زهاء حديد وطلبة العمارة
المشهد الأول:
في عام 2007، كان مشروع تخرج مجموعة من طلبة المرحلة الخامسة
في قسم هندسة العمارة تصميم مخطط معاصر للجامعة التكنولوجية وتصميم أبنية أقسامها
ومراكزها وبما يتناسب مع خططها التطورية، وكانت مهمة إحدى الطالبات تصميم مبنى قسم
هندسة العمارة، وفي إحدى مراحل تقديم المشروع كانت التكوين الشكلي لتقديم الطالبة
يمتلك من السمات الشكلية شبهاً لمشاريع المعمارية الراحلة زهاء حديد وهو ما التقطه
الطلبة والاساتذة وأصبح حديث اليوم، الملفت والمثير للانتباه حالياً، إنزعاج
الطالبة الشديد حينها وحتى بكاءها لأنها أحست باتهامات غير مباشرة لها، بكونها قد
اقتبست او نقلت المعالجات الشكلية للمعمارية الراحلة !
المشهد الثاني:
في اللقاء الاول مع طلبة
المرحلة الاولى في قسم هندسة العمارة بداية العام الدراسي، يطرح الكادر التدريسي
سؤالاً يتردد كل عام، والسؤال الموجه لكل طالب على حدة:
ما الذي دفعك لإختيار تخصص
هندسة العمارة دوناً عن الاختصاصات الأخرى؟
وعلى الرغم من طبيعة نظام
القبول المتبع من قبل وزارة التعليم العالي، فقد أجابت إحدى الطالبات، بأن رغبتها
إنطلقت من قراءتها عن المعمارية الراحلة في كتاب اللغة الانكليزية للصف السادس
الاعدادي وإعجابها بما حققته من مشاريع معمارية وشهرة عالمية.
المشهد الثالث:
في إحدى محاضرات مادة التصميم المعماري للمرحلة الاولى
اتجهت المحاضرة نحو الحديث عن المعمارية الراحلة لضرب الامثال وتحليل مشاريعها
المعمارية، الملفت أيضاً هنا أن السياق العام للحديث وتفاعل الطلبة لم يقترب من
كونها غادرت هذه الحياة وتوقفت منجزاتها، كانت سيرتها تأتي وكأنها لا تزال حاضرة
ومؤثرة ! لم يفكر أحد بالقول : الله يرحمها ...
المشهد الرابع:
في المنهج الدراسي لمادة التصميم المعماري في المرحلة
الأولى لهذا العام، على الطالب أن ينتخب مجموعة من المشاريع (المباني) المعمارية
الناضجة، والمصممة من قبل معماريين ذوي خبرة وتوجه واضح، ومن ثم تحليل تلك
المشاريع شكلياً انطلاقاً من المعرفة المعمارية التي توفرها المصادر المعتمدة
والتي تعمل على تحليل التكوين المعماري الى عناصر شكلية أولية ومن ثم علاقات تجمع
تلك العناصر لتحقيق مبادئ تحقق وحدة التكوين الشكلي.
والمثير هنا هو حالة الارباك التي عاشها الطلبة ... فبين
وفرة صور مشاريع زهاء حديد على شبكة الانترنت وشهرتها المحلية والعالمية وبين رفض
الكادر التدريسي لدخول مشاريعها ضمن النظام التحليلي للطالب... وكانت تفسيرات
الكادر التدريسي بأن مشاريع زهاء حديد أشبه بالمقطوعات الشعرية المبدعة وعلى طلبة
المرحلة الاولى تعلم القراءة والكتابة أولاً ومن ثم التوجه نحو قراءة وكتابة الشعر
في مراحل متقدمة أخرى.
|
عمل للطالب أمير أكرم - المرحلة الأولى |
المشهد الخامس:
في البرنامج الكوميدي العراقي (ولاية بطيخ) كانت مهمة
(زوج جنان) أختيار شخصية نسائية عراقية شهيرة ليضرب بها المثل، فعندما تقول جنان
أن أختها تتفاءل بالولادة في بيتها يعترض هو قائلاً:
-
(مو أول طفلة جابتهة عدنة طلعت زهاء حديد) !!
المشهد السادس:
في مشاريع طلبة هندسة العمارة لمادة التصميم المعماري
ولأغلب المراحل، أصبح الطلبة يتجهون بوضوح نحو إستخدام المعالم الشكلية التي
إعتادت المعمارية الراحلة أستخدامها في مشاريعها حول العالم، وأصبح هنالك تسمية
لذلك التوجه الشكلي وهي : أشكال زهائية أو زهائيات!
الحوار:
يصف المعمار الايطالي رينزو بيانو دوره كمصمم معماري
رائد بقوله:
إن عمارة رينزو هي كيف أربط هذا بذاك ...
وفي وقتنا
الحالي الممتلئ بالظواهر والمعارف والتجارب، يصبح أهم ما نقوم به هو ايجاد الروابط
بين كل ما سبق، وفي المشاهد الستة الكثير من الدلالات الاجتماعية والمعمارية
الواجب استكشافها وربطها:
يمثل سلوك
الطالبة في المشهد الأول نقطة انطلاق علاقة طلبة العمارة بالمعمارية
الراحلة، كان استخدام شبكة الانترنت لا يزال متوسطاً، وحتى ذلك العام 2007 كان
الكثير من المشاريع المميزة للراحلة لم تنجز بعد، ولم تكن وسائل الاعلام العراقية
وحتى العالمية قد تناولت المعمارية ومشاريعها بكثرة، لذا فان رد فعل الطالبة
السلبي ناتج عن مقارنتها لسلوكها مع سلوك بعض طلبة في أختيار مشروع لم يطلع عليه
الآخرين (مشروع خفي) والاستفادة من حلوله المعمارية ومن ثم نسب التصميم لأنفسهم،
وهو سلوك مهني ودراسي مرفوض بالتأكيد في تلك الفترة.
يجب أن نمتن في
المشهد الثاني لمن أضاف الحوار مع زهاء حديد لكتاب اللغة الانكليزية، والسؤال
الأهم في الحوار والذي يفهم إجابته طلبة المرحلة الاعدادية أكثر من اجابات الاسئلة
الاخرى هو:
-
هل يستطعن النساء العراقيات أن يكن ناجحات في مجال عملهن
دائماً كالرجال؟
لنتخيل تأثير الإجابة على الشابات العراقيات بالتحديد:
-
نعم تستطيع كل أمرأة أن تكون ناجحة في مجالها إذا عملت
بالجهد الكافي.
لنجد أن النسبة الأكبر من المعدلات النهائية
المرتفعة هي للطالبات على حساب الطلبة الذكور وبالتالي ارتفاع عددهن في المرحلة
الأولى لاقسام الهندسة المعمارية في العراق.
فالحوار يحفز أحلام الطالبات في العمل والنجاح في سياق مجتمع
يوفر الكثير من الفرص للرجال على حساب النساء ...
هل يذكرنا المشهد
الثالث بملحمة عراقية؟
في طريق عودة
كلكامش الى أوروك وقبل أن يجرب عشبة الخلود السحرية التي حصل عليها، كان يغتسل في
النهر، فسرقت إحدى الأفاعي العشبة وتناولتها فرجع كلكامش الى المدينة خالي اليدين
... وعندما إقترب من أوروك شاهد السور العظيم الذي بناه حولها، ففكر في قرارة نفسه
أن عملاً ضخماً كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد أسمه الى الأبد...
فهل هنالك أفضل من زهاء حديد ومنجزاتها كمثل معاصر لتلك
الملحمة العراقية الشهيرة؟
في المشهد
الرابع يتضح لنا ضرورة التعامل بوعي مع ظاهرة المعمارية الراحلة ومشاريعها، فليس
من النافع تقديس تلك المشاريع واعتبارها قمّة ما نحلم بتحقيقه في بيئاتنا المحلية،
فهي مشاريع نابعة من فكر معين وملائمة لأماكن معينة ولأغراض معينة أيضاً.
في جميع الظواهر العالمية وفي شتى المواضيع
يتوجب علينا سماع طرفي القضية أو الصراع، وفي مقابل التمجيد لمشاريع المعمارية
الراحلة يتوجب علينا سماع أراء معماريي الأرض أو أصحاب الارض التي تشيد عليها تلك
المشاريع ... يتحدث الدكتور هشام جريشة في كتابه (الابداع الانشائي .. إبداع
منطقي) عن تصميم زهاء حديد لمشروع أرض المعارض في مصر:
-
لقد أبديت تحفظي على التصميم، فهو لا يتوافق مع البيئة
المحيطة بالمشروع، إن المعماري النبيل هو من يراعي ثقافة المكان ويطورها ...
وفي المشهد الخامس يمكن رصد إنتقال المعمارية
الراحلة ومشاريعها من فكر وذاكرة المختصين بالعمارة الى الفكر والذاكرة الشعبية
فالبرنامج يمثل حديث الشارع وشخصياته الطبيعية، ولكن هذه الانتقالة لم تنفصل عن ظاهرة
انسانية مؤسفة وهي زيادة شهرة الفرد المبدع بعد وفاته!
كان من الممكن القيام باستبيان في الشارع العراقي عن مدى
معرفة العامة لزهاء حديد، مرة قبل وفاتها والأخرى بعد الوفاة .. وأعتقد أننا نعرف
نتائج الاستبيان...
جميع ارتباطات المشاهد الخمسة تصب في المشهد السادس...
مكانة زهاء حديد ومشاريعها لدى طلبة العمارة الحاليين، فمن مراقبة مشاريع تخرج
طلبة المرحلة الخامسة وتصنيف المشاريع التي اعتمدت في تكويناتها على الاشكال
هندسية المنتظمة كعناصر لخلق حلولها المعمارية والمشاريع التي اعتمدت الاشكال
العضوية في خلق تلك الحلول المطلوبة ... وأعتقد أننا نعرف نتائج التصنيف أيضاً.
فقد أستقرت فكرة لدى الطلبة بأن انتاج مشاريع معاصرة
والحصول على تقييمات مرتفعة لا يتحقق الا باستخدام الاشكال العضوية المقاربة
للاشكال المستخدمة في مشاريع زهاء حديد.
هل هذه الفكرة مناسبة؟ وهل هنالك حاجة لتصحيحها؟
وأخيراً يمكن من دراسة المشاهد الستة تمييز تفاعلنا مع
ظاهرة المعمارية الراحلة وكيفية الانتقال من بكاء الطالبة لوصف مشروعها متأثراً
بزهاء حديد الى تأثر جميع الطلبة بمشاريع زهاء حديد. ويمكن أن نضع الخطط أيضاً لكيفية
التعامل مع ظواهر معمارية قادمة.
رحم الله زهاء حديد واسكنها فسيح جناته ...
ولنتخيل زهاء حديد وهي تسكن الجنة كيف ستقضي الوقت هناك؟