الخميس، 17 سبتمبر 2015

من القصور الى الخرائب

من القصور الى الخرائب

عندما تنزل عند الغروب من (كيا) أمام مبنى إتحاد الصناعات في ساحة الخلاني، وتضطر أن تمشي حتى ساحة التحرير، فليس لك إلا أن تقضي الوقت بالتمعن في بنايات الشارع الخالي من المارة تقريباً، يرتفع نظرك أعلى المحلات المغلقة وإعلاناتها، لتجد مباني رصينة، مقنعة ومتكاملة التفاصيل، بمفردات ولغات متنوعة ولكنها ليست (نشاز) على الإطلاق.
تصعد (كيا) ثانية لتصل الى (رأس شارعك) وتدخل الفرع ببيوته الزرق ورقية.
الأيام الأولى في المنطقة، تتصيد الأخطاء في تلك البيوت القبيحة بتفاصيلها الحجرية والمرمرية، وبعدها بسنة أو أكثر تكتفي من ذلك، فتبحث عن (البزازين) أو تراقب أشجار الكينوكاربس وهي تنتشر في المكان.
ولكن بأي منطق إنتقلنا من تلك المقدمات الى هذه النتائج؟
دارت وتدور أحاديث كثيرة عن الأسباب التي جعلت المدينة زاخرة بالمباني السكنية الفرانكشتاينية، ولكني وبإجتماع عدة أحداث فكرت بسبب غريب.
إن تشوه تصاميم المساكن (على الأقل فيما يخص الواجهات) ناتج عن: قصور صدام الرئاسية وجوامعه !
وساحاول أن أفسر ما توصلت اليه بموضوعية: 
إستمعت من أساتذتي وفتحت عيني في السنوات الأخيرة للنظام السابق، على أن من صمم تلك القصور والجوامع في مختلف المحافظات العراقية، ومن نفذها أيضاً هم من خيرة المهندسين العراقيين في تلك الفترة.
أسماء معمارية بارزة شاركت في مسابقات أعدتها الجهات الهندسية المختصة لإختيار أفضل التصاميم، وبالطبع فإن كل مصمم إختار أفضل العناصر الشابة للعمل معه ضمن فريق العمل للوصول الى التصميم الأفضل.
والنتيجة هي قصور وجوامع مميزة معمارياً (نتيجة لإمكانيات المصميين، وبالتأكيد الخوف من التقصير)، ولكن الصفة السائدة في تلك التصاميم هي (المبالغة)، المبالغة في كل شئ، المبالغة في المساحات، في الحجوم، في التفاصيل، في نوعية مواد الإنشاء والإنهاء.
 والمبالغة كانت منطقية في ظل الظروف المحيطة بتصميم وتنفيذ تلك المباني.
أين المشكلة إذن؟ فالقصور والجوامع صممها خيرة المعماريين ويعيبها المبالغة فقط !
المشكلة حدثت بعد التصميم والتنفيذ... وهي بمرحلة أولى مؤثرة جداً وبمرحلتين ثانية وثالثة أقل تأثيراً.
عمل في تلك القصور أعداد كبيرة من المقاولين  والأيدي العاملة من (الخلفات) والعمال، وهناك أشخاص تعلموا مهنتهم في تلك القصور، فتحول أحدهم من عامل الى خلفة خلال فترة العمل وما بعدها.
كلاً من المشاركين، وبالتحديد من يدخل الفن في مهنته، كخلفات المرمر، الحجر، النجارين والحدادين، نفذ الكثير من الأعمال والتفاصيل في تلك القصور وهي مصممة من قبل المعماريين سابقي الذكر.
وبعد عمل أولئك الخلفات في ما يعتبرونه قمة المباني في العراق، أصابهم الغرور! وإقتنعوا أنهم أصبحوا خبراء في المهنة، لذا وبسبب ضعف قوانين ممارسة المهنة، بدأوا هم بتصميم وتنفيذ المساكن، أو على الأقل كلاً يصمم وينفذ بإختصاصه. اما تصاميمهم الناتجة فكانت إستنساخاً لما عملوا عليه في القصور الرئاسية. ولأنهم لا يملكون الخبرة الفنية، تشوهت التصاميم والتفاصيل على أيديهم، تغيرت النسب المتقنة، أضافوا وحذفوا منها حسب رغبة صاحب البيت أو رغبة الخلفة الخبير، لذا ظهرت نسخ مشوهة كمرحلة أولى، ومن ثم إزداد التشوه كلما إستمرت عملية الاستنساخ !
ولعل ذلك يذكرنا بالفلم الامريكي multiplicity  عن الرجل الذي لا يجد الوقت الكافي لإنجاز أعماله فتُعرض عليه فرصه إستنساخ نفسه، ولكن المشكلة أن شخصية النسخة تتدهور كلما إستمرت العملية!

 والأدلة على هذا القول كثيرة، ومنها ما نقله صديقي عن الخلفة (فلان الفلاني) عندما قال  له صاحب البيت أن صديقه المهندس إعترض على تفصيلة معينة، فأجابه جاسم: هذا يامهندس ؟ أني جامع الرحمن باني على إيدي !
 وأصبحت عبارة (مشتغل بقصور صدام) شهادة خبرة مضمونة.
 والإختبار الآخر للمقولة يساعدنا فيه google العزيز وهو أن نختار أي تفصيل قبيح ومشوه في تصاميم مقاولي اليوم وأنا متأكد أننا سنجد أصله الجميل في صورعمارة تلك القصور والجوامع.
وبالتأكيد هنالك نماذج سكنية ناضجة صممها نفس المعماريين وبنفس اللغة المعمارية للقصور، لشخصيات السلطة أو الأغنياء في تلك الفترة الزمنية، وهي كذلك أصبحت مصدر للإستنساخ من قبل الآخرين.
هذه النماذج الاصلية ونسخها، والنسخ المشوهة التي وضعها المقاولين، أصبحت بعد فترة تمثل العمارة المعاصرة في المدينة، وهي الحلم والرغبة لكل من يريد الشراء أو البناء! فأصبح مفهوم double volume صفة يوصف بها البيت لزيادة قيمته وقيمه ساكنيه (ونجد أن الحجوم المضاعفة موجودة في القصور بكثرة).  
لنأتي بعدها نحن الجيل الجديد ونفتح أعيُننا على مدينة مليئة بتلك التصاميم وتصبح من البديهيات التي يصعب علينا التخلص منها..
أما المرحلتين الأقل أهمية فهي مشاهدة عامة الناس لتلك القصور والإعجاب بها، المرة الأولى عندما سميت بـ(قصور الشعب) وسمح للناس بالمبيت فيها قبل الهجوم الأمريكي على بغداد، والثانية بعد سقوط النظام ودخول الناس للفرجة أو للحوسمة. ومن ثم حُرم الجميع منها ولم نعد نرى أصل عمارتنا المشوهة.

هل ماقام به المعماريين والمقاولين والخلفات يبرر لنا لومهم ونلقي عليهم سبب ما حصل؟
الحقيقة هو أن ما قاموا به يعتبر ظاهرة إجتماعية طبيعية جداً، إنتبه لها وكتب عنها إبن خلدون في مقدمته !
حيث يشير الى أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك: أن النفس أبداً تعتقد بكمال من غلبها وأنقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من إن انقيادها ليس لغلب طبيعي ، إنما لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل إعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء. ص156
 ولأن الحديث بأغلبه عن المباني السكنية (البيوت) فإن الحال اليوم مخيب للآمال، النسيج الجديد للمدينة أو النسيج المضاف على النسيج الأصلي (بعد تقطيع أغلب البيوت الواسعة) هو نتاج عمل شعبي (مقاولين وخلفات) وكذلك نتاج لأعمال المعماريين الشباب الذي تشربوا بتلك التصاميم المشوهة، أما المعماريين الناضجين من أساتذتنا (الذين كانوا سابقاً هم نقطة البداية في السلسلة) فقد خرجوا من الصورة، أما نتيجة لقناعتهم بعدم جدوى تصميم وتنفيذ المساكن في هذه الأيام، أو السبب الأغلب هو أن المهندس المعماري بصورة عامة قد فقد مكانته الى أجل غير مسمى!  فآخر ما سمعت به أن صاحب البيت عندما يكمل المهندس وضع مخططات المسكن (إذا كان هنالك مهندس أصلاً) يذهب بالمخطط الى تاجر العقارات (الدلال) ليتأكد من أن البيت سيكون (سوقه ماشي) في حالة الرغبة بالبيع بعد البناء!  لذا يدلوا الدلال بدلوه ويغير ما يحب تغييره و(الله يستر من النتيجة).
 ونعود الى تبرير ذلك كسلوك إجتماعي تقليدي، فنحن نسمع سابقاً مقولة (يالمشتري جنك بايع) أي عندما نشتري سلعة فيجب أن نتأكد إنها سهلة البيع مستقبلاً لتصبح المقولة اليوم (يالباني جنك بايع) ! والحالتين تمثلان إنقلابة في فكر التملك الإنساني، أي ليس من الصحيح أن نشتري أو نبني بيتاً يلبي رغباتنا وأذواقتنا الخاصة بل يجب أن نشتري ونبني حسب أذواق الأخرين !!!
وبعد كل ما سبق ... ماهو الحل ؟
هنالك طريقين ... الأول تنظيم المهنة وسيادة القانون وهو ما غسلنا إيدينا منه بـ(سبع قوالب صابون).

والثاني التعلم من الماضي ودراسة الطرف الأخر في الصراع بدقة (طريقه تفكيره، رغباته وسلوكه المتوقع) ومن ثم التعامل معه بذكاء عن طريق توجيهه بالاتجاه الذي نريده نحن. (بما أننا خبراء في كشف نظرية المؤامرة، لماذا لا نستخدمها لمصلحتنا؟)
ما نعلمه الآن أن الآخرين وحتى المعماريين يميلون لتقليد الغالب المسيطر أو صاحب السلطة، ويجب القول ان للسلطة أنواع، فهي سلطة سياسية، مادية، إعلامية....
لنقرأ السطرين التاليين ونغمض أعيننا ونتخيل:
ماذا لو إستطاع شخص غني أو يمتلك علاقة مباشرة بالمعمارية زهاء حديد، من إقناعها بتصميم بيت له في مدينة بغداد وليكن بمساحة 100 أو 200 متر مربع حتى ؟ ومن ثم نفذ هذا البيت على أرض الواقع.
هل تخيلتم؟
سينتشر الخبر وصور المسكن على صفحات التواصل الإجتماعي ويتداول صوره المختصين وغير المختصين وأنا متأكد أن الدلالين سيقومون بوصف أي بيت يريدون بيعه بـ (بيت يعجبك صاير بالفرع مالت بيت زهاء حديد!) أو (ترة بينة وبين بيت زهاء حديد فرعين بس!).
لذا أعتقد أننا بحاجة الى مسكن يصممه معماري ذو هالة مجتمعية، لتساعد سمعته الشخصية على إنتشار تصميمه بين الناس ولعل زهاء حديد هي الشخص المناسب في هذه الحالة.
ولتحقيق ذلك نحن بحاجة الى مؤسسة توفر المال أو أفراد متمكنين يساهموا في مشروع تحسين تصاميم المباني السكنية. فالأهم هو وجود نتاجات على الأرض تحسن الذائقة وليس كلامي هذا أو البحوث والندوات والمؤتمرات. لأن كلام المختصين لن يصل الى عامة الناس أو الطرف الآخر في الصراع.  

ولكن ما عن تشويه تصميم زهاء عند الاستنساخ؟ هل يجيد المقاولين استنساخه بطريقة مناسبة وبدون إجتهادات عبيطة؟
لا أعتقد ... لا يمكننا أن نضمن سلامة التصميم أبداً ..


إذن فهذه الفرضية للحل غير صحيحة ! ونحن بحاجة الى فرضيات أخرى أكثر كفاءة.












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق