الجمعة، 3 أبريل 2020

عراق سريالي

عراق سريالي

-1-

شارع البنك

نصحه طبيبه الا يذهب، قال له انها مغامرة جنونية، وهنالك طرق اخرى يستكشف بها الانسان نتائج مافعله سابقاً او الأثر الذي سيتركه على سطح الارض بعد نزوله تحته. لم يثنه عن قراراته حينها معارضة الكثير من الدول وملايين المتظاهرين ولن يثنه اليوم طبيبه او مقربيه.
وضع قبعة متواضعة على رأسه لاخفاء اذنيه النافرتين واختلط مع الناس في احد الشوارع، وبسبب مظاهر شيخوخته لم يضايقه احد، يمشي ببطء، يتوقف دقائق لمراقبة بائع او مجموعة من الناس، ينظر الى المباني متوسطة الارتفاع. شاهد رجلاً يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق عديمة اللون ممسكاً بخرطوم مكنسة كهربائية يستخدمه كميكروفون يخاطب به المارة بانفعال:
-السلام عليكم يا ابناء الشعب، انني ارجوا لكم الخير وسأعمل من اجلكم ومن اجل الوطن على رسم المساكن المعاصرة على الجدران الكونكريتية وساستخدم الفوتوشوب باحترافية في اعلانات المدارس الاهلية، سأوفر لكم القروض الميسرة لشراء انظمة كاميرات المراقبة المتطورة، واعلموا ان الله معنا كونوا اشداء، اسحقوا الخونة والله ينصرنا على الاستعمار واذنابه واعوانه.    
ناول احدهم الخطيب قنينة سائل لازالة البقع من البياضات وتعقيم الفواكه والخضروات فشربه حتى آخر قطرة ثم وضع القنينة الفارغة في جيبه وبعد ثانيتين اخرج ارنباً أبيضاً بدلاً عنها، فصفق له المستمعين بحماس.
 احسّ هو بالعطش ايضاً وبالجوع، اقترب من احد المحال التي تعرض تمراً مستورداً، تناول احدى العلب وذهب ليدفع ثمنها، طلب من البائع الماء كذلك، سمع رجل مسن كان يجلس عند الباب طلبه فقدم له قنينة ماء زجاجية كانت موضوعة امامه، فأشار له بالرفض وانه يريدها معقمة، تفاجأة بالرجل وهو يشير له اشارة غريبة ولكنها بذيئة بلا ادنى شك.
اخذ مشترياته وجلس بجانب امرأة على مقاعد بلاستيكية صفّت بمواجهة النهر، كانت ترفع رأسها عالياً تراقب السماء، عندما احست بوجوده قالت:
-هل شاهدت الالعاب النارية من قبل؟
-نعم اشاهدها سنوياً في الرابع من جولاي، هل سيطلقونها اليوم؟
-لا اعلم ولكني عندما شاهدتها آخر مرة كان طفلي لا يزال على قيد الحياة.





-2-

انصاف اقطار

يستمتع كثيراً وهو يتخيل الآخرين على انهم كُرات، فَفُلان كرة سلة، يصدر ضجيجاً عندما تتعامل معه، وفلان كرة بولنك يتدحرج تجاه مايريده دون ان يؤثر عليه شئ، فلانة كرة شاطئ، ملونة تتقاذفها الرياح.
هل ان احدهم كرة بنكَ بونكَ ام كرة كَولف، فهذا ما يربكه عند النظرة الاولى، الفرق بين حجم الكرتين ضئيل جداً ولكن هل هي مجوفة ام صلدة فهذا ما يكتشفه لاحقاً.
اثناء مروره عبر احدى الساحات العامة شاهد من بعيد زميلاً سابقاً له، فانتابته نوبة الهلع المعتادة، سيسأله السؤال نفسه، وقد استنفذ كل الاجوبة التي يبتكرها اثناء محاولته النوم في كل ليلة. لن يستطيع الافلات منه اذا واصل المشي بنفس الاتجاه، تذكر ذلك الصوت العسكري الآمر:
-يميناً استدر، عادتاً سر.
اطاع الامر بسرعة ليجد مجموعة من الشباب يتجمعون وظهورهم لجهة زميله العزيز، انضم لهم كي لا يسير بعيداً بالاتجاه الخاطئ، برز احدهم الى الامام ونظم البقية انفسهم بصفين كفريق كرة قدم، تدافعته الاكتف ليقف بينهم غريباً كحارس مرمى، قال الشاب:
-سَي جيييز.
ولكنه لم يكن يحمل كاميرا او هاتف محمول!
التفت الى من يقف جواره وسأله:
-ماذا تفعلون؟! فاجابه مبتسماً:
-لا عليك، القلب يحتفظ بالذكرى اطول من الكاميرا.
 وصل زميله منتصف الساحة، فترك هو المجموعة متوجهاً الى مصطبة قريبة، جلس امام رجل يضع جبيرة جبسية تمتد من اصابع قدمه اليسرى وحتى منتصف الفخذ، عندما تقابلت عيناهما ابتسم له ابتسامة خفيفة، فاذا بوجه الرجل يتقلّص غضباً وهو يصيح:
- الم تسمع ان زوجتي قد ماتت في الحادث؟!
ومع تفكيره بالهروب من الموقف احس بدفعة خفيفة من الخلف ساعدته على النهوض بسرعة، التفت ليرى مصدرها، فقالت له وهي تقف مبتسمة:
-انا اسفة كنت اراقبك منذ فترة واردت ان اعرف كم هو وزنك.





-3-

عابر سبيل

تربطه صلة خاصة بقطار الكيربستون، تلك الاحجار المتتابعة تعبر عن فلسفته في الحياة، فالجميع حيث يعيش يسيرون في الطريق ذاته ويصلون الى نهايته الحتمية المتشابهة، الفرق الوحيد هو في موضع خطوات اقدامهم، فالبعض يفضل رصيف المشاة الآمن، والبعض يحب ان يخاطر ويزاحم السيارات، أما هو فقد اختار الكيربستون، مسار خالي من المشاة يتطلب الانتباه والتوازن، يرفع ذراعيه بشكل متعامد مع جسمه ويتخيل ان الرصيف والشارع هما واديان منحدران حتى الموت. 
على الحجر رقم 65 يسار بوابة مكان عمله اليومي قاطعت تحديه بالحفاظ على التوازن قائلة:
-رجاءاً كيف اصل الى نادي كوديا الثقافي؟
-نادي كوديا، لا اعرف، لم اسمع به من قبل.
-لقد قالوا لي انه في حي لكش، بالقرب من نافورة ماء وها انا ابحث منذ ساعة ولم استطع العثور عليه.
كانت الشمس قد قست عليها دون رحمة، فدفعه مظهرها للقول:
-تفضلي لنبحث عنه سوياً بالسيارة.
لما وصلا الى موقف السيارات غير الرسمي بمحاذاة الرصيف استوقفته قائلة:
-اين هي سيارتك؟
-تلك الحمراء عديمة الظل.
-آه أحذر، لقد رأيت احدهم ينحني تحتها قبل قليل، ثم ابتعد وهو يلتفت يميناً وشمالاً.
سجد على ازفلت الشارع الملتهب ليتاكد مما تقوله، شاهد قطة بيضاء اسفل السيارة وهي تعض على رقبة حمامة سوداء لمّاعة.
قد يكون الرجل صاحب الحمامة، او قد يكون صاحب القطة، او عابر سبيل حاول انقاذ الحمامة.
عندما ضغط على زر فتح السيارة سمعها وهي تتمتم مع ابتسامة خفيفة غامضة على شفتيها:
-ان هذا الانسان ليس مصنوعاً من معدن ثمين ولا من حجر اللازورد، لا من النحاس وليس من البرونز، لا يستطيع احد تثمينه، انه من الكيربستون.   








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق