دروس من برج آينشتاين
لماذا نقرأ تاريخ العمارة او نحاول فهم نظريات العمارة
السابقة؟
الاجابة واضحة: لنتعلم من التجارب والجهود البدنية والفكرية
السابقة للانسان. ولكن الواقع يثبت عكس هذه الاجابة البديهية، اننا غالباً لا
نتعلم من التاريخ.
ماذا يمكننا ان نتعلم اليوم من برج آينشتاين؟
لابد من مقدمة تعريفية للمبنى، فهو مرصد فلكي يقع في
الحديقة التي سميت باسم آينشتاين ايضاً (The Albert Einstein Science Park) في مدينة (Potsdam) المانيا.
شيد البرج تكريماً لآينشتاين حيث تم التخطيط له عام 1917
ثم تنفيذه بين عامي 1919-1921 وأخيراً تشغيله عام 1924، حيث نصّب فيه تلسكوباً
لمراقبة الشمس تم تصميمه من قبل عالم الفلك (Erwin Finlay-Freundlich)، والذي يساعد الباحثين في
اختبارات دحض او اثبات النظرية النسبية. علماً ان آينشتاين نفسه لم يمارس اي نشاط
داخل البرج.
الاهم بالنسبة لنا كمعماريين ان البرج من تصميم المعمار
الالماني (Erich Mendelsohn) والذي توفي
عام (1953)، ويشتهر باعماله كاحد رواد العمارة التعبيرية (Expressionist Architecture) في القرن العشرين.
Erich Mendelsohn |
ماهي العمارة التعبيرية اذن؟
يرى التعبيريون ان مزاولتهم للعمارة ليس هدفها تقديم خدمة
فحسب (اي سد الحاجة عن طريق وظيفة المبنى فقط)، بل اعتبروها نوعاً من الرسالة
الاجتماعية التي خصتهم العناية الالهية بتقديمها، فهي كنوع من الهندسة الاجتماعية
الاصلاحية للمجتمع وصولاً الى المجتمع المثالي الفاضل.
وتحرص التعبيرية على صون الحرية الفنية الفردية للفنان
او المعمار، بحيث يحتفظ بالقدرة على التفكير والعمل المستقل، لان الحرية هي اهم
شروط الابداع الفكري والفني والمعماري.
بالتالي فالشكل المعماري الناتج هو رهن بارادة المعمار
الفنية وقدرته التعبيرية، وتعبيره عن ذاته وعن قضايا عصره.
ولكن في مقابل هذا التوجه المعماري التعبيري كان هنالك
التوجه الوظيفي، الذي يقرّب المعمار من المهندس ومناهجه المقننة، والتشبه به
وبطرائق عمله الممنهجة. وينادي بالنمذجة والمقاييس المعيارية (Typification And Standardization).
نلاحظ مع اختلاف المسميات لطرفي الصراع، انه صراع قديم
جداً ونحن نعيشه اليوم ايضاً، ممكن ان نطلق عليه صراع بين (العقل) (Reason) والمخيلة (Fantasy)، او (الموضوع)
(Objective) و(الذات) (Subjective).
فهل يجب انتاج
العمارة وفق قواعد صارمة تفرض على المعمار ويجب ان يفسر علمياً جميع قراراته
التصميمية؟
ام له مطلق الحرية في اختيار الاشكال معتمداً على خياله الغني
لخدمة قضية معمارية معينة يؤمن بها؟
لكي نتعلم من التأريخ يجب علينا ان لا نجادل بتفضيل
الاعتماد على (الذات) (المخيلة) او على (الموضوع) (العقل) وكاننا اول انسان يخوض هذا الجدال على الكوكب.
لقد استهلكت القضية بحثاً وجدالاً وهنالك كتب كثيرة
مختصة باستعراض الثنائية عبر التأريخ ومنها كتاب (Sources of Architectural Form) لـ(Mark Gelernter).
علينا ان نقرأ الجدالات السابقة، وان نميّز جيداً ان
النقاش في القضية يختلف في مجال التعليم المعماري عن مجال ممارسة العمارة، فلا
يمكن لطالب المرحلة الاولى او الثانية ان يقول اني اعتمد على الذات او الخيال الذي
لا يحتوي على شيء او لم يتم اكتمال بنائه ليصبح هو المصدر للانتاج، وعلينا اخيراً
ان نفكر في الحالة الوسطية بين الطرفين:
يقول (Erich Mendelsohn):
"من المؤكد ان الوظيفة (Function) هي العامل الرئيس الذي يجب على المعمار التركيز عليه، لكن
الوظيفية البحتة لا تنتج العمارة بل مجرد منشآت، مباني ميتة خالية من الدم في
العروق، اما التعبيرية البحتة فسوف تهلك بسبب حيويتها الزائدة. يكمن التحدي
الحقيقي اذن في الدمج بين الوظيفة والحيوية."
ودائماً نسمع ان خير الامور اوسطها.
واذا كان خيال الفنان هو مصدر الشكل المعماري للتعبيرين
فما هي صفات الشكل ذاته؟
يتميز شكل برج آينشتاين بخطوطه الانسيابية والدينامية الفائقة
للشكل الخارجي للبرج وقاعدته التي تحتوي المدخل المرتفع ببضعة درجات عن الارض، فلا
وجود للحافات الحادة او الاشكال الهندسية المنتظمة في تكوينه.
ينقل الصحفي والمؤرخ الامريكي (Otto Friedrich) ان مصمم البرج قد اخذ آينشتاين في جولة مطولة داخل وخارج البرج
بعد اكتماله، وكان ينتظر منه علامات الاعجاب او المباركة للمشروع، لم يقل آينشتاين
شيئاً الا بعد ساعات عند اجتماعه باللجنة المسؤولة عن المبنى، عندما همس بكلمة
حكمه الوحيدة : ORGANIC !
لماذا هذه العضوية؟ والتي تعتمد على خطوط المنحنية
بالطبع.
السبب هو مفهوم التماهي (Empathy) لدى التعبيريين، وهو قدرة الانسان التخيلية على اسقاط ذاته على
الاشكال المحيطة به، وتأثره الانفعالي بحالتها الظاهرة امامه.
ويسمى المفهوم ايضاً بـ(تخيّل الذات) (Imaging Of The Self)، فعندما ننظر الى الاشياء المحيطة بنا، نتخيل اجسادنا في حالة
مشابهة لما نراه امامنا. فان كان مانراه فراغاً واسعاً فاننا نشعر بالانطلاق
والتحرر، وان كان فراغاً محصوراً احسسنا بالضيق والانضغاط، وبنفس الطريقة التي
تشعرنا بها الغيوم المتحركة باننا نتحرك معها بالرغم من اننا راسخون في مكاننا.
واعتماداً على التماهي اهتم التعبيريون بالخط المنحني (Curve)، وذلك بالنظر لقدرته على الايحاء بالحركة، او بتشابهه مع خطوط
معالم الجسم البشري وبالتالي الايحاء بالحيوية وارادة الحياة، وزيادة قدرتنا
على تخيل ذواتنا في الاشكال الجامدة حولنا.
هذه النظرة للخط المنحني ظهرت في بداية القرن العشرين
(1908) اما التفسير المعاصر لانجذاب الانسان نحو الخطوط المنحنية في التصميم فيخبرنا
به (Eric Jaffe) في مقال:
يصف الناس غرفة جميلة عندما يكون تصميمها منحنياً او
كروياً اكثر مما لو كان مستقيماً، وعندما يطلب منهم الاختيار بين شيئين احدهما ذو
خطوط مستقيمة والاخر ذو خطوط منحنية فانهم غالباً ما يفضلون الاخير: الساعات
الدائرية، خطوط الكتابة المنحنية، المقاعد وحتى خيوط تنظيف الاسنان ذات العلب
منحنية الحافات.
وقد وجد علماء الاعصاب بأن ذلك لايتعلق
بالذوق الشخصي للافراد، وانما لاسباب تتعلق بتكوين الدماغ البشري.
التفسير الاول هو ان مراقبة نشاط الدماغ للاشخاص الذين
ينظرون الى التصاميم ذات الخطوط المنحنية تشير الى زيادة ملحوظة في نشاط منطقة فيه
تسمى (The Anterior
Cingulate Cortex)، مقارنة
بالاشخاص الذين ينظرون الى التصاميم المستقيمة والمنتظمة، هذه المنطقة مسؤولة عن
العديد من الوظائف الادراكية ولكن واحدة من الوظائف ترتبط بالدراسة حول الخطوط
المنحنية والمستقيمة وهي (Involvement In Emotion) او اثارة المشاعر.
ويضرب لذلك مثلاً ببكاء المعمار الامريكي العريق (Philip Johnson) عندما زار متحف كونكنهايم بلباو لاول مرة للمعمار فرانك جيري
وقال:
Architecture is not about words.
It’s about tears
Philip Johnson |
اما التفسير الآخر فيشير الى ان النظر الى العناصر المستقيمة والحادة يؤدي الى انتاج الدماغ لاحساساً بالخوف، تلك الاشكال تعطيه اشارات للاصابة باضرار جسدية فيعتبرها تهديداً لكيانه، اما الخطوط والاشكال المنحنية فهو يراها امينة واقل ضراراً عليه.
ويضرب لذلك مثلاً احساسنا ونحن نراقب الاطفال الصغار
يتحركون في الفضاءات والخوف عليهم من الاصابة بالحافات الحادة للمناضد وقطع الاثاث
ذات الحافات المدببة.
وهنا يجب ان نسأل انفسنا عن الاسباب التي تجعلنا نستخدم
الخطوط والاشكال المنحنية في تصاميمنا المعمارية، هل نؤمن بفلسفة معينة؟ هل ندرك
بذكاء انها الاحب الى قلوب الاساتذة والعملاء؟ اما اننا نستخدمها تقليداً فقط
للمشاريع التي نراها امامنا على الشبكة؟
واخيراً نتعرف على المراجع الشكلية لتكوين برج آينشتاين
والذي نعرفه نحن بـ(الاستعارة)، اي بماذا تغذى خيال المعمار لينتج هذه الاشكال؟
نقرأ ان مصادر الشكل في تصميم البرج هي تمثيلاً
لموضوعين مهمين لدى التعبيريين هما (البرج) و(الكهف) اللتان شكلتا المعالم
المكانية الرئيسية لرواية الفيلسوف الالماني (Friedrich Nietzsche)، (هكذا تكلم زرادشت) التي يصف فيها رؤيته للانسان الخارق. وفي
تلك الرواية يعيش الحكيم زرادشت في كهف يقع اعلى قمة الجبل العظيم، وعندما يهبط
الحكيم من الجبل الى السهول المنبسطة لينشر رسالته بين الناس يرى مدنهم ومنازلهم
الوضيعة صغيرة الحجم ويتعجب لقناعة ساكنيها بها، التي يعتبرها دلالة على صغر
نفوسهم وضعفها فالنفوس الشامخة في نظره لا تقنع بتلك المساكن بل تبحث دوماً عن
القمة والانجازات العملاقة.
فالكهف (والذي يظهر في مدخل البرج) الذي اتخذه زرادشت
مسكناً له فيرمز به نيتشه الى ضرورة البحث عن الذات من الداخل، واستلهام الرؤية في
معزل عن الجماهير والتفرد في الرأي، بدلاً من الانسياق وراء الرأي العام ووراء
الجماهير التي يفقد فيها الفرد شخصيته وقدرته على استلهام ذاته.
وجميع ماسبق مرتبط بالمسؤولية الاجتماعية للمعماريين
التعبيرين وكيف يصلون بالافراد والمجتمع والمدينة الى حالة الكمال والمثالية.
وبهذا فلنا الحق في ان ننتج تكوينات معمارية او مباني
تعتمد على روايات او قصائد شعرية او لوحات فنية او اي منتج انساني آخر، مع التأكيد
مرة أخرى ان ذلك يتم بعد ان نتعلم اساسيات العمارة وقواعدها العالمية.
الاقتباسات الخاصة بالبرج وفلسفته ومصادر شكله من كتاب (من
النهضة الى الحداثة، تاريخ العمارة الغربية ونظرياتها، نبيل ابو ديّة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق