البيت حليق الرأس
تُخبِرنا الكاتبة الأمريكية Fran Lebowitz أن أغلب الناس يذهبون للطبيب النفسي كي يتحدَثوا عن أمهاتِهم وعن
(أزواجِهم-زوجاتِهم)، ولكن سكان مدينة نيويورك يذهبون للطبيب النفسي ليشتكوا من
الضجيج، يدفعون مئات الدولارات للتذمر من ضوضاء المدينة فقط.
أما )أبو لافي البدول( فيُخبِرنا في وثائقي عن الأنباط الجدد أنهم لا يزالون يسكنون كهوف
مدينة البتراء في صحراء الأردن لأنهم مرتاحين وفكرهم مرتاح أيضاً بعيداً عن الضوضاء وضجيج السيارات.
هذا "بعيداً عن مدينتنا" بغداد التي لا تزال مناطقها السكنية
تحتفظ بــ"هدوء نسبي" الا الشوارع التي تحول إستخدامها من سكني الى
تجاري بقدرة قادر. لكننا نفتقد ذلك الهدوء عندما تمر أبراجنا الفلكية بفترة "خلو
مسار" ويقرر أحد الجيران أن يشيّد داراً جديدة بعد قِسمة دار قديمة. أتذكر تلك
الليالي الصيفية التعيسة التي صادفت صب سقوف الدار المقابل لغرفتي، ما زاد الليالي
سوءاً هو الصب بطريقة الخبّاطة التقليدية وليس بالمضخة والكونكريت القادم من
الشركة.
قد يكون هذا الإزعاج مؤقت مقابل الإزعاج الدائم لبعض القرارات التصميمية او
البنائية للجيران وخاصة المجاورين منهم، كالتطاول في البُنيان.
قال التويجري: "يتطاولون في البنيان يعني يتبارون ويتباهون في تطويله".
تطويلهُ عمودياً بزيادة إرتفاعات الطوابق وعددها وتطويله أفقياً أيضاً، فهم
يتطاولون في الإقتراب من السياج الخارجي لحدود الارض، وإن كانوا مضطرين لترك مسافة
لموقف سيارة او حديقة او لأجهزة التبريد فهم يتطاولون افقياً بمد الجدران الجانبية
للواجهة. يعزلون بذلك المسكن المجاور بصرياً عن القادم من بداية الشارع، ويعزلونه
مناخياً أيضاً بمنع الشمس من الوصول الى الحديقة والفضاءات الأمامية وبحسب توجيه
ذلك المنزل.
كنت اطلّع ليلة البارحة كعادتي على عالم البناء الموازي لعالم المعماريين
والمهندسين، وكان (الاسطة/ المقاول) أبو فلان الفلاني يستعرض منجزه المتفرّد في
بيت (أبو محمد الله ينطيه الصحة والعافية)، فيشير الى الجدران الجانبية للواجهة
قائلاً: "هاي بمصطلح البناء، هاي الطلعات يسموهة قامة، هاي جداً مهمة، بشغلة
الديكور وبشغلة التغليف، يعني البيت المابي قامة مثل الاكَرع" !
تحيلنا مفردة القامة، الى قامة الانسان أي طوله، والى أداة حادة كبيرة
أيضاً تستخدم لأغراض مختلفة. ومصطلح البناء قد يميل للقامة السلاح كون الجدار الجانبي
مضاعف الإرتفاع وحاد بسمك 24 سم فقط.
لا تقتصر القامات على البناء خارج التصاميم المعمارية، بل تتواجد في أغلب
تصاميمنا السكنية، وباسترجاع ذاتي للزمن، فأنا أتذكر حضورها بذاكرتي في عقد
التسعينات، مترافقة مع الحجوم المضاعفة لفضاءات الإستقبال، والتغليف بالحجر الدخيل
على مدينة بغداد.
القصور الرئاسية، مصدر عناصر عمارة التسعينات |
أفكر حالياً بعلّة ظهورها في الحالات الأولى، لعل السبب هو حاجة المعمار
الى إسناد إنشائي لسقف الطابق الأول الذي يعلو الحجم المضاعف، مقابل للاعمدة التي
تسند الطرف الآخر للسقف.
ثم إنتهت مودة الحجم المضاعف وإستمرت القامات كعناصر إنشائية او عناصر جمالية
يظهر البنائون إبداعاتهم الفنية على سطحها المواجه للمنزل، وللجار سطح طابوقي
عظيم، قد نغطيه باللّبخ فيصبح سماء غائمة رمادية اللون.
"البيت
المابي قامة مثل الأكَرع" فالقامات تشبه السَوالف (الزلوف) والتي تحمل صبّة السطح
(الكدلة) فتحيط السطوح الثلاثة بواجهة المنزل كما يحيط الشعر بوجه الانسان.
فكرة الإحاطة أو التأطير هو ما قد
يدفع المعمار اليوم للاحتفاظ بالقامات، والسبب هو لا وحدة تصاميم المساكن
المتجاورة، أساليب تصميمية ولغات بصرية ومواد إنهاء متعددة، فحتى المعمار المتمكن
يحاول عزل تصميمه الجديد عن القباحة المجاورة بإطار عازل واضح. ولو كانت الواجهات
تمتاز بالوحدة لإنتفت حاجة العزل، كما في فكرة اللوحة المجزءة عديمة الأُطر.
لابد من القول أن الوحدة لن تتحقق الا بقوانين صارمة تُفرض على جميع
المصممين، أو بوحدة المصمم كما في المجمعات السكنية الجديدة.
ولابد من القول أنني أستطيع الكتابة متذمراً عن غياب وحدة المدينة لصفحات
عديدة إضافية.
ولكنني تذكرت جزءاً من الحوار مع Fran Lebowitz سابقة الذكر:
المحاور: هل يغيّر التذمر شيئاً؟
هي: تقصد هل هو مفيد؟
المحاور: نعم.
هي: هل تقصد إذا تذمرت على الامور التي أشتكي منها، هل ستتغير؟
المحاور: نعم.
هي: بالطبع كلا، لن يتغير شئ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق