ثلاثية نيسان
عنون المفكر
عبد الله القصيمي كتابه بـ:(العرب ظاهرة صوتية)، عنوان مكثّف بثلاث كلمات وبتعبير
مبتكر جداً يعطي صورة وافية عن فكرة الكتاب ومحتواه. يتردد صدى العبارة هذه بين تلافيف
العقل فتحفز موسيقاها تعابير معمارية قد تختلف في المعنى تماماً ولكنها تقتبس
التكثيف واللحن. ثلاث صفات لظاهرة العمارة توضحت في شهر نيسان الحالي، لتتشكل
كعبارات نسبية افترض صحتها في حالات معينة وقد تنتفي في حالات أخرى.
العمارة ظاهرة بصرية:
نتحدث دائماً
عن ضرورة التمييز بين الجانب الاكاديمي للعمارة والجانب العملي التطبيقي، الاول
تختص به اقسام تعليم العمارة والمراكز البحثية والثاني يمارسه طالب العمارة بعد
نيله لشهادته وحركته بين الدوائر الهندسية للمؤسسات الحكومية والشركات والمكاتب
الهندسية.
وطلب التمييز هنا ليس بمعنى انهما منفصلان، ولكن تمييز
متطلبات كل منهما، أما العلاقة بينهما فهي علاقة شائكة، فالمفترض ان تصب جميع
المعارف التي ينالها طالب العمارة اكاديمياً في الجانب العملي بعد التخرج ولكن ما
يحصل هو ان كل مؤسسة تعليمية وكل منهج دراسي يستطيع ان يحقق نسبة من هذه الفرضية
وليس 100% منها.
نعم العمارة في الجانب الاكاديمي ظاهرة بصرية، فطالب
العمارة عندما يعمل على صناعة الجمال فهو يرسم او يخطط وعندما يعمل على الوظيفة فهو
يخطط، عندما يعالج قضايا الضوضاء مثلا فهو يخطط، عندما يعالج قضايا الروائح في
المبنى الذي يصممه فهو يخطط، وعندما يحدد خامة انهاء معينة ملساء او خشنة طبيعية او
صناعية فهو يخطط، وعندما يعمل على متانة مبناه فهو يخطط ايضاً.
فالحاسة الانسانية التي تستقبل جميع القرارات التصميمية
بمختلف انواعها هي حاسة البصر، رؤية تلك المخططات على الورق او على الشاشة. فلن
ينفذ تصميم طالب المرحلة الثانية او الثالثة ولن نستطيع الحركة بين جدرانه
لاستقبال الاصوات داخله بحاسة السمع او شم روائح النباتات الموجودة في حدائقه ولن
نلمس خامات انهاء الجدران والارضيات.
يردد اساتذة العمارة عبارة خالدة نسمعها دائماً:
(المعمار يرسم لا يكتب) أو المعمار يرسم لا يتكلم، فعلى طالب العمارة تحويل كل
مايفكر به من افكار الى مخططات اولية او نهائية لانها الطريقة الوحيدة لايصالها
الى عملائه وهم اساتذته وزملائه في الدراسة.
قد يبدو ان ما سبق من البديهيات، نعم نعلم انها ظاهرة
بصرية ولكن المثير للاهتمام هو مدى حساسية عين المختص بتدريس العمارة، يستطيع ان
يلتقط تفاصيل بسيطة جداً وقد تكون غير مرئية وغير محسوسة من الآخرين وبالتالي تؤثر
على تقييمه لجودة او سوء التصميم امامه.
تؤثر على بصره دقة نسب الاشكال، علاقاتها ودرجة الوانها،
سمك الخطوط، نوع خط الكتابة والكثير الكثير من التفاصيل الصغيرة والتي بمراعاتها
جميعاً من قبل الطالب سينال التقييم الاعلى من ذلك المختص الحساس بصرياً.
العمارة ظاهرة حجمية:
واحدة من طرق
زيادة العلاقة بين الجانب الاكاديمي والعملي هي زيارة مواقع بناء المشاريع
المعمارية او زيارة الابنية المنجزة سواء كانت أبنية معاصرة او ماضية. نزور تلك
المواقع لنستخدم جميع الحواس في رؤية وادراك العمارة وليس حاسة البصر فقط.
زيارتي الاخيرة كانت لموقع انشاء مدينة الالعاب المائية
المغلقة في بغداد وقد كانت بحق تجربة ممتعة.
لقد كنت منبهر جداً بالحجم الهائل للفضاء المغلق الحاوي
للالعاب المائية العملاقة، والفضل يعود بالتأكيد للـ (space frame) كنظام
انشائي له القابلية على تسقيف هذا الحجم وبأقل عدد ممكن من الاعمدة للحفاظ على
استمرارية الفضاء.
وبعد العودة من الزيارة وتأمل نتائجها غردت بالعامية
قائلاً: (المعماري يتداين من فضاء رب العالمين)، وحينها تخيلت لو ان ذلك الفضاء لم
يكن مسقفاً فضاء لحديقة واسعة او فضاء لصحراء قاحلة، هل سيبهرني ايضاً كما ابهرني
الفضاء المغلق العملاق؟ هو ذات الفضاء في كلا الحالتين، ولكن احدهما مبهر والآخر
غير مبهر والسبب هو الغلاف، الغلاف الذي انشأه الانسان.
ماذا لو دخلنا غرفة بابعاد 6x6 مثلا كفضاء
مغلّف فهل ستكون مبهرة ايضاً؟ بالتأكيد لا.. فسبب الابهار هو تحدي تغليف هذا
الفضاء الواسع، هو الحل التكنولوجي الممتع الذي نقرأ عنه دائماً ونشاهده صورياً
على الشبكة ولكنننا لم نقف تحته سابقاً.
نعم العمارة ظاهرة حجمية، فدور المعمار هو الاستعارة من
فضاء رب العالمين وتغليفه لصناعة حجم معماري قد يكون حجم بمقياس انساني مألوف يمثل
مساكننا التي نعيشها باستقرار وراحة نفسية او بمقياس غير انساني عملاق غير مألوف
يسبب الرهبة والانبهار.
العمارة ظاهرة فردية:
وفي نفس السياق الاكاديمي تتم عملية تقييم مشاريع الطلبة
وفق ثنائية جدلية:
(الالتزام بالتعليمات الموحدة على جميع الطلبة : تميّز
تصميم الطالب عن بقية اعمال زملائه)
فبعد حضور الطلبة محاضرة التصميم كمجموعة وتلقي المعرفة
المعمارية وخوض النقاشات يعود طالب العمارة الى فضاءه الفكري والفيزياوي الخاص، يستذكر
جميع ماسبق وقد يتزود بمعلومات من مصادر آخرى ويبدأ بصياغة استنتاجاته ورؤيته
الفردية الخاصة لجميع ماسبق. بهذا السيناريو نستطيع ان نضمن التمايز الواضح بين
اعمال الطلبة في الصباح التالي لأن كل طالب بالتأكيد يستوعب ويفكر ويصمم بطريقة
مختلفة، فتتصف الاعمال مجتمعة بمتعة التنوع وتعكس بدقة سمات مصمميها.
كل ما سبق قد تعرض للتهديد مع ظاهرة جديدة نسبياً وأخرى
قديمة نسبياً أيضاً:
الاولى، التواصل الدائم على الشبكة بمواقعها المتعددة
بين طلبة المرحلة الواحدة، لا احد ينكر فوائد ذلك التواصل وتشارك المعرفة والذي
يمثل العامل الحاسم بالانتقال من التعليم التقليدي السابق الى التعليم المعاصر،
ولكن مع ذلك على الطلبة وضع حدود لذلك التواصل خاصة مع البدأ بعملية التصميم،
والسبب هو ان الزملاء قد يقتلون فكرة ناجحة ولدت لدى زميلهم وذلك لقلّة خبرتهم او
سوء فهمهم للموضوع المستهدف، فيرونها فكرة غير ناجحة ويدفعون الطالب المعني
لخسارتها. فالتواصل الدائم سيعيق التميّز الفردي للطلبة وتبدأ الافكار التي قد
تكون خاطئة او مغلوطة غالباً بالانتشار بين الجميع ليأتي التقديم صباحاً فاقداً للتنوع
والمتعة والتقييمات العالية.
الظاهرة الثانية هي ظاهرة السكن المشترك للطلبة، ونتيجة
للملاحظة العلمية (معمارياً واجتماعياً) فان تلك الظاهرة ذات نتائج سلبية على
دراسة العمارة، ان يجتمع مجموعة من الطلبة في غرفة واحدة او غرف متجاورة طيلة
عامهم الدراسي، وان يجتمع طلبة مراحل متعددة في تلك الغرف فلذلك نتائج ايجابية في
جميع التخصصات الا تخصص العمارة.
يمر طالب السكن المشترك بتجربة دراسة العمارة
بطريقة مشوهة، فالطلبة يجلسون سوية لانجاز متطلبات الدراسة سواء كانت عملية او
نظرية، لذا فان عملية التواصل السابقة ستكون اقوى وستزداد سلبياتها في انتشار
المعلومات المغلوطة او قتل الافكار الناجحة في بداياتها، فتأتي الافكار والاعمال
متشابهة وكأنها مستنسخة، وعندما يعتقد المقيّم ان تلك الاعمال لشخص واحد بسبب ذلك
التشابه الواضح، يتعذر الطلبة بكونهم يقرؤون ويعملون سوية لذا جائت النتائج بهذه
الطريقة وهذا ما يقتل جانب اساس في دراسة العمارة وهو التميّز الفردي بين المجموعة.
وهذا التشوه في حال تواصل طلبة المرحلة الواحدة مع بعضهم
فقط، أما في حال التواصل مع طلبة مراحل اخرى تسبقهم فسوف يزداد التشوه وضوحاً،
والسبب ان مناهج دراسة العمارة في تطور مستمر، فمنهج العام الحالي يختلف في بعض جوانبه
عن العام السابق وهكذا، لذا سينقل الطلبة الاكبر معلومات غير دقيقة وقد تكون خاطئة نتيجة لقلّة الخبرة ايضاً وعدم فهم للمنهج الحالي ومتطلباته والذي يختلف عن التجربة
التي مروا بها.
هل توجد استثنائات؟ نعم بالتأكيد ولكن مع الخروج عن
التواصل السلبي نحو دراسة العمارة بشكل فردي لتأتي بنتائج متفردة.
وهنا تنتهي اركان الثلاثية (البصرية : الحجمية :
الفردية) والتي قد تكون مصيبة في حالات وغير مصيبة في اخرى، فالعالم بجميع قضاياه
في حالة نسبية متحررة.