الجمعة، 3 يوليو 2015

جارلس كوريا، زهاء وعبد الكريم قاسم
تتراكم الأخبار والنصوص المتعلقة بالعمارة والتي نقرأها يومياً لتشكل أسئلة محيرة عن الماضي وحاضرنا والمستقبل:
-بتأريخ 26-6-2015 نقرأ للدكتور خالد السلطاني مقالة في جريدة المدى الالكترونية "في إستذكار جارلس كوريا"، يستذكر فيها المعمار والمنظر والمخطط والناشط المدني الهندي CHARLES CORREA، وذلك بعد وفاته في السادس عشر من الشهر نفسه.
يصفه بالقول " في جميع أعمال "جارلس كوريا"، هذا المعمار المهم لإقليم بومبي - أحمد آباد بالهند - يوجد ثمة تناغم وإنسجام بين نشاطه المهني ورؤياه الديمقراطية فقد ظل عازفاً عن دعوات كثيرة ومغرية، قانعاً بإيجاد حلول ملائمة لمشاكل تخطيط مدينة "بومبي" الصاخبة والمزدحمة. ولقد إستمر في هذا العمل المضني والمكلف لمدة عشر سنوات يعمل مجاناً. آملاً بأن تصاميمه سوف تقلل وتخفف من وطأة ظروف الحياة القاسية التي يعاني منها مواطني مدينة "بومبي" البسطاء."


-ثم نقرأ بتأريخ 27-6-2015 خبراً على حساب "إرث بغداد المعماري" عن تعاقد الأمانة العامة لمجلس النواب العراقي مع شركة زها حديد المحدودة آركتكتس (كما جاءت تسميتها في خطاب مجلس النواب لوزارة التخطيط العراقية)، لتقديم خدمة إعداد التصاميم المعمارية لبناية مجلس النواب العراقي (الصرح التأريخي) وبمبلغ 31,250,000  باوند استرليني، أي ما يقارب50,000,000 دولار أمريكي. والحقيقة أن الخبر منشور على الموقع الرسمي لمجلس النواب بتأريخ 15 أيار, 2014، علماً أن التصميم قد حصل على المرتبة الثالثة في المسابقة التي طرحت على مستوى عالمي عام 2011، وكان الفائز الأول فيها هو شركة اسيمبلاج اللندنية للهندسة المعمارية، وحصلت الشركة على جائزة المسابقة البالغة  250 الف دولار أمريكي.


وهنا يأتي السؤال: هل يحق لنا المقارنة بين الموضوعين؟
ما أعرفه حاليا أننا لا يحق لنا النقاش في خيارات كل مصمم منهما (كوريا وزهاء) لكل منهما الحق الكامل في إختيار أسلوب ممارسته للمهنة، أن يعمل لمدة عشرة سنوات مجاناً وبمشاريع تستهدف الحياة اليومية للمواطنين البسطاء، أم أن يصمم مشاريع بملايين الدولارات تستهدف فئات مجتمعية معينة أو فعاليات مجتمعية محددة. ولكني لا أعلم إن كانت زهاء حديد متابعة لأخبار العراق؟ هل تشاهد التقارير عن ظروف المعيشة اليومية والتحديات التي يواجهها عدد كبير من أفراد المجتمع من أجل الحصول على العيش الكريم المناسب فقط؟ هل هي مطلعة على طريقة إدارة موارد البلد الإقتصادية من قبل الجهات التشريعية والتنفيذية؟

ولكن السؤال الآخر: ماذا نطلب منها؟

من طرفها هي (زهاء) فقد أعلنت الدولة العراقية مسابقة عالمية رسمية، عملت هي وكادرها للمشاركة بها، ومحاولة تحقيق حلم إنجاز معلم معماري في بلدها الأم، يصفه موقع مجلس النواب بـأنه (سيكون صرحاً حضارياً ومعلماً تاريخياً)، وبعد إختيار مقترحها للتنفيذ طلبت المبلغ الذي يسد أجور المهندسين العاملين معها وكافة المتطلبات الأخرى. فالأمور بالنسبة لها طبيعية جداً!

وهنا أتساءل أي قضية أهم في سياق العمارة، أن ننجز صرحاً معمارياً يجتمع فيه ممثلي الشعب العراقي المنتخبين ؟ أم أن نوفر المبلغ لمشاريع تحسّن الحياة اليومية لمن إنتخبهم من أفراد المجتمع؟

أعتقد أن الإجابة الأغلب وخاصة منا نحن الحاضرين للمشهد العراقي، هي الخيار الثاني، الأهم هو راحة أفراد المجتمع.
ولكن ما رأيكم أن الواقع يدعونا للشك في خيارنا هذا؟

نفتخر غالباً بالانجازات المعمارية للحضارات الإنسانية السابقة، نفتخر بتلك التي نشترك معها جغرافياً ونعتبر أنفسنا إمتداد لها، ونحلل ونتقصى نتاجات الحضارات المبدعة الأخرى. ولكن ماهي نوعية تلك المنجزات في الثنائية (مباني الحكام- مباني الانسان...البسيط)؟
لنذهب الى وادي النيل ثم نعود الى الرافدين، يستعرض كتاب (علي مبارك مؤرخ ومهندس العمران) ضرورة تعرية مظاهر الظلم والقهر والعسف التي أنّ من تحتها الشعب المصري في العصور الماضية، فإهرامات مصر وآثارها الخالدة كآيات مجد وعظمة وبراهين تقدم وتحضر المصريين القدماء، كان من وراءها نظم سياسية وإجتماعية جائرة قد سخرت عامة الشعب وجمهور الناس في تشييد تلك الآثار" فنبتت الأزهار وسط الدِّمن! وقامت الروائع من بين المجازر! وتحول أنين المظلومين وعرق المسخرين الى شواهد خالدة على عظمة الإنسان."

ثم ينتقل الى حقبة أخرى، ويقول إن في القاهرة  والفسطاط وخلال 540 عاماً بنيت 8 جوامع، ليأتي بعدها العصر المملوكي  وخلال 363 عاماً من حكمهم بني 122 جامعاً!  يصف الحكام المماليك  بميزتين اثنتين: أولهما الظلم الشديد والعسف الذي ضربت به الأمثال، وثانيهما بناء أروع المساجد وأعظمها وتسخير الناس في بناءها دون أجور، ومصادرة الأملاك والأرزاق ووقفها على هذه المساجد ليصرف من ريعها المغتصب على قراءة القرآن والدعاء لهؤلاء المماليك.  

فالابنية الخالدة هي أبنية حكام غالباً، ولعل الأمر بديهي فالابنية العظيمة بحاجة الى موارد عظيمة وهي لا تتوفر الا للحكام و(بركبتهم)  كيفية الحصول عليها.

نستذكر هنا المباني التي ورثناها من النظام السابق، هي تلك القصور الرئاسية المنتشرة في مختلف المحافظات، والجوامع العملاقة التي لم تكتمل حتى، وعلى الرغم من أن العمل فيها لم يكن بالسخرة فقد كانت توفر فرص عمل جيدة لمختلف الإختصاصات، ولكن مواردها كانت من أضلاع الشعب، كنا نستمع لإشاعات إبدال بواخر الحنطة بالمرمر الإيطالي وغيرها الكثير.

وبنفس السياق الزمني للأخبار نصل ليوم 14 رمضان ذكرى مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963، ولعله من أكثر الحكام الذي عُرف بعدم إستغلاله للسلطة لمكاسب شخصية ومظاهر حُكم غير ضرورية، وهو يرتبط بحديثنا بطريقة مباشرة ... يحدثنا الشاعر كريم العراقي في روايته (الشاكرية) عن الرابطة بين عبد الكريم قاسم وعمارة الإنسان البسيط، ففي سطرها الأول يقول: "اليوم يوم تأريخي في حياة الشاكرية، حيث سيذاع على الأهالي -بعد قليل وبحضورهم- بيان إزالتها، لذا تجمع الآلاف ليحضروا وداع شاكريتهم.... 
قال خميس الصائغ: الزعيم هذه المرة خلانا في دماغه .. يمكن صحيح يعوضنا.
-لو عوضنا باراضي تمليك، لن ينساها له التأريخ.
-تقول الشائعات .. مع الاراضي سيعطينا مبلغاً للبناء.
-لا لا لا ... لو ذلك صحيح ليس على القمر فقط نرسم صورته، نرسمها حتى على النجوم.
-ودفعتنا موجة من البشر، وإعتلى المسؤول الحكومي الكبير المنصة، فخفت الضوضاء.
-بسم الله الرحمن الرحيم .. إخواني أهل الشاكرية، أحمل لكم بشرى سارة.
ولم تصبر الجماهير وهزجت: عاش عاش .. عاش الزعيم .. وتعيش الجمهورية.
-وضعت حكومتكم الوطنية حداً لمعاناتكم، وتخليصكم من هذه الصرائف العشوائية ومستنقعاتها وأمراضها.. فالصرائف لا تحميكم من حر ولا تقيكم من برد وقد ذقتم الويل من الفيضانات والحرائق.
إخواني خلف جسر القناة في الرصافة، سنعوضكم بقطة أرض لكل عائلة، بسند تمليك رسمي.
ودوت الجماهير عاصفة: ماكو زعيم الا كريم.
-إخواني أهل الشاكرية .. تعاونوا مع لجنة التعداد وسجلوا المعلومات الصحيحة، ولن ننسى أحداً. علينا الأرض وعليكم البناء.. وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته." إنتهى الاقتباس من الرواية وكانت بداية مدينة الثورة، مدينة الصدر حالياً.

ويُكمل النص الروائي نص مهني للمعمار معاذ الآلوسي في كتابه (نوستوس ... حكاية شارع في بغداد) فهو يخصص جزء كامل من الكتاب بعنوان (ضمن الدرب خارج الكرج) يتحدث فيه عن مدينة الثورة، لم يكن قرار قاسم يتضمن توزيع الأراضي فقط،  وإنما كانت هنالك خطة إعمارية شاملة هدفها توفير السكن اللائق لذوي الدخل المحدود والمتدني في كافة أنحاء القطر، وتمت دعوة مؤسسة دوكسيادس لوضع التصميم الاساسي لمدينة بغداد ومن ضمنها التخطيط الشبكي لمدينة الثورة. ثم يحدثنا الآلوسي عن الأحداث والفوضى التي تبعت هذه القرارات على الأرض وكيف أن الخمس او الست قطاعات التي كان مخطط لها تحولت الى ثمانين قطاعاً.
أما عن تصميم المساكن في المدينة الجديدة فكانت محضرة من قبل الأهالي أو من كتّاب عرائض لا علاقة لهم بالتخطيط، خرائط أمية بكل معنى الكلمة، مضحكة مبكية في بدائيتها والكلام للآلوسي، وأكثر من هذا أنها ليست حقيقية، والغرض منها آني لتمرير الطلب والحصول على قطعة الأرض ومن ثم جرى إستغلالها حسب ما يرتأيه صاحبها.
 بعد هذه الرحلة الإخبارية، نجد أن العمائر الخالدة هي عمائر لخدمة السلطة (السياسية، الدينية) أما العمائر الخاصة بالانسان البسيط فهي نادرة وإن وجدت فهي عديمة التخطيط والإكتمال والجدوى حتى.
أما عن الحاضر فنحن نعيشه يومياً ونعرف لمن الغلبة، نعرف نصيب الإنسان البسيط من الموارد والإهتمام، ولكن ... ماذا عن المستقبل؟
لا أعتقد أن المستقبل سيختلف لمن في السلطة، لن تختلف قراراته عن الماضي والحاضر...
 أما المهندس المعماري فهو أمام طريقين: أن يسير على خطى جارلس كوريا أو أن يقتدي بزهاء حديد وليس لأحد الحق أن يلومه على الطريق الذي يختاره لممارسته المهنة، ولأننا بشهر رمضان المبارك من برأيكم سيقال له الجملتين الشهيرين بحياته أو بعد وفاته؟
-رحم الله والديه والله خوش معماري.
-الف رحمة على روحه والله جان خوش معماري.









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق