نافورة ساحة الحرية
من الصعب ضمان
صحة الحكم، ولكن من تجربتي الشخصية " نحن أصحاب أسوء خدمة للمطاعم في
العالم" لم أشعر يوماً بالدلال في أي مطعم ذهبت اليه، لم أذهب الى مطعم
معين وأعود مرة أخرى بحماس لأكرر تجربتي الممتعة فيه، يستثنى من ذلك "صاج
الريف" لمحافظته على جودة طعامه، مع تواضع نوعية الخدمة والعناية بالزبون.
ولكن هل الأمر
ينعكس على كل أنواع الخدمات وأصحاب المحلات؟ هل يفتقد الجميع لفن وثقافة البيع؟ أم
الأمر مرتبط ببيع المأكولات فقط؟
في شهر رمضان قبل الماضي ذهبت مع خالي الى مثلجات
الفقمة، وبعد الإطلاع على قائمة الأنواع، قررنا طلبنا، وصلت الى موظف الكاشير (إذا
تمنيت أن يبتسم بوجهي هل تعتبر الأمنية مبالغ فيها؟)، قلت له: ثنين Italian chocolate ... أرجع لي
باقي المبلغ مع ورقة الطلب وقال: كُلة ثنين جوزي !
ولأن المقاعد ممتلئة بالناس، عدنا الى إحدى حدائق ساحة الحرية الثلاثة ... كانت ليلة ممتعة لم
أشهد مثلها منذ زمن، تدفع (النافورة) المياه الى الأعلى فيدفع الهواء الرذاذ علينا،
نجلس وسط مساحة خضراء، نتطلع الى الفضاء المفتوح حولنا وتتنوع المشاهد بحركة الناس
والسيارات، لنتسامر حتى منتصف الليل.
التجربة أعجبت خالي أيضاً، فدعى بعد عدة أيام صديقه
وأطفاله الثلاثة، وبعد تناول المثلجات وشراء مياه الشرب، وصلنا الى (نافورتنا)، لا
أتذكر بالتحديد من أين جاءتني الفكرة ! أعتقد أنني قلّدت طفل قريب منا، ثقبت سدادة
قنينة المياه بقلم في جيبي لتتحول الى رشاش للمياه عند الضغط عليها، جلس خالي
وصديقه بعيداً وأعتقد أن الجميع يعلم بعدم وجود حدود عند اللعب مع الاطفال، بدأنا
برشة خفيفة على الوجه لأعود الى البيت وأنا مبتل تماماً.
هذه السنة ولعلاقتي السيئة مع المطاعم والكافيهات دعوت
أصدقائي لجلسة ساحة الحرية المجانية، التقينا بعد الافطار ومشينا بإتجاه المكان
الموعود.
كنت قد رأيتها سابقاً ولكن من زاوية أخرى، شاشة إعلانية
عملاقة، تعطي ظهرها لفضاء الساحة وتهيمن عليه، لتعرض لسائقي السيارات القدرة
العلاجية لحب السفايف والدكتورة رفيف الياسري! ولكن كيف تعمل هذه الشاشة عند
أنقطاع التيار الكهربائي؟ مولدة ضخمة تقع خلفها وهي مغطاة بقفص حديدي ثقيل بصرياً.
وكما كان الحكم على خدمة المطاعم غير دقيق، هذه المرة أقول إن عدم تشغيل النافورة
هو لقرب الشاشة منها والخوف عليها من البلل (يجب أن أتاكد لاحقاً من هذا)، ولكن
الخلاصة ... لم نجد رذاذ النافورة ولا
الفضاء المفتوح، وبدلاً عن ذلك وجدنا الاطفال الذين يستعطون النقود من السيارات في
الاشارات الضوئية وهم منتشرين في الساحة وعند النافورة بالتحديد يتشاجرون ويتنمرون
على بعضهم، يرمون (نعال) أحدهم ليُجبر على السباحة في مياة النافورة الآسنة
لإستخراجه. ضوضاء المولدة وأصوات محركات
السيارات الامريكية التي يتفاخر بها
أصحابها بين فترة وأخرى. وبالإضافة الى دخان تلك المحركات ودخان مولدة الشاشة
الاعلانية، يأتي دخان الآراكيل التي إحتل مدخنوها ثلث مساحة الحديقة الباقية.
قد يكون وصفي للفرق بين حالة الساحة السابقة والحالية
مبالغ به، قد تكون نظرة معمارية حالمة غير واقعية، أو نتيجة لنظرتنا المسبقة عن
التقصير الدائم لأمانة بغداد، او بسبب إشتياقي لخالي أو حتى كتابتي للنص قبل موعد
الإفطار!
ولكنني أقرأ في ما سبق إشارات، إشارات عن حالة المدينة
الحالية والمستقبلية، هيمنة رؤوس الأموال على المجتمع، إذا أردت أن تستمتع في
المدينة، يجب أن تذهب لأحد المطاعم أو الكافيهات المنتشرة في مناطق معينة، تلتقط
عدد من الصور تخبر أصدقائك أنك هناك، تدفع الفاتورة المقدسة وتعود الى أهلك. أما
صاحب سيارة الأجرة إذا أراد أن يُمتّع عائلته في المدينة، يجب أن يجلس تحت اللوحة
الاعلانية التي تذهب وارداتها لنفس الطبقة الاقتصادية التي تمتلك المطاعم.
سوف تفتقد بغداد للفعاليات الترفيهية المجانية أو حتى
مقبولة الأسعار، لن تشعر الطبقات المجتمعية المتواضعة مادياً بالراحة النفسية، لن
تتعرض لجمال الطبيعية، فتفقد القدرة على تذوق الجمال، تفقد القدرة على إنتاج
الجمال، ولأن تلك الطبقات تمثل نسبة كبيرة من سكنة المدينة، نعود نحن بالعتب عليهم
في وقت لاحق! لماذا لا يملكون ذوقاً فنياً؟ لماذا ينتجون عمارة قبيحة؟ لماذا لا
يحافظون على جمالية المدينة؟
ماذا يمكننا العمل من موقعنا الأدنى؟ هل بإمكاننا
المشاركة في حل مشكلة هيمنة المادة؟ هل نقاطع تلك المطاعم والكافيهات؟
لا أعلم، لو سمع أحد أصحاب المطاعم كلامي هذا لقال: زعلة العصفور على بيدر دخن !