الأحد، 20 أغسطس 2017

يوم في المحكمة

يوم في المحكمة

لا توجد معاملة رسمية في العراق لا تنجز، سواء (بيومها) أو (بعشرتيامها) ولكنها بحاجة الى الصبر، مقدار هائل من الصبر وقلب جديد (ممدشن).
واعتقد اننا كمعماريين ملوك الصبر الشرعيين.

كن منصفاً ياسيدي القاضي ...
لقد رأيت القاضي اليوم في معاملة لفقدان مستمسكات رسمية.


ولم يخلو الأمر من فائدة معمارية، اكاديمية وعملية بالتأكيد.

بعد ان لقنني صديقي الخطوات المطلوبة واماكنها بدقة دخلت الى مبنى المحكمة الموقر، وما ان عبرت عتبة الباب الرئيسي حتى شعرت بالضياع، كان يجب ان تكون القطعة التعريفية (المحكمة الفلانية ... سوك هرج حالياً)، ناس في كل مكان ... تذكرت المثل البغدادي الشعبي الذي يقول: متشابجين ... من الباب للمحراب (والذي لا يمكن قص حكايته هنا).
وبانتظار اتمام اول مرحلة من المعاملة بدأت المراقبة، وكانت الحصيلة مجموعة من الادراكات المفيدة لمستقبل التعامل مع مبنى المحكمة في المشاريع الاكاديمية والعملية.

القضية الاولى في المبنى هي قضية اماكن الانتظار، فالمبنى يتألف من محاور حركة على شكل حرف (H) وتقع على تلك المحاور الفضاءات الادارية المتنوعة، يقف على باب كل غرفة موظف (بواب) ياخذ الملف من المراجع ويأمره (استريح عيني هسة نصيح اسمك) ولكن الواقع لا يوجد مكان للاستراحة سوى ست مصاطب من الحديد والخشب ... ولأنها ممتلئة، نجد الناس وقوفاً في كل مكان، تذكرت لازمة زوج جنان في ولاية بطيخ وابتكرت واحدة :

لو الله خالقني محور حركة بالمحكمة ولا هل عيشة !
ولو سألني أحدهم ليش عود محور حركة بالمحكمة؟ اجيب:
يا أخي لا هو ممر لا هو مكان انتظار مدري شنو !

لذا يجب علينا كمعماريين الاهتمام باماكن الانتظار وعلاقتها بكل فضاء اداري ومدى استيعابها للمراجعين وكيفية تحقيق تهوية طبيعية فيها لاننا لن نعتمد على الطاقة الكهربائية المقيتة.

اما القضية الثانية فهي مرتبطة تماماً بالاولى فعندما ينتظر المدعي او المدعي عليه او الشاهد في محاور الحركة فإنه يتذكر متأخراً الصفة الشعبية (يمشي بصف الحايط)، لذا تجده (ينتظر بصف الحايط) فيعطي للجدار ظهره ويرفع احدى رجليه ليضع اسفل حذائه على (الحايط) كسراً للملل، لذا نجد الجدران قذرة جداً ... والحل العراقي بتغليف المسافة حتى خصر الانسان بمادة قابلة للغسل او لا تتأثر بآثار الاحذية بدلاً عن توفير مناطق انتظار مناسبة، وعندما ترتفع كلفة المبنى من الممكن رفع مادة التغليف أثناء التنفيذ لتبقى آثار كل مراجع على جسد المبنى الموقر.

والقضية الثالثة التي نقنع انفسنا بها اكاديمياً، هي الفصل الحركي بين اصناف المستخدمين للمبنى، حركة للاساتذة وحركة للطلاب في المدرسة وحركة للاطباء وحركة للمرضى في الابنية الصحية ولكن في واقع المحكمة فان الحركة (خبط) القضاة والموظفين والحرس والمراجعين والمجرمين و(محد يعرف فطيّم بسوك الغزل).

أما (أن تكون غرفة حجز المتهمين في موضع مؤمن ومحمي في مبنى المحكمة) فقد اتضح انها خرافة ! فغرفة الحجز بجوار مدخل المحكمة مباشرة ويمر من امامها الجميع، بوابة بحديد مشبك تشاهد من خلاله متهم يفترش الارض معصوب العينين أشعث الشعر.

 قد يقول قائل ان المبنى غير مصمم خصيصاً كمبنى محكمة ... من المحتمل جداً ولكنه على الاقل يمثل حالة دراسية مفيدة عند تصميم مبنى محكمة فعلي قد نكلف به في المستقبل.

اثناء الانتظار في حمامات الساونة الداخلية او الخروج الى الجو البديع تشاهد المحامين وهم ملتزمون بارتداء الملابس الرسمية (القوط)، وانا تحملت الاجواء مضضاً بقميص قطني ابيض مرفوع الاكمام ...

لكل مهنة سلبياتها ...

ولكن هنالك مهن يرتبط صاحبها بالناس مباشرة، وبانواعهم المختلفة وهم في أزمات حقيقية ويحاولون بشتى الطرق الخروج من تلك الازمات ... فكرت بالمهن ذات الاختصاصات الطبية والمهن القانونية لتظهر العمارة كمهنة بجانب تلك المهن مريحة نوعاً ما تحتمل فيها هموم زبائن معدودين على اصابع اليد في كل موسم عمل.


وأخيراً حافظوا على مستمسكاتكم الرسمية، حافظوا على أعصابكم واحتفلوا كونكم معماريين.






الجمعة، 11 أغسطس 2017

أطفال مشوهون

أطفال مشوّهون

قيل في نظام سابق: إن العراقيين بعثيون وإن لم ينتموا ...
وقيل في سياق آخر: إن الانثى أم وإن لم تلد ...
وأنا أقول: إن المعماري أب وإن لم يتزوج ...

كنت أنتظر دوري في مطبعة الاحسان الدائم لارى نتاجي يتحول من شاشة حاسبي المحمول الى الورق، حينها تخيلتها (المطبعة) غرفة انتظار لصالة الولادة، فأنا حرفياً أذرع الارض جيئتاً وذهاباً وأحاول أن اشغل نفسي بتفاصيل مختلفة تتوزع هنا وهناك، الاحبار المرصوصة على الأرفف، البوسترات الدعائية على الجدران والمطبوعات المنجزة تنتظر من (خلّفها) لاستلامها.
هو موقف يعرفه وجربه جميع المعماريين وطلاب العمارة ايضاً خاصة بعد أن تحول اظهار المشاريع النهائية وحتى الاولية منها الى استخدام برامج الاظهار الحاسوبية بدلاً عن الاظهار باليد غير المجردة، فالطلبة (يطلكون ويجيبون) في كل تقديم من التقاديم الكثيرة للعام الدراسي.

ولكن هل تحول خطوط التصميم المعماري من الشاشة الى الورق هي الولادة الوحيدة؟
ماذا عن تحول التصميم من الورق الى الواقع ؟ مبنى واقف بكونكريته وطابوقه.
هل هي ولادة أخرى؟  وأيهما أصعب انتظاراً لرؤية الطفل الموعود؟

أنا من الجيل الذي بدأ طفولته الواعية مع بداية حرب الخليج الاولى والتي نسميها (حرب بوش)، والمفارقة انني في تلك الحرب وعندما توقفت الدراسة كنت حينها في الصف (الثاني) الابتدائي، وفي حرب الخليج الثانية عندما توقفت الدراسة كنت في المرحلة (الثانية) من دراسة العمارة !
بعد نهاية حرب بوش عشت طفولتي كاملة في فترة الحصار الاقتصادي على العراق وتحت آثار الحرب العسكرية السابقة، ولكم أن تتخيلوا نوعية ذكريات الطفولة التي امتلكها ...
وعلى سبيل المثال وارتباطاً بموضوعنا، ذكريات تركيز النظام السابق اعلامياً على الولادات المشوهة ... أطفال كثيرون بتشوهات مؤلمة نتيجة لآثار الاسلحة الحاملة لليورانيوم المنضب التي استخدمها الجانب الامريكي، زيادة على اطفال يعانون من امراض قاتلة نتيجة لعد توفر علاجاتها في المستشفيات العراقية.

ما أنا واثق منه هو عدم اختلاف الأمر في العمارة الآن، فتصاميمنا المعمارية تولد مشوهة على ارض الواقع ...
لو افترضنا ان المصمم انتج تصميماً لن ابالغ بقولي مبدعاً وانما تصميماً مقبولاً من الناحية الجمالية خالي من العيوب الواضحة وهو بذلك يبتعد عن القبح باي حال من الاحوال، ففي الولادة الاولى (من الشاشة الى الورق) قد تنتج التشوهات عن عدم الدقة في اختيار الالوان او سُمك الخطوط او عدم الدقة في اي من خيارات البرامج الحاسوبية، ومعالجة التشوهات تكون بيد المعمار على ان يدفع اجور الطباعة مرة أخرى.
ولكن ماذا عن التشوهات التي تحصل في الولادة الثانية؟ ومن هو لاعب دور اليورانيوم المنضب فيها؟


في تجربتي الاخيرة لانجاز تصميم معماري من المفترض ان ينفذ على ارض الواقع، رأيت (نجوم الظهر) وأنا اتعامل مع المهندس المدني لاعداد التصاميم الانشائية، وفي المقابل أنا متأكد من أنه سيقول للآخرين عني: إن المعماري الفلاني لا يفهم باختصاصه، وليس لديه أي خبرة، حتى انه صرح بذلك ضمنياً عندما قال: (استاذ اني سألت وكالوا انتوا دارسين مادة انشاءات بالبكالوريوس)!
 والقضية الخلافية بيننا انه يتوقع من السهولة على المعماري ان يحول بُعد عنصر معماري من 20 سم الى 40 سم، ولكن جمالياً فإن تلك الـ20 سم ستغير نسبة العنصر مقارنة بالتكوين المعماري ككل وبذلك ينتج تكويناً معمارياً مشوهاً، وهو (المهندس المدني) لا يستشعر ذلك التشوه او لا يهتم به أساساً.
 أما أنا بدوري فكنت انتظر منه ان يقدم لي حلاً إنشائياً بديلاً للحفاظ على بُعد العنصر وانتاج تكوين معماري غير مشوه.
ولو فرضنا مرة اخرى ان المصمم جاهد بالعمل مع المهندس المدني وحافظ على نسب وشكل مشروعه، ولكن لم تتوفر له فرصة الاشراف على تنفيذه، سلم المخططات كاملة للزبون وانقطعت صلته بها وبتحويلها الى واقع، سيأتي دور الامكانيات المادية للزبون ورغبته بتقليلها زيادة على اجتهادات المقاول وتأثيره على الزبون ... وكل هذا في حال كون الزبون من القطاع الخاص، أما القطاع العام فالامر فيه يتعلق بالصلاحيات تماماً، فعندما يرغب الرئيس لا يتبقى لرغبة المعماري المرؤوس أي قيمة.
فعندما تفكر مؤسسات الدولة بتقليل كلف تنفيذ المشروع نتيجة لقلة ميزانيتها فانها ستدوس على كل الاعتبارات المعمارية الاخرى وما على المعماري (الموظف) الا ان ينفذ الطلبات بتقليل كلف المشروع ما يؤدي الى تشويهه غالباً.
سنقرأ في الادبيات المعمارية أو نسمع من المعماريين الذي عملوا خارج العراق وعادوا لتأسيس شركات كبيرة، أن على المعماري أن يرفض اي تغيير في تصميمه مهما كلفه الأمر لأن المشروع في النهاية سيخرج بإسمه وهو من يتحمل قبحهُ الناتج عن متطلبات وضغوطات الآخرين، فالسؤال النهائي الذي سيسأله الناس: من صمم هذا المبنى القبيح!

ولكن ماهو حال المعماريين متواضعي الحال، ممارسة العمارة لديهم  لكسب عيشهم وتوفير متطلبات الحياة الكثيرة؟ هل يرفضون التغيير ويفقدون الزبون ونقوده؟
وقفة .... هل تشعرون انني هنا أقول أن على المعماري ان يغير تصميمه حتى إن ادى لتشوهه، وذلك ليرضي الآخرين و(يشتغل على باب الله)؟
بالتأكيد لا ولن أقول ذلك ...

بعد أن ينتهي المشروع ماراً بكل مراحل التشوه، يأتي أحدنا ليلتقط له صورة ويرميها على صفحات الفيسبوك ... وهنا يأتي دور طلبة العمارة (الشباب) كرواد دائمين له، لنقد المشروع ونقد مصممه وقد يصل الأمر للتجريح والانتقاص، وهم لم يمروا بتجربة تصميم مشروع سيتم تنفيذه على أرض الواقع، لم يتعاملوا مع مهندس مدني، لم يتعاملوا مع الزبائن العراقيين بكل ما يحملونه من قناعات معمارية خاطئة، ولم يتعاملوا مع مقاول يؤمن بعدم جدوى تعامل الزبون مع مهندس يحمل شهادة اكاديمية ولكنه لا يفهم مثله بالتنفيذ العملي للمباني.
 هل الطلبة هم فقط من ينتقص من المشروع المشوه؟ بالتأكيد لا هنالك معماريي الخارج المنفصلين عن الواقع العراقي البائس ومعماريين يتغاضون عن ظروف العمل التي يعرفونها حق المعرفة.


الزبدة .... على الناقد المعماري (في اي مرتبة علمية ومهنية يشغلها) ان يستوعب ويدرك ظروف العمل المعماري في العراق وان يوجه النقد لمن يستحقه، فقد يكون التصميم انقطع عن مصممه والمصمم بريء من كل التشوهات التي يعاني منها المشروع.
وسؤال الختام ... هل يتوقف المعمار عن العمل إذا كان تصميمه سيتشوه لمجرد انه يعمل ضمن نظام العمل العراقي السائب؟ ام ان يستمر بالعمل ويتحمل تشوهات مشاريعه وسمعته المعمارية؟
اعتقد أن هنالك حل ثالث ممكن الحصول: هنالك فرق بين تصميم قبيح مشوه وبين تصميم بسيط قليل التفاصيل ولكن بنسب جميلة مقبولة بصرياً ... وعلى المعماري العراقي وفي بيئة العمل العراقية ان يخطط من البداية لوضع تصميم بسيط قليل التفاصيل وقابل للتنفيذ كما هو دون تحوير وتغيير مما يؤدي الى ولادة طفل معماري مشوه ...

وأخيراً قد يولد لي طفل (مشروع) مشوه في المستقبل والسبب انه ولد في العراق.