معمار خلف القُضبان
"ياما في الحبس مظاليم"، فرضية مصرية شهيرة، ويزيد من شهرتها
الإعتماد عليها في (أغلب) بل حتى قد يصُح القول في
(كل) الأعمال الأدبية والفنية التي تدور أحداثها داخل السجون حول العالم. وقد يكون جميع السجناء مظلومين في رواياتهم الخاصة.
القضية هي أن مبنى السجن يمتاز مع مجموعة قليلة أخرى من المباني بأن تجربة
زيارته ومراقبة إستخدامه نادرة من قبل المعماريين، ولا نتمنى ذلك للجميع بالتأكيد،
لكن تجربة تصميمه هي تجربة شرعية قد يتعرض لها أيّ منا في يوم من الأيام.
تصبح التجسيدات التي نقرأها ونشاهدها لنظرية البراءة السابقة هي البديل
المعرفي لخلق موقفنا اللاواعي من شخصية السجين وشخصية السجّان ومبنى السجن الذي
يؤطر العلاقة بين الطرفين.
قرأت قبل سنوات عديدة رواية (الساعة الخامسة والعشرون) للكاتب الروماني
قسطنطين جورجيو، وقد غردت على تويتر حينها "إن تجربة السجن هي أقسى تجربة
حياتية يمكن أن يمر بها الإنسان". وبينما كان أيوهان البطل شاب ريفي يعمل في
منزل وحديقة القس كوروغا، ظهرَ في عالمي سجين آخر، ولكنه مهندس إنشائي هذه المرّة
وإسمهُ مايكل سكوفيلد.
نعم، لقد كتبت إسمه من ذاكرتي مباشرة دون الرجوع الى الشبكة كما فعلت مع
أيوهان موريتز، وذلك بسبب الأيام الطويلة التي عشتها وعاشها الكثير مع حلقات مسلسل
(Prison Break) بمواسمه الخمسة. قبل الموسم الأخير
الذي لم أشاهده كانت الأمور مختلفة عن الآن، كنت أنتظر الموسم بفارغ الصبر، ثم أذهب
لشراءه على شكل أقراص DVD، قبل أن
يعرض على شاشة MBC Action.
لم يكن سكوفيلد مظلوماً بالتأكيد، فقد دخل السجن بقضية إقتحام أحد المصارف
مسلحاً، لكن ليس للسرقة وإنما لدخول السجن عمداً بعد أن وثقه بالحبر على جسده،
والهدف هو تهريب أخيه المظلوم.
ما أضافهُ المسلسل لقصص الهروب هو تخصص السجين الهندسي وإمكاناته الذهنية
وتصميمه لمبنى سجن (Fox River)
بالتحديد. كان يتعامل
بمعرفة الخبير مع العناصر المعمارية والإنشائية والخدمية لمبنى السجن والتي شاركته بطولة
القصة المثيرة. تلك العلاقة الدينامية زادت من معرفتنا لكيفية تصميم السجن والهدف
من وراء تفاصيله ووظيفته الرئيسية. وقد نتساءل الآن كيف لمهندس إنشائي أن يصمم سجن
كما يقول سكوفيلد لأخيه واثقاً!
يأتي دور الإشارة الى ضرورة الوعي أن تجربة المشاهدة تلك هي لعمل فني مشكّل
باسلوب درامي لتحقيق متعة وجذب المشاهد، هو يستند على الواقع في الكثير من
التفاصيل بلا شك ولكنه الواقع الأمريكي، واقع التقنيات المتطورة ومراعاة حقوق
الإنسان والقضاء المستقل كما نسمع ولم نجرّب.
ماذا عن واقعنا العراقي؟
نقرأ كتاب (جدار بين ظلمتين) للمعمار رفعة الجادرجي وزوجته بلقيس شرارة
ويعتصرنا الألم. معمار متفرّد بإسلوب حياة تمثّل قمّة الهرم الإجتماعي العراقي
حينها يوضع في زنزانة بعرض متر وسبعين سنتمتراً وطول مترين فقط وهو خامس أربعة
مساجين آخرين حشروا فيها، وكانت هذه البداية فقط.
أصبحت على يقين عراقي هذه المرة بأن تجربة السجن ظلماً هي أقسى ما يمر به
الإنسان ويؤدي الى تشوهات نفسية دائمة، قد يكون من آثارها ما يصرح به الدكتور علي
ثويني قائلاً: "وكان مكيّة أنشط كثيراً من الجادرجي الذي توارى وأنزوى عن
الحياة العامة خلال عقود!"
يصف الجادرجي شهور الحبس العشرين بالتفصيل، العناصر المعمارية المحيطة به،
الشخصيات الساجنة والمسجونة، حواراته الداخلية وكيف إنتقل من سجن المخابرات الى
سجن أبو غريب الشهير.
بالمقابل تصف زوجته الحياة الإجتماعية والسياسية في بغداد نهاية السبعينات،
الظلم والخوف الذي أدى الى تشوهات جماعية وليست فردية. قد يكون الخوف ذاته سبباً لعدم
حضور فكرة الهروب وكافة صياغاتها اللغوية في صفحات الكتاب الأليم.
لا أعتقد أن الجادرجي لم يفكر في أيامهِ الطويلة بكيفية الهروب من ذلك
السجن البغيض، ولكنه لم يحاول ولم يُفكر أن يحاول خوفاً على أفراد عائلته خارج أسوار
السجن وأمله بالخروج سريعاً بسبب تفاهة تهمته ومكانته الإجتماعية. إختار أن ينقل
جزء من عالمه الخارجي المسموح به الى الداخل، القراءة والكتابة.
مغامرة الهروب من سجن أبو غريب نفذها فعلاً الوزير السابق الدكتور حسين
الشهرستاني عام 1991 كما نقرأ في كتابه (الهروب الى الحرية)، وبعد 2003 إنتقلت إدارة
السجن الى القوات الأمريكية وأصبح يوماً متصدراً للأخبار العالمية، ثم عادت إدارته
الى الجهات العراقية ليحدث الهروب الكبير عام 2013.
مايصفه الجادرجي في يوميات سجن ابو غريب يقترب كثيراً وبغرابة مع يوميات
السجناء السياسيين في السجن العمومي في مدينة سانتياكَو الذي يعرضها الفلم التشيلي (Pacto de Fuga) أو (Jailbreak Pact)
بالانكليزية. الفلم إنتاج عام 2020 ومستوحى من أحداث حقيقية حصلت بين عامي 1988-1990
أي بعد عشر سنوات تقريباً من أحداث الجادرجي وقبل سنة عن أحداث الشهرستاني.
بطل الهروب في الفلم )مهندس/ معمار) أيضاً، ويخطط مع مجموعته لحفر نفق بطول 60
متراً ويخبئ 55 طن من مواد الحفر دون أن ينتبه لذلك أحد. وهم مظلومون أيضاً في
رواية الفلم الطويل.
بعد كل هذه التفاعلات العاطفية مع السجناء وتشويق البحث معهم عن منفذ
للهروب، كيف سنتعامل مع تصميم السجن لو بدأنا بتصميمه؟ هل سنكون مع طرف السجّان
الذي يحاول بكل الطرق منع السجناء من الهرب والتضييق عليهم؟
لكن أليس هذه هي وظيفة السجن؟ إبعاد المجرمين عن بقية أفراد المجتمع
ومحاولة إصلاحهم.
يجب أن نعي هنا أيضاً التمييز بين أنواع الجرائم الموجبة للسجن في القصص
السابقة وفي الواقع، الجرائم الجنائية التي لا يُختلف على خطورة مرتكبيها وضرورة
معاقبتهم، والجرائم السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية.
حُكِم الجادرجي بجريمة إقتصادية (عدم التعاون مع شركة أجنبية في تقديم عرض
الى الحكومة العراقية فأدى ذلك الى خسارة العراق عنصر المنافسة وخسارة إقتصادية، ويعتبر
ذلك تخريباً إقتصادياً وخيانة عظمى بحق العراق). وحُكم على أبطال الفلم التشيلي
الحقيقيين بجريمة سياسية لمعارضتهم نظام الحكم الدكتاتوري آنذاك.
هل سيُفكر المعمار بالمظاليم في سجنه أم سيعتبرهم جميعاً مجرمين؟ هل سيَغلق
عليهم جميع الطرق أم يترك منفذاً خفياً ليكتشفه أحد السجناء الأذكياء أو
المعماريين؟
لماذا لا يُوضع مشروع السجن ضمن
البرامج التعليمية الأكاديمية؟ ولماذا لا يَشيع إنتخابه كمشروع للتخرج؟ قد يُجيب
الاساتذة على السؤال الأول بأن المشاريع الأحق بالدراسة هي المشاريع الشائعة التي
سيواجهها الطالب بنسبة أكبر في ممارسة المهنة: المساكن، المدارس، الفنادق،
المستشفيات وغيرها. لكن هل هذا هو معيار الإنتخاب المناسب؟ أم ننتخب المشروع
الأكثر إثارة للنقاش والجدل لتنمية صناعة الرأي لدى المعمار وبالتالي كيف يؤثر
موقفه على قراراته التصميمية؟
أما إجابة السؤال الثاني فهي بحث الطالب عن المشاريع الإستعراضية ذات
الطاقة الجمالية، فنتساءل، لماذا لا يكون مبنى السجن جميلاً؟ صحيح، لا يمكن ذلك
لأن السجين سيكون مرتاحاً ولن يشعر بالذنب على ما إقترفه من جريمة شنعاء.
لماذا لا نتعلّم صناعة القُبح والخوف وخلق الإحساس بالذنب؟ زيادة على كيفية
التعامل مع الجوانب الإقتصادية والبيئية، فالسجن مبنى مستَهلِك للموارد أكثر من غيره، كيف نجعله
صديقاً للبيئة منتجاً للطاقة؟
نعلَم أن أحداً لن يُنفذ تصاميم الطلبة للسجون المعاصرة (كغيرها من المشاريع)
ولكنها تمثل تحديات فكرية مميزة لبناء شخصية طالب عمارة واعيٍ بالقضايا الجدلية للإنسان
المعاصر.