الاثنين، 19 يوليو 2021

المعمار المتسلسل

 المعمار المتسلسل


القاتل المتسلسل هو من يرتكب عمليتي قتل أو أكثر، كاحداث منفصلة، لإشباع رغبات نفسية غير طبيعية.

وبين العنوان والاستهلال لا أحاول مناقشة علاقة المعمار بفعل القتل، على الرغم من حضور تلك العلاقة في الفلم الأمريكي (The House That Jack Built). لكنني سأحاول مناقشة مفهوم (الإسلوب).


يقول جورج دي بوفون "إن الإسلوب هو الإنسان، ومعنى ذلك أن الإسلوب هو الصيغة أو التأليف الذي يرسم خِصال المرء وسجاياه، والمذهب الذي يذهبهُ كلُ واحدٍ من الكتّاب في التأليف بين ألفاظهِ وصوره".

 من خبرتنا الهوليودية نعرف أن الامساك بالقاتل المتسلسل يتم عن طريق تشخيص إسلوبهِ بالقتل، كيف يختار الضحايا؟ لماذا؟ أين؟ كيف يتقرّب منهم؟ كيف يتخلّص منهم؟ بعد معرفة الاجوبة يتم تحديد شخص القاتل والقبض عليه قبل جريمته التالية.

هل الإسلوب مهم للمعمار؟ يُنشئ طريقته الخاصة للتعامل مع الأشكال المعمارية، فيستطيع الناس، تحديد شخصه عن طريق معرفة إسلوبه في التصاميم التي يرونها في الواقع أو على الشبكة.   

من الغرب الى الشرق، فرانك لويد رايت، فرانك جيري، لو كوربوزيه، زهاء حديد وكينزو تانج وغيرهم الكثير من المشاهير، لكل منهم إسلوب خاص، ولولا ذلك الإسلوب لاصبحوا كغيرهم من المعماريين الآخرين ولم ينالوا شيئاً من الشهرة.

دور الإسلوب في كشف الإنسان نقمة على القاتل ونعمة على المعمار.

كيف يصل المعمار الى إسلوبه الخاص؟ هذا نتاج بحث في عمارة الماضي وفهم الحاضر وإستشراف المستقبل، ثم تحويل نتائج البحث والفهم والاستشراف الى تصاميم معمارية فتأتي مرحلة نقدها من قبل المختصين والاستفادة أخيراً من ذلك النقد لتطويرها. لعل أفضل من يشرح لنا كيف قام بكل ذلك هو المعمار رفعة الجادرجي. وقد حاز تلك الافضلية لتدوينه جميع ما مر به على صفحات كتب عديدة ألّفها وبقيت بعد ذهابه.

من العنوان والقتل أيضاً، سأحكي لكم اليوم قصّة (السطوح المتسلسلة). نبدأ من بحث الجادرجي وإستخدامه لها ضمن إسلوبه المميز لننتهي بنظرة لمستقبل العمارة، والهدف تمكين الطلبة والمعماريين الشباب من الخطوات الاولى تجاه بناء إسلوبهم التصميمي الخاص.

ينطلق الجادرجي في بحثه من دراسة العلاقة بين تحقيق الجمال وبين المتطلبات الانشائية في العمارة القوطية، حيث يكتشف أنها علاقة ديناميكية تتجسد في دعامات الحائط والدعامات الحجرية الطائرة. فهي تستخدم لإيصال ثقل السقف إلى الأرض وكذلك في تقطيع الفضاء الداخلي ومن ثم تحقيق مبادئ التكرار والإيقاع وبالتالي جمال الوحدة في تكوين الكنيسة القوطية.



يوظف الجادرجي تلك الفكرة في مبانيه، وتظهر بوضوح في مبنى بدالة السنك ومصرف الرافدين فرع المنصور في بغداد. مع إختلاف مادة البناء وتأثير ذلك على سُمك تلك (الدعامات) وتحولها من حجوم حجرية الى شبه سطوح من الكونكريت أو الطابوق.

إعتمد الجادرجي في تصميم تكوين مصرف الرافدين على تلك الجدران المتعددة المتوازية (السطوح) والتي تمتد للخارج. فتحقق باختلاف المسافات بينها وباختلاف نسب الاقواس داخل تلك المسافات مبدأ الايقاع في التكوين وبالتالي تحقيق الوحدة بالإيقاع كما حصل في العمارة القوطية.

بدالة السنك 

بدالة السنك

مصرف الرافدين فرع المنصور

ننتبه أن تلك الجدران أو السطوح هندسية منتظمة، وهنا ينتهي جهد الجادرجي ويأتي بعده جهد نقّاد العمارة. يقول التشكيلي شاكر لعيبي في كتابه (المعماري والرسام): "في مبنى البنك (مصرف الرافدين فرع المنصور) ثمة حِوار بين هذه الجدران العمودية الخارجية بخطوطها المستقيمة وشكلها الهندسي الصارم المهيب وما يجاروها من فتحات (الاقواس) ذات الخطوط المنحنية، الإثنان مبنيان بمادة الطابوق التي تمنح الوحدة والحميمية". (انتهى الاقتباس) أي أن الجادرجي حاول خلق التعارض بالشكل مع الحفاظ على صفة مشتركة وهي خامة البناء الطابوقية لتحقيق الوحدة او الهارموني بين عناصر التكوين.

السطوح المتسلسلة ليست إكتشاف جادرجي، وإستخدامها لم يقتصر عليه وحده، بل نجد التنظير لها في مصادر معمارية قديمة وجديدة، في كتاب (Principles of Three Dimensional Design) للفنان الصيني (Wucius Wong) يعتبرها إسلوب لإنتاج الحجوم ثلاثية الابعاد، ويشرح كيفية إستخدامها لإنتاج التنوّع. كان هذا عام 1981، أما في عام 2016 فنجد التنظير للسطوح المتسلسلة في كتاب (The Fast Guide to Architectural Form)  للمعمار الايطالي (Baires Raffaelli)، وتسميتها (Multiplanar)، مع شرح لكيفية إستخدامها أيضاً في تحقيق الوحدة للتكوين.

لا نجد في المصدرين السابقين إشارة الى قضية مهمة، وهي أن المنحنيات (Curves) أصبحت ظاهرة العمارة المعاصرة وحتى المستقبلية. لنكتب (Future Architecture) على محرك البحث (Google)، سنجد أن الخطوط والسطوح والحجوم المنحنية والعضوية في كل مكان. هذا ما ألقى بظلاله على السطوح المتسلسلة أيضاً. فبدلاً عن خلق التعارض كما فعل الجادرجي أصبح المعمار يستخدمها لخلق مبدأ التحول العضوي في الحجوم المعمارية.

هنا لابد من الإشارة الى خصوصية عراقية، فمع الصعوبات التي قد تواجهنا كمعماريين في كيفية رسم الحجوم العضوية أو المتحولة حاسوبياً، ومع الصعوبات التي تواجه المنفذين (البنائون، النجارون وغيرهم) في كيفية تنفيذ تلك الحجوم، تأتي السطوح المتسلسلة كحل مناسب لكلا المشكلتين وتسهيل إنتاج عمارة عضوية معاصرة أو مستقبلية.

لا زلنا لم نتحدث عن المستقبل.

إن كان الجادرجي أو طلبة العمارة قد إستخدموا السطوح المتسلسلة في تصاميمهم عن طريق التخطيط باليد ومن ثم تنفيذ (رسم) التخطيط بأحد البرامج الحاسوبية، فإن المستقبل (في العراق على الأقل) سيوفر لنا البرامج الحاسوبية التي تساعدنا على (تصميم) وليس (رسم) حجوم عضوية جميلة وبإستخدام السطوح المتسلسلة سواء كانت عمودية أو أفقية. وهذا هو عالم التصميم البارامتري (Parametric Design) الذي دخلنا اليه بخجل في العراق، ونتمنى أن نتعمق فيه مستقبلاً.


هذه القصة كان أبطالها هذا العام طلبة المرحلة الاولى في الجامعة التكنولوجية، وذلك عن طريق إجراء تمرين يتلخص باستخدام السطوح المتسلسلة، لتصميم مجسّم يتصف بالتحول الذي ينتج عن التلاعب بموضع السطوح او توجيهها او الحذف والاضافة منها واليها، على أن تتم تلك الاجراءات التصميمية بشكل متدرّج.

كانت نتاجات الطلبة متنوعة وجميلة، ونتمنى أن تُثمر اساليب معمارية أجمل.

 

نور احمد خليل

زهراء حمدي مهدي

غادة ليث ابراهيم

رحمة عبد جهاد

زيد خالد جاسم








الخميس، 8 يوليو 2021

إفرد جناحك

 

إفرد جناحك

فوجئت للمرّة الأولى بالمحتوى العربي على شبكة الأنترنت. عند بحثي عن (الإفراد) نصحتني خوارزمية (Google) بـ(الإفراد الهندسي)، وقدّمت لي 5 ملايين نتيجة (وكسر)!

يكتب الجميع عن الماضي وذكرياته، وما يُميّز بين الكُتّاب هو الموقف من ذلك الماضي، الحنين ولعن الحاضر؟ أم التفاؤل بإنقضاء صعوباته والإحتفاء بالحاضر والمستقبل؟ يقول كريم العراقي في (بعد الحُب): "حبيبي سابقاً لا أكثر، أحس كُل شي فينا تغيّر".

للانضمام الى فريق المتفائلين، علينا تجهيز (صورتين شخصية وحبل)، كلّا... هذه نُكتة سَمِجة كان يتندّر بها الاكبر منا سناً عند لعب كرة القدم، كانوا يقولون: (جيب صورتين وحبل حتى نسحبك للمنتخب).

للانضمام الى فريق المتفائلين، علينا الإبتعاد عن التعليم الشفاهي وعن الإعتماد على الأستاذ كمصدر وحيد للمعلومات لبناء رأي الشباب وخبرتهم النظرية والعملية. نقرأ للمعمار معاذ الآلوسي في كتابه (توبوس، حكاية زمان ومكان): "الكثير من خريجي معاهد المنطقة اليوم لم يعد يستعمل القلم، ولسان حاله يقول مالي والقلم بوجود عبدي الخادم المطيع الأثول: الكومبيوتر والآي باد"، ثم يلعن الكاد (CAD) والكومبيوتر (شلع قلع).

تخيلوا لو إعتمدنا هذا الرأي فقط للتعامل مع الكومبيوتر وبرامجه؟ نقول دائماً يجب أن لا ننكر وجود سلبيات عند استخدام الكومبيوتر، لكن التحدي هو تجاوز تلك السلبيات وليس التخلي عن الخادم المطيع الذي يزيدنا ذكاءاً.

كانت بدايتي مع صناعة المجسمات المعمارية (الموديلات) بداية تقليدية. استخدمنا في المرحلة الاولى مادة (Canson Paper) لصناعة مثلّثات وشبكات مُجسمة وغيرها من الاشكال ضمن التكوينات المطلوبة في مادة التصميم المعماري. لم اسمع بمفهوم (الإفراد) أو (إفراد السطوح) إلا بعد معرفتي باساتذتي (سعد محسن وعبد الرزاق زامل) المحترمين، خُبراء صناعة الموديلات. راقبت أعمالهم واكتسبت منهم خبرتي (النظرية على الأقل) في صناعة الموديلات. انضممت بعدها لكادر مادة ورشة الموديلات، التي تم انتزاع وقتها من مادة المعامل والورش، فاصبح كل منهما كورس واحد ضمن السنة الدراسية الاولى لطلبة العمارة.

الآن تم تجميد مادة ورشة الموديلات والعودة الى النظام السابق، وهو قرار سلبي في ظاهرهِ، لكن من زاوية أخرى قد تكون المعامل والورش أكثر أهمية لاكتساب طالب العمارة مُقدّمات في الخبرة العملية للتخصصات الهندسية المرتبطة بالعمارة، وسيكون له القدرة على إكتساب معرفة صناعة الموديلات بمواد أخرى أو بإجتهاده الشخصي.

مادة الهندسة الوصفية هي إحدى المواد المختصة بشرح (إفراد السطوح) من حيث كونه (بسط الأجسام الهندسية المجسمة على مستوي واحد بعد فتح طياته وتمثيله على ورق الرسم لغرض بيان الأشكال الحقيقية لتلك الأجسام). والمفهوم مرتبط بمفهوم التصور المكاني والقدرة على الإنتقال بتخيّل الأجسام بين حالتها ثنائية وثلاثية الأبعاد.

ولنتحرر من التعليم الشفاهي كما نطمح دائماً فاننا نجد بدايات المعرفة بمفهوم الإفراد في كتب مثل (الهندسة الوصفية للمهندس والمعمار لعماد أزهر البكري)، وكتاب (الهندسة الوصفية لمدحت فضيل فتح الله). وقد إنتقلت مبادئ تلك المعرفة لصفحات كثيرة على شبكة الانترنت مع مخططات واضحة مرسومة بالبرامج الحاسوبية.

توفر لنا البرامج الحاسوبية أيضاً أدوات لإفراد الاجسام ثلاثية الأبعاد، (أدوات مطيعة أثاولة – جمع أثول-)، دون الحاجة للقيام بحل المعادلات الرياضية لإستخراج الابعاد الحقيقية لتك الأجسام.

ولأننا "بمبدأ المنفعة صرنا، نقرة طالعنة التعيس" مع فايروس كورونا، فقد حاول طلبة المرحلة الاولى في الجامعة التكنولوجية فهم مبادئ إفراد السطوح وتجريبها لإنتاج مجموعة من المجسمات الأساسية وتصويرها بطريقة فنّية جميلة:        

زيد خالد جاسم

ايلاف واثق جعفر

علي زياد خلف

فاطمة وليد عبد الشهيد

رحمة عبد جهاد

زهراء حيدر خيون

رونق رياض سلمان

ايوب علي عبد الجبار

محمد قاسم حسين