السبت، 25 يناير 2014

المدينة والنهر

هنالك بعض الأحداث أيام الطفولة الأولى تبقى عالقة في الذهن لعشرات السنين، فحتى هذه اللحظة لديّ خيالات عن رحلة بالزورق في مياه شط العرب، متحف للأسماك والأحياء المائية، تماثيل على الضفة و(عمة) تعيش الآن على آخر جزيرة قبل القطب الجنوبي.
وكان لشط العرب رهبة وخوف حيث يعيش فيه تنين المياه الذي قتل الاميرتين(ارمينا) و(اورنينا) في فلم (الاميرة والنهر)[1] بعد أن تخبرهما الكاهنة أن المهمة الأولى لحاكم لكش المستقبلي هو السباحة من الضفة للضفة في موقع التقاء نهري دجلة والفرات.



والنهر مرتبط بالحضارة والمدنية منذ قصص وأساطير ماقبل التأريخ في بلاد وادي الرافدين فالبصرة وبغداد والموصل وأغلب مدن العراق كان للنهر أثراً في اختيار موقعها، حيث يذكر البلاذري: لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة (البصرة) كتب الى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يعلمه نزوله إياها، فكتب اليه: إجمع أصحابك في موضع واحد، وليكن قريباً من الماء والمرعى وإكتب لي بصفته.[2] أما بغداد فقد أنشأها المنصور في الزاوية المتكونة بين مجرى الصراة غرباً ومجرى دجلة شمالاً وكانت حواليها مجموعة الأنهار والجداول القديمة التي تصل نهر دجلة بالفرات في أقرب نقطة يقتربان فيها من بعضهما[3]، وبمرور الازمان نمت المدينة على كتوف نهر دجلة حتى تشكلت بغداد التي نعرفها اليوم.
 وفي ظل الحالة النفسية السيئة التي نمر بها كم نحن بحاجة لرؤية أحد عناصر ثلاثية إذهاب الحزن (الماء والخضراء والوجه الحسن) ولكن السؤال هو: كم مرة يرى الفرد البغدادي النهر عند تنقله في المدينة خلال اليوم أو الاسبوع ؟ وبالتحديد فقراء بغداد من لا يملك ثمن الوجبات في مطاعم الكورنيشات او لا يملك الوقت والجهد للجلوس مع عائلته في احدى الحدائق القليلة المطلة على النهر؟
والإجابة هي إنه يرى النهر فقط عند الانتقال من الكرخ الى الرصافة أو العكس ولا تتعدى المدة دقيقة او إثنين على أي جسر من جسور بغداد الاثني عشر أو إنه يسير في شارع ابي نؤاس من جسر الجمهورية وحتى جسر الجادرية. والسؤال الأخر هو: هل هذا هو التوجه التخطيطي المناسب لمدينة يشقها النهر؟
أعتقد إن مقارنة بسيطة مع تخطيط مدينة القاهرة تجعلنا ندرك الفرق والجواب، فهي تمتلك الكثير من الميادين والشوارع التي تنتهي أو يفتح طرفها على النهر علاوة على الشوارع العامة الموازية لضفة النهر والتي تمتلك بدورها أرصفة وكورنيشات مفتوحة لعامة الناس، فالمواطن المصري على علاقة بالنيل اقوى بكثير من علاقتنا بدجلة ولعل ذلك تأكيداً للمثل القائل (البعيد عن العين بعيد عن القلب).

مدينة القاهرة 1

مدينة القاهرة 2

مدينة القاهرة 3

وحتى لمن تأتيه الفرصة للاقتراب من الحبيب نجد ان هنالك من يستكثر عليه ذلك ! حيث يقول المعمار محمد مكية : "إن العمل الوحيد الذي حققت فيه بعض أفكاري كان آخر بيت سكناه محاذاة دجلة، فجيرة النهر ليل نهار بحد ذاتها كانت أمنية من الأماني العزيزة . صممت البيت على قطعة ارض اشتريتها من ضياء جعفر.... فظهر عليها بيت حميم ولد الاستقرار النفسي لنا.... لكن حدث جلل أنهى كل شئ .... أستلمت أم كنعان (زوجته) أمراً بإخلاء البيت لعدنان خير الله الطلفاح الذي اصبح وزيرا للدفاع .... أعطوا تقريراً بقيمة البيت على مزاجهم وكان التعويض مبلغاً زهيداً."[4] وذات الجهة أخلت منطقة (كرادة مريم) للاسباب نفسها، يصف الكاتب الاردني (محمد ازوقة) منظر المنطقة من الجهة المقابلة في روايته (الثلج الاسود): "جلس سعيد بمواجهة النهر كانت أنوار القصر الجمهوري بحدائقه الواسعة الجميلة ونخلاته الباسقة المشذبه تتلالأ فوق صفحة المياه، تذكر سعيد أزمة المياه في عمّان ونظر الى هذا البحر المنساب أمامه." وحتى شارع ابي نؤاس فقد عزل عن المدينة بشريط سكني طابوقي خصصت شققه لمن ينتمي الى أجهزة الدولة فقط. 

وكانت هنالك محاولات اصلاحية  لتلك الخصومة بين النهر والمدينة ولكنها لم ترى النور ولعل لمحمد مكيه نفسه أوضحها حيث يقول في سياق حديثه عن مشروع جامع الخلفاء والمناطق المحيطة به: "كنت أميل الى أن تنتهي الشوارع الى النهر ولا توازيه ففكرت بزقاق مشجر بالنخيل، يمتد من بوابة الجامع حتى نهر دجلة."[5]
وأخيراً نقول (ربَّ ضارة نافعة) فالنيل اليوم يعاني من أثار الانفتاح على المدينة بشدة فقد وصل التلوث حداً مخيفاً حيث أكدت الدراسات العلمية إن 17 الف طفل يموتون سنوياً نتيجة لتلوث المياه الناتج عن رمي النفايات اليومية ومخلفات المعامل ومياه الصرف الصحي علاوة على نزول الحيوانات الى النهر، أما دجلة فهو في حالة مقبولة مقارنة بالنيل لكونه معزول عن سبب التلوث والضرر (نحن).


 بلال سمير

[1] الاميرة والنهر: هو اول فلم كارتوني عراقي يحكي عن قصة من قصص واساطير ما قبل التأريخ في بلاد الرافدين وهو من انتاج عام 1982 وكان يعرض ايام الطفولة في برنامج سينما الاطفال .
[2] مدن الضفاف العراقية وأثرها في الاستقرار الحضري في العراق، دزجمال حسن العتابي،بغداد 2009 ،ص228.
[3] المصدر السابق ،ص233.
[4] خواطر السنين ، سيرة معماري ويوميات محلة بغدادية ، محمد مكية ،ص200-201
[5] المصدر السابق ، ص 194 

الثلاثاء، 21 يناير 2014


نقل وتوطين التكنولوجيا في العراق
ورقة عمل مقدمة الى لجنة نقل وتوطين التكنولوجيا -هندسة العمارة-الجامعة التكنولوجية

-         إنطلاقاً من تصنيف التكنولوجيا في سياق الهندسة المعمارية الى :
-         تكنولوجيا مستخدمة في مرحلة التصميم (برامج التصميم الحاسوبية).
-         تكنولوجيا مستخدمة في مرحلة التنفيذ (تكنولوجيا مواد البناء والوسائل والانظمة الانشائية).

ونتيجة لكون نشاطات اللجنة هذا العام تمثل اللبنة الاولى لعملها في المستقبل فإن من الضروري اولاً التعرف على التكنولوجيا المستهدفة قبل البدء بعملية النقل والتوطين، ولتحقيق ذلك واعتماداً على التصنيف السابق من الممكن القيام بـ:
-      عقد ورشة عمل تتضمن دعوة الطلبة الذين اكملوا دراستهم  خارج العراق في الهندسة المعمارية لطرح تجربتهم في استخدام البرامج الحاسوبية المتوفره في الجامعات العالمية من حيث إمكانيات تلك البرامج وخصوصية كل منها والنتائج المتوقعة في التصميم المعماري وإن حضور الطلبة ومشاركة تجاربهم أكثر غنى من الحصول على المعلومات عن تلك البرامج من الانترنت وكما يقول المثل الشعبي (أسأل مجرب ولا تسأل حكيم).
 
-     فيما يخص تكنولوجيا التنفيذ فمن الممكن أيضاً عقد ورشة عمل بالتعاون مع شركات القطاع الخاص والتي تورد المواد المعاصرة كوحدات بنائية ومواد عازلة وأنهاءات لغرض التعرف على إمكانيات تلك المواد في تشكيل وإنهاء الاشكال والفضاءات المعمارية ، ويتم ذلك عن طريق تقديم دعوات لشركات رصينة منتخبة لعرض التكنولوجيا المختصة بها.

-   النشاطات السابقة من الممكن أن تقتصر على طلبة المرحلة الخامسة لكونهم الاكثر حاجة الى التعرف على التكنولوجيا المتوفرة والمرتبطة بأرض الواقع وليس من خلال الاطلاع والتداول الشفهي ومن ثم استخدامها في أعمالهم المستقبلية ، أما فيما يخص أعضاء اللجنة فإن النشاطات السابقة توفر نظرة استكشافية مستقبلية لطبيعة التكنولوجيا المستهدفة في النقل والتوطين أعتمادا على ما توفره مصادر التكنولوجيا الخارجية والحاجة الداخلية لتك التكنولوجيا.
بلال سمير

الاثنين، 6 يناير 2014

فتش عن المعمارية!

كيف رسمنا صورة للشعب الامريكي في عقولنا؟ وكيف رسمنا صورة للشعب المصري والهندي أيضاً؟ إنها السينما! ومن منا لم يرى مئات من الأفلام الأمريكية والمصرية والهندية؟ وكما يضرب الدكتور علي الوردي المثل في إختلاف الإهتمامات لمراقبين مظاهرة في شارع الرشيد، فمنهم من شغفه الجمال الرائع في وجوه الفتيات المشتركات في المظاهرة ومن تتأمل ملابس زميلاتها المتظاهرات بحثاً عن أحدث الازياء، الأخر سياسي يعنيه منها الأثر في إسقاط الوزارة وتنصيب أخرى جديدة وأديب متحذلق يلتقط الأخطاء النحوية والصرفية في خطاباتها وهتافاتها، أنا بدوري أنشغل بصورة المهندس المعماري التي تقدمها تلك الافلام.
ومن دون تسلل زمني يمكن أن نذكر:
Keanu Reeves in “The Lake”
Adam Sandler in “Click”
Luke Wilson in “My Super Ex-Girlfriend”
Matt Dillon in “There’s Something About Mary”
وهنالك الكثير من الافلام لم نشاهدها على مجموعةMBC  (ام العيشة) .





أما الافلام المصرية فكانت شخصية المعماري من نصيب سمير صبري وحسين فهمي ومجدي كامل (صديق أحمد حلمي في فلم ظرف طارق). وبعيداً عن مناقشة القالب المتكرر لشخصية المعماري وصفاتها، أين المهندسة المعمارية من السينما؟ أو حتى أينها من الشهرة العالمية في العالم الواقعي؟ زهاء حديد ومن غيرها؟
نسمع نحن في العراق من خريجي الثمانينات مثلاً وما بعدهم إن الهندسة المعمارية إختصاص مناسب للبنات وعددهن فيه أكثر من الطلاب البنين في أغلب الأوقات، وحتى اليوم تشير إحصائية في قسم الهندسة المعمارية/الجامعة التكنولوجية الى إن عدد الإناث في المراحل الخمسة(180) بينما يبلغ عدد الذكور(127).

فإذا كانت هذه المدخلات أين المخرجات؟ يمكن القول إن أغلب أسباب عدم التميز والشهرة هي أسباب خارجة عن إرادة المرأة ففي الشرق والغرب تتحمل هي مسؤلية إدارة البيت والعائلة وغالباً ما تعكس الافلام صراع المرأة بين العمل والعائلة بينما يستطيع الرجل تركيز كل جهده على العمل فقط، أما زهاء حديد فلم أقرا أو أسمع شيئاً عن حياتها الشخصية ولكن (الكتاب باين من عنوانو).


 وما سبق ينطبق على المجتمعات التي تعيش حالة من الاستقرار في العلاقات الاجتماعية والظروف الأمنية والسياسية، أما في عراق اليوم فالمسألة أكثر تعقيداً فطالبة الأعدادية لم تخرج عن طريق (البيت-المدرسة) وبالسيارة (من الباب للباب) لم تزر معالم بغداد التأريخية، لم تشاهد يوماً موقعا للبناء، لم تزر معرضاً فنياً علاوة على مشاكل المناهج التلقينية لوزارة التربية والابتعاد عن تنمية القابليات الفنية على عكس الشاب الذي يسمح له المجتمع والظروف بالخروج والمشاركة في بعض تلك الفعاليات، ثم يدخل الإثنان الامتحان فتحصل الطالبات على أغلب المعدلات العالية ويبدؤون بكتابة الخيارات الخاصة بالكليات ومن لم تستطع الحصول على الكليات الطبية فهي في الهندسة المعمارية بالتأكيد، لأنه صاحب المعدل الأعلى بعد هندسة النفط هذه الايام، فتدخل في متاهة العمارة لخمس سنين وبعد التخرج لديها عدد من الخيارات:
-الدوام في دوائر الدولة البائسة.
-الجلوس في البيت لان الاهل يمانعون خروجها غير الأمن  والعمل في المكاتب والشركات الاهلية.
-العمل في تلك المكاتب والشركات الاهلية المحترمة وهي نسبة قليلة جداً.
ألا يعتبر السيناريو السابق مضيعة للجهد والموارد للـ(الطالبة والدولة)؟ فالطالبة ممكن أن تبذل جهدها في دراسة تحبها حتى لو لم تكن دراسة طبية والدولة ممكن ان تبذل الموارد الخاصة بالدراسة على طلبة لا يجلسون في البيت بعد اكمال الدراسة.
وللخروج أخيراً من هذه الأزمة فالحل (قديم-جديد) وهو إعادة العمل بإختبار القبول في أقسام الهندسة المعمارية في العراق وهو يصب في مصلحة كل الاطراف وأتمنى ان أعرف السبب المنطقي لالغاءه، وأتمنى أيضا أن تقدم الاقسام مجتمعة مقترحاً الى وزارة التعليم العالي لإعادة العمل به، فالطالب والطالبة اللذان لا يملكان مؤهلات دراسة العمارة من الممكن ان يحققا النجاح الباهر في اختصاص أخر.

بلال سمير