المدينة والنهر
هنالك بعض الأحداث أيام الطفولة الأولى تبقى عالقة في الذهن لعشرات السنين،
فحتى هذه اللحظة لديّ خيالات عن رحلة بالزورق في مياه شط العرب، متحف للأسماك والأحياء
المائية، تماثيل على الضفة و(عمة) تعيش الآن على آخر جزيرة قبل القطب الجنوبي.
وكان لشط العرب
رهبة وخوف حيث يعيش فيه تنين المياه الذي قتل الاميرتين(ارمينا) و(اورنينا) في فلم (الاميرة والنهر)[1]
بعد أن تخبرهما الكاهنة أن المهمة الأولى لحاكم لكش المستقبلي هو السباحة من الضفة
للضفة في موقع التقاء نهري دجلة والفرات.
والنهر مرتبط
بالحضارة والمدنية منذ قصص وأساطير ماقبل التأريخ في بلاد وادي الرافدين فالبصرة
وبغداد والموصل وأغلب مدن العراق كان للنهر أثراً في اختيار موقعها، حيث يذكر
البلاذري: لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة (البصرة) كتب الى الخليفة عمر بن الخطاب (رضي
الله عنه) يعلمه نزوله إياها، فكتب اليه: إجمع أصحابك في موضع واحد، وليكن
قريباً من الماء والمرعى وإكتب لي بصفته.[2] أما
بغداد فقد أنشأها المنصور في الزاوية المتكونة بين مجرى الصراة غرباً ومجرى
دجلة شمالاً وكانت حواليها مجموعة الأنهار والجداول القديمة التي تصل نهر دجلة
بالفرات في أقرب نقطة يقتربان فيها من بعضهما[3]، وبمرور
الازمان نمت المدينة على كتوف نهر دجلة حتى تشكلت بغداد التي نعرفها اليوم.
وفي ظل الحالة النفسية السيئة التي نمر بها كم
نحن بحاجة لرؤية أحد عناصر ثلاثية إذهاب الحزن (الماء والخضراء والوجه الحسن)
ولكن السؤال هو: كم مرة يرى الفرد البغدادي النهر عند تنقله في المدينة خلال
اليوم أو الاسبوع ؟ وبالتحديد فقراء بغداد من لا يملك ثمن الوجبات في مطاعم الكورنيشات او لا يملك الوقت والجهد للجلوس مع عائلته في احدى الحدائق القليلة المطلة على النهر؟
والإجابة هي إنه يرى النهر فقط عند الانتقال من الكرخ الى
الرصافة أو العكس ولا تتعدى المدة دقيقة او إثنين على أي جسر من جسور بغداد الاثني
عشر أو إنه يسير في شارع ابي نؤاس من جسر الجمهورية وحتى جسر الجادرية. والسؤال
الأخر هو: هل هذا هو التوجه التخطيطي المناسب لمدينة يشقها النهر؟
أعتقد إن
مقارنة بسيطة مع تخطيط مدينة القاهرة تجعلنا ندرك الفرق والجواب، فهي تمتلك الكثير
من الميادين والشوارع التي تنتهي أو يفتح طرفها على النهر علاوة على الشوارع
العامة الموازية لضفة النهر والتي تمتلك بدورها أرصفة وكورنيشات مفتوحة لعامة الناس،
فالمواطن المصري على علاقة بالنيل اقوى بكثير من علاقتنا بدجلة ولعل ذلك تأكيداً
للمثل القائل (البعيد عن العين بعيد عن القلب).
مدينة القاهرة 1 |
مدينة القاهرة 2 |
مدينة القاهرة 3 |
وحتى لمن تأتيه
الفرصة للاقتراب من الحبيب نجد ان هنالك من يستكثر عليه ذلك ! حيث يقول المعمار
محمد مكية : "إن العمل الوحيد الذي حققت فيه بعض أفكاري كان آخر بيت سكناه
محاذاة دجلة، فجيرة النهر ليل نهار بحد ذاتها كانت أمنية من الأماني العزيزة .
صممت البيت على قطعة ارض اشتريتها من ضياء جعفر.... فظهر عليها بيت حميم ولد
الاستقرار النفسي لنا.... لكن حدث جلل أنهى كل شئ .... أستلمت أم كنعان (زوجته)
أمراً بإخلاء البيت لعدنان خير الله الطلفاح الذي اصبح وزيرا للدفاع .... أعطوا
تقريراً بقيمة البيت على مزاجهم وكان التعويض مبلغاً زهيداً."[4] وذات
الجهة أخلت منطقة (كرادة مريم) للاسباب نفسها، يصف الكاتب الاردني (محمد
ازوقة) منظر المنطقة من الجهة المقابلة في روايته (الثلج الاسود): "جلس
سعيد بمواجهة النهر كانت أنوار القصر الجمهوري بحدائقه الواسعة الجميلة ونخلاته
الباسقة المشذبه تتلالأ فوق صفحة المياه، تذكر سعيد أزمة المياه في عمّان ونظر الى
هذا البحر المنساب أمامه." وحتى شارع ابي نؤاس فقد عزل عن المدينة بشريط
سكني طابوقي خصصت شققه لمن ينتمي الى أجهزة الدولة فقط.
وكانت هنالك
محاولات اصلاحية لتلك الخصومة بين النهر والمدينة
ولكنها لم ترى النور ولعل لمحمد مكيه نفسه أوضحها حيث يقول في سياق حديثه عن مشروع
جامع الخلفاء والمناطق المحيطة به: "كنت أميل الى أن تنتهي الشوارع الى
النهر ولا توازيه ففكرت بزقاق مشجر بالنخيل، يمتد من بوابة الجامع حتى نهر دجلة."[5]
وأخيراً نقول (ربَّ
ضارة نافعة) فالنيل اليوم يعاني من أثار الانفتاح على المدينة بشدة فقد وصل
التلوث حداً مخيفاً حيث أكدت الدراسات العلمية إن 17 الف طفل يموتون سنوياً نتيجة لتلوث
المياه الناتج عن رمي النفايات اليومية ومخلفات المعامل ومياه الصرف الصحي علاوة
على نزول الحيوانات الى النهر، أما دجلة فهو في حالة مقبولة مقارنة بالنيل
لكونه معزول عن سبب التلوث والضرر (نحن).
بلال سمير
[1] الاميرة والنهر:
هو اول فلم كارتوني عراقي يحكي عن قصة من قصص واساطير ما قبل التأريخ في بلاد
الرافدين وهو من انتاج عام 1982 وكان يعرض ايام الطفولة في برنامج سينما الاطفال
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق