادثة لأحد آخر... لا يعجبه أن يبدو ضعيفاً أمام الآخرين.

-6-

كان سؤال سامي الأزلي عندما يشاهد أفلام الرعب الأمريكية: لماذا يذهب البطل أو البطلة الى مصدر التهديد برجليه؟ عندما يسمع صوتاً في السرداب أو العلّية (البيتونة) لماذا يذهب ليرى ماذا هناك؟ لما لا يجلس في الغرفة ويغلق الباب عليه؟ أو أن يخرج من البيت ويأتي في الصباح لإكتشاف الأمر.
لماذا يختار المواجهة بدل الهرب؟ هل هو مطلب سينمائي لإنجاح الفلم؟ أم رغبة الإنسان في الخلاص من القلق والتفكير المخيف؟
الهرب لا يحل أي مشكلة وإنما يؤجلها فقط، أما المواجهة فبإمكانها تقديم حلول للمشكلة هذه الحلول قد توصل الإنسان الى الهدف أو الى النجف!
وفي طريق العمل الصباحي فكّر سامي بالمواجهة، على الرغم من أنه يستطيع تجاهل الموضوع والمبيت في العمل يومياً، إلا أن الأدرنالين الهوليودي بدأ بالتدفق في جسده، وتخيل نفسه بطلاً لأحد الافلام الناجحة، أرنولد، سلفستر ستالون، فاندام ... أبطاله التي كانت بوستراتهم تزين جدارن غرفته منذ الطفولة.
سيذهب ويقف أمام البناية ويصيح (إذا إنت رجال إبن رجال إطلعلي)، وهل سيقف أمامها ليلاً؟ بالتأكيد لا، حتى عند إنكارنا للخرافات فأننا نخاف من تحديها!

-7-

لمدينة بغداد وجوه متعددة، إكتسبتها بمرور الأزمان، وقد إكتشف سرها القاضي عبد الوهاب البغدادي، فقال شاكياً:
بغداد دارٌ لاهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق
 ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحفٌ في بيت زنديق
وبمشيك من باب الشرجي الى باب المعظم يوم الجمعة، ستكتشف أحد تلك الوجوه، قد يكون هو الوجه الأكثر أهمية، أو الوجه الذي يجب أن تتعرف عليه لتكتشف حقيقة الوجوه الأخرى. هو الوجه السابع والفن السابع والروح السابعة للمدينة.
كانت رحلة سامي هذه المرة معكوسة، من ساحة الطيران الى ساحة الخلاني، وما أن إقترب من الساحة حتى عبر الى الجانب المقابل لبنايته المسكونة.
ولأول مرة يقف أمامها وجهاً لوجه، حرك الهواء خصلات شعره الأمامية بعكس إتجاه تصفيفها، أعادها بأصابعه ومرر راحة يده (بطريقه) على جبينه، لم يكن هنالك قطرات عرق، ولكنه تخيل كاميرا خفية تصور لحظة إنبهاره ... يجب عليه أن يمثل الدور على أكمل وجه.
لا أحد يعلم لماذا تقترن(الصفنة) بالحمار؟! عندما نجد شخصاً قد شرد بتفكيره، وغاص بأعماق عالمه الداخلي ... نقول له: الصفنة مو إلك! وقد(صفن) سامي على البناية بإرادته، لم يهتم لما سيقوله الناس عنه، وفي الظرف الذي هو فيه ينطبق المَثل: (منو يعرف فطيّم بسوك الغزل؟).
في أحد الأيام سأله أحد الاصدقاء: لماذا تضع هذه الصورة كخلفية لشاشة حاسوبك؟ ولما كانت الصورة مليئة بالتفاصيل والشخصيات، إجابه: "حتى كل مرة أصفن على مكان بيهة" فما كان من الصديق الا أن ضحك بطريقة لا يحتاج معها أن يقول: " الصفنة لأبو صابر".
لم يدرِ كم طالت (صفنته) على البناية ولكنه أعادَ خصلاته ثلاث مرات وهو نفس العدد الذي أضاء به اللون الأخضر للإشارة المرورية، كان خلال هذه الفترة يحلّق بذاكرته في شوارع كرخ بغداد ورصافتها، ولما خرج من (صفنته) على صوت صافرة شرطي المرور... قرر أنه لم ير أي بناية في بغداد تشبه أو تقترب من هذه البناية العجيبة!

-8-

البناية تقع في ركن الشارع، يقابل أحد أوجهها ساحة الخلاني ويقع الوجه الآخر على الشارع المؤدي لساحة الطيران، لا يعرف في أي سنة شيدت بالتحديد، كان كل وجه عبارة عن جدار مستوي من الطابوق الأصفر، يربط بينهما عند الحافة كتلة منحنية مع إنحناءة قطعة الأرض الخاصة بالبناية، وعلى الجدارين والمنحني ... كمية هائلة من الشبابيك المستطيلة عمودياً والتي تبدأ وتنتهي بأقواس نصف دائرية.
شبابيك بأقواس ... شبابيك بأقواس ... شبابيك بأقواس ... وكأنها طيور متنوعة لجأت لشجرة خريفية وحيدة عند الغروب.
لا يعرف من هو مصممها، ولكنه جريء، بارع وفريد، الجدران الطابوقية، كانت مستطيلة عمودياً أيضاً مع إقتطاعات متدرجة من جهتها العليا، ومستطيلات مفرغة منها تظهر خلفها كتلة البناية الأصلية، تخترق تلك الجدران وتتداخل معها كتل الشبابيك المستطيلة بأقواسها، والتي ذكرته بأشكال شناشيل البيوت القديمة، شاهدها كثيراً في الصور المرفقة للمواضيع على الانترنت والتي تتغنى بماضي بغداد والبصرة الضائع، ولكنها لا تشبهها تماما،ً هي مختلفة عنها بطريقة معينة، وتشبهها بطريقة أخرى، حتى مع بعضها البعض، تختلف وتتشابه! تختلف وتتشابه في أشكالها، أحجامها ومواضعها... وكأنها أفراد عشيرة عراقية لا يزوجون بناتهم لأحد من خارج العشيرة، تراهم طوال وقصار، (متعافين) و(ضعاف عودة)، بشعر أسود فاحم ويميل الى البني مرات أخرى، ولكنهم جميعاً متشابهون، تستطيع أن تتعرف على أي فرد منهم مهما كان نظرك ضعيفاً.
أما عن حالات التشوه والأمراض المزمنة الناتجة عن زواج الأقارب فقد ظهرت بعد فترة طويلة، عشرات من (الحفر) على وجه البناية، ناتجة عن شظايا السيارات المفخخة التي طالت المنطقة المحيطة، علاوة على الاطلاقات النارية الطائشة وغير الطائشة. لم تترك تلك الشظايات والاطلاقات سطحاً عمودياً الا وقد تركت آثارها عليه، وكأن تلك الأمراض المزمنة أصابت كل أفراد العشيرة ولم يستطع أحد النجاة منها، الا من كان والده شجاعاً فتزوج من خارج العشيرة، ولكنه ترك العشيرة وشجرتها ولم يعد في الحسبان أبداً.
وإذا كانت الانفجارات قد شوهت البناية فهي بالتأكيد لم تبقِ أي لوح زجاجي سالماً، جميع تلك الشبابيك عارية، وكأنها شيخ عربي يرتدي عباءته الصوفية ولكنه من غير صاية أو دشداشة تغطي جسده.
لم يكن سامي يعلم وظيفة البناية قبل أن تُهجر، على الأقل هي ليس لها علاقة بالوظائف الدينية، وإلا لكانت السيارة المفخخة قد وقفت بجانبها بدلاً من أن تقف بجانب جامع الخلاني لتطيح بجداره كاملاً. وأخيراً وفي طريق ضياعه في واجهتها، وجد على الحافة السفلي للطابق الأول شبكة حديدية مستطيلة الشكل، شفافة، يظهر من خلفها الطابوق الأصفر، وبلون أخضر باهت كتب بألواح حديدية "أتحاد الصناعات الراقي" ... تسآءل ... على من تعود "الراقي"؟ على الإتحاد؟ أم على الصناعات؟ إذا كانت على الصناعات فيجب أن تصبح" إتحاد الصناعات الراقية" وليس الراقي. وبعد (تعديلة شعر) أخرى لاحظ شيئاً بين اللام والراء! لوح معدني ساقط، تاركاً فراغاً خلفه ... هل هو حرف عين مصاب بشظية؟ هل هو حرف العين الذي سُأل عنه الجواهري؟ لماذا تلفظ حرف العين بالضم مع أنها تلفض بالكسر؟ فقال: قلبي لا يطاوعني أن أكسر عين العراق!

-9-

ألتفت سامي يميناً ويساراً، نظر بداخل سيارة الشرطة المركونة بجانبه، نظر لكل فرد منهم لدقيقة .. هل يحمون الناس حقاً، أم الله سبحانه وتعالى هو من يحميهم، أم الله سبحانه يحميهم بعد الإستجابة لدعاء والديهم؟ أسئلة عديدة تدور في رأسه يومياً بعدد السيارة التي تدور حول ساحة الخلاني ... أو بعدد الناس الذي يمرون يميناً وشمالاً تحت سقف بنايته الكونكريتي ... نظر اليهم بتركيز ... وفجأة ... ومن بين الفراغات المتحركة بين الاجسام والأرجل، لمحه جالساً ... هذه المرة ظهره على أحد (كبنكات) المحلات المغلقة ووجهة مقابل للمارة.
أحس برغبة بالركض بين الناس والابتعاد عن البناية والرجل وجنيها الغامض ... ولكن الحس الهوليودي المنافس أبقاه ثابتاً، قد يكون الحس البوليودي... أو الرغبة بعيش المغامرة، فهو لم يغامر أو يحاول أن يغامر منذ فترة طويلة جداً، فآخر مرة غامر فيها عندما ذهب الى فرن الصمون وهو لا يحمل هوية الأحوال المدنية ولا هاتفه المحمول!
تحركت قدمه اليمنى لعبور الشارع، نظر اليها ... نظر الى الرجل الذي يظهر ويختفي بين الناس ... نظر الى الضوء الأحمر ...أعطى الإذن لقدمه اليسرى لكي تلحق بزميلتها:
-         السلام عليكم عمو.
-         هلة بيك.
-         تتذكرني عمو؟
-         لا والله ولا صغراً بيك.
-         هذاك اليوم بالليل سألتك على الصوت الي يطلع من هاي البناية وكتلي بيهة جني.
ومع إبتسامة صفراء خبيثة:
-         هااا ... إنت الي كمت تركض مثل الحصان.
-         أي أني ... عمو صدك هاي البناية بيهة جني؟
-         أي طبعا بيهة قابل أجذب عليك ... حتى أسمه أبو شريف.
-         أبو شريف ! عود ليش؟!
-         أني أدري هو هذا أسمه من جان عايش.
-         جان عايش؟ يعني عايش مثلنا ؟ إنسان؟
-         أي لعد حيوان! جان عايش ومات.
-         يعني هاي روح إنسان باقية بالبناية مو جني.
-         وأني شمدريني... وهسة انت شتريد؟
ولأن الفضول هو سبب نصف مشاكل الإنسانية وتقدمها في نفس الوقت:
-         أريد أعرف منو هذا أبو شريف، شنو قصته؟
-         إبني هذا أبو شريف رجال مصري.
(دردم) سامي:
-         هلة طلعت الروح مصرية!
وليحث الرجل على الكلام:
-         وشجابة لهنا خطية؟
-         لا خطتة إن شاء الله .. شكو خطية! جوي حصلوا فلوس يحلمون بيهة وشكو شغلة تعبانة تعلمناهة من عدهم.
-         غير جايين على باب الله؟
-         على باب الله والشباب العراقيين جانوا يتكتلون بالجبهة!
-         مو صوجهم ... همة شعليهم؟
-         لعد صوجمن ... أبوية؟!
-         وشجان يشتغل هذا أبو شريف؟ وشلون مات؟
-         هذا إجة للعراق ببداية الثمانينات، وية مجموعات العمال المصريين الي جوي يشتغلون بالعراق خلال الحرب العراقية الإيرانية، وأشتغل عامل خدمة بهاي البناية من جانت بيهة دائرة الإتحاد، ينظف ويسوي جاي وكهوة وبالليل يبات بالبناية.
-         أي.
-         وبقة يشتغل طول فترة الثمانينات والتسعينات، الى أن صارت الحرب "حرب بوش" والناس كعدوا بالبيوت وماكو لا دوام ولا حركة بالشوارع، وأبو شريف وحدة بالعمارة ... ومن طبوا الامريكان وخلص كلشي طلعوا الناس وجوي للدائرة لكوه ميت بغرفته ومحد يدري بي من أيام القصف. دفنوا الناس بمقبرة الشيخ معروف، ووراها بجم يوم كام بالليل يطلع هذا الصوت الي سمعته.
-         وخوما يأذي أحد؟
-         لا ميأذي بس الموظفين جانوا يجون للدوام الصبح، يلكون الاوراق طايرة من المكاتب ومتطشرة بالكاع. وراها شالت الدائرة وراحت للمنصور وبقت البناية مهجورة.
-         بس عمو ماكو هيج فلم ... لا اكو أرواح ولا أكو جن بالدنيا!
-         بكيفك بعد ... إنت مو سمعت الصوت بالليل؟
-         أي سمعته.
-         بعد شكو، وهاي الشغلة يعرفون بيهة هواية ناس، حتى هسة البناية معروضة للإستثمار ومحد يقبل يستثمرها.
-         والله عمو شكلك ما أدري، أشو ممقتنع بالسالفة.
-         هاي إنتو جيل تالي وكت مسوين نفسكم تفتهمون!
-         رحم الله والديك عمو، أني أشكرك ومن رخصتك أروح عندي شغل.
-         الله وياك ... وعود بعد لتركض بالليل ...

-10-
إنضم سامي الى جموع الناس المتجهة الى ساحة الطيران، كان ينظر الى موضع قدمه فقط وهو يقلّب براسه ما سمعه قبل قليل ... هل يعقل أن يكون هنالك أرواح عالقة في الدنيا كما في الأفلام الأمريكية؟ تذكر النظرية التي تستند عليها أغلب تلك الأفلام، إذا مات الإنسان بسبب حادثة، ولم يكن جاهزاً للموت وهنالك أمور عالقة مع أشخاص أحياء، فإن روحه تبقى في منطقة بين عالم الدنيا والعالم الآخر، وطوال الفلم تحاول الروح التواصل مع وسيط أو تكتشف طريقة معينة لحل تلك الأمور العالقة لترى النور الذي ينقلها الى العالم الآخر ... أما روح الإنسان الشرير فهي تنتقل الى الجحيم مباشرة.
ولكن حسب هذه الافلام فإن الروح لا تستطيع أن تصدر صوتاً، فكيف يستطيع أبو شريف عمل ذلك؟
قفز فوق ساقية من المياه الآسنة، إستذكر عدد من أفلام الأرواح ... فبرز أمامه فلم لم يعد يتذكر عنوانه، يتحدث عن مجموعة من الشباب الامريكان، يذهبون لزيارة موقع أثري في المكسيك، والموقع عبارة عن زقورة تحتوي على فتحة في الاعلى من الممكن النزول منها، ولأن (الامريكان) هم دائماً (أحسن ناس) والمكسيكيين (ولد البطة السودة) يوجد في ذلك الموقع نبات شرير أشبه بالمتسلق يدخل الى داخل الجسم ويحاول القتل بأي طريقة ممكنة، ومن تلك الطرق، تقليد النبات لصوت هاتف محمول لكي يدفع البطل الى النزول داخل الزقورة والبحث عن ذلك الهاتف الوهمي!
فهل يمكن ان يكون هنالك تفسير مادي لصوت أبو شريف؟
أبو شريف يعمل ويسكن في البناية منذ الثمانينات، وبالتأكيد خلال تلك الفترة هو يستمع للأغاني المصرية أو يغني بنفسه ... قد تكون جدران تلك البناية وموادها قد تشبعت بصوت أبو شريف وكلمات أغنياته، ثم عادت لتبثها مرة أخرى بعد فقدانه. إنها طاقة ... الأمر أشبه بسقوف منازلنا التي تتحول الى جحيم خلال فصل الصيف، تمتص أشعة الشمس (الحنينة) وعندما تختفي الشمس تبدأ تلك السقوف بالاشعاع على رؤوسنا!
ولكن لماذا تلك الكلمات بالذات؟ حاول سامي أن يستذكر الكلمات التي كان يسمعها عند مروره:

                     أنا مش عارفني...أنا تهت مني...أنا مش أنا
                     لا دي ملامحي...ولا شكلي شكلي...ولا ده أنا
أبص لروحي فجأه لقيتني...لقيتني كبرت فجأة...كبرت
تعبت من المفاجأة ونزلت دمعتي...قوليلي ايه يا مرايتي
قوليلي ايه حكايتي...تكونش دي نهايتي وأخر قصتي
يا دنيا طفيتي شمعي...يا ناس كترتوا دمعي...والعمر راح هدر
يا ليل الجرح يا الي ...معايا زي ضلي...مأنس وحدتي
سرقت العمر كله...خلاص مبقاش فاضلي...غير جرحي ودمعتي

ركب سامي (الكيا) وهو بجانب الشباك (صفن) مرة أخرى على واجهات الابنية في الشارع، تذكر الواجهة التي وقف أمامها ... ماذا لو نظرت تلك البناية لنفسها بالمرآة؟ هل ستعرف نفسها بعد أن كانت مفخرة جميلة للشخص الذي صممها. هل تعبت تلك البناية من مفاجآة العراق؟ هل بكت يوماً؟ هل أكثر الناس الذين هجروها من دمعها؟ هل راح عمرها هدر؟
هل من المعقول أن تختار جدران البناية أغنية محدد لترددها؟ لأنها تعبر عن حالها وحال أبو شريف المسكين؟
من الممكن أن يكون أبو شريف قد أرسل الأموال الى أهله في مصر لشراء مزرعة أو شقة أو عمارة سكنية حتى، ليعيش فيها اولاده في ام الدنيا... ولكن ماذا تركت تلك البناية المسكينة؟

-11-

بدأ سامي بإسبوع جديد وبقي مصراً على عدم إخبار أحد بحكايته، يقلبها يومية في رأساً قبل النوم، هرباً من رائحة السكائر الكريهة، وفي يوم الاربعاء وبعد أن مر الوقت الذي يخفف من صدمات الحياة المزعجة، قرر أن يعود ليلاً الى البيت، هو بحاجة ماسة الى وسادته المريحة.
شاهد الضوء الأحمر من بعيد ... علامة الخطر ... لم يكن بحاجة لرفع صوته ليقول "نازل" فهو وحيداً مع السائق في (الكيا)، أغلق الباب وهو يردد: اليوم ما أفوت من يمهة لو يجي المنصور الدوانيقي.
عبر هذه المرة الشارع الى الساحة الدائرية وليس الى جهة البناية، نظر اليها في الظلام، باردة، مخيفة، وكأن شبابيكها وأقواسها أفواه عديمة الاسنان، تلهث طالبة للهواء...
عبر الشارع مرة أخرة من الساحة الى الجهة المقابلة للبناية... لم يكن يستطيع رؤية الكنيسة من هذه الجهة... أسرع الخطى وهو يدخل في ظل القمر ... لم يكن ينظر الى أي جهة كان يبحث عن صليب الكنيسة فقط ... وفجأة سمعه و ببحة مخيفة:
حبيب امك متقبل من أحاجيك ... روحي معلكه بيك
وامي مفرعه تدعي يبني يهديك ... روحي معلكه بيك
امك طاغيه يا زين الاوصاف...تتباهى بجمالك
خالاتك عليك تغار وتخاف... حتى من خيالك
 وعماتك يلقبنك يا شفاف....... !!!





بلال سمير