الثلاثاء، 12 يوليو 2022

بغداد من الطابق 30

 بغداد من الطابق 30

 

أجرت الدكتورة Linda Henkel، أستاذة علم النفس في جامعة Fairfield،USA  تجربة لدراسة أثر التصوير الفوتوغرافي على ذاكرة زوار متحف الفنون في الجامعة. قسّمت المشاركين في التجربة الى مجموعتين، الأولى سمحت لها بتصوير الأعمال الفنية المعروضة، والثانية لم تسمح لها بالتصوير والاكتفاء بالنظر الى الأعمال الفنية والاستماع للمعلومات من المرشد أثناء التجول في المتحف.

تم اختبار ذاكرة المجموعتين فيما يتعلق بما رأوه بعد يوم واحد من الزيارة. تذّكر أفراد المجموعة الأولى معلومات أقل عن الأعمال التي قاموا بتصويرها. بينما تذكر أفراد المجموعة الثانية معلومات أكثر بالاعتماد على تركيز النظر ومعلومات المرشد الفني.

 

وقفت أمام مبنى البنك المركزي العراقي الجديد وأنا في حيرة التشبّه بالمجموعة الأولى أم المجموعة الثانية من التجربة السابقة. هل أجهز كاميرا هاتفي المحمول؟ أم أدع الهاتف يستريح في حقيبتي اليدوية. استغرقني القرار نصف دقيقة تقريباً فتسلّحت بهاتفي متأسفاً على خسارة ذكريات تفصيلية ثمينة.

قرار زيارة المبنى بالأصل لم يستغرقني سوى أجزاء من الثانية. اتصل بي المعمار أحمد سالم المحترم رئيس القسم المعماري في نقابة المهندسين العراقية مستفسراً عن رغبتي بالانضمام الى وفد النقابة لزيارة المبنى يوم الاثنين الموافق 2/7/2022، أجبته : نعم أرغب بكل تأكيد.

كانت استعدادات الصباح كمن يريد حضور حَدَث عظيم، على الرغم من قرب المبنى عن منطقة سكني ومتابعتي شبه اليومية لتطوراته الإنشائية.

أول مفاجأت الزيارة والتي لم أرصدها في متابعتي المزعومة هو استخدام الفريق الهندسي للبنك المركزي لمنزلين في المنطقة لإدارة المشروع. الأول في الجهة المقابلة للمبنى والذي تم استقبالنا فيه لتقديم عرض توضيحي عن تفاصيل المشروع. والثاني في صف المنازل الملاصقة للموقع وهو يستخدم كنقطة تفتيش وسيطرة للدخول الى الموقع.

أعوام وأرقام

بعد حفاوة الاستقبال والتعارف الرسمي على مقاعد طاولة اجتماعات تملئ غرفة ضيوف سابقة، بدأ فريق البنك المركزي بعرض شرائح أنيقة عن منجزهم الفريد. البداية بمتابعة أبنية البنك المركزي العراقي منذ البناية الأولى عام 1959 وحتى الوقت الحاضر، ثم توثيقاً لتواريخ مراحل المفاوضات مع مكتب الراحلة زهاء حديد لقبول العمل على المشروع ثم توقيع العقد في كانون الثاني عام 2012، ثم مراحل إعداد التصاميم والبدأ بالعمل وتطور المراحل الإنشائية الرئيسة للوصول الى النهاية الايكونية المفترضة.

بعد الأعوام جاءت الأرقام، أبعاد الموقع ومساحته، ارتفاع المبنى وعدد طوابقه ومساحاته البنائية، عدد الموظفين المفترض عملهم في المبنى، مواقف السيارات الخاصة بهم، وغيرها الكثير من أرقام عناصر المشروع ومواصفاته. دونت في دفتري الصغير ثلاثة من تلك الارقام فقط:

أبعاد الموقع 100X200 متر.

عدد الموظفين 1700 موظف.

عدد المصاعد 22 مصعد!

الطريق الى القمة

حصلت على بطاقة زائر مع مجموعة بالرقم 24. وحذاء سلامة مهنية بالقياس 41. وخوذة سلامة للرأس ضبطتها على القياس 57.

من الفضاء الخارجي الفاصل بين المبنى وصف المنازل الملاصقة لحدود الموقع، أخذنا منحدر واسع الى فناء داخلي عملاق، أرضيته بمستوى تحت الطابق الأرضي وسقفه مغطى بشبكة معدنية تبرز من بينها السماء. لابد من الإشارة الى أن الجولة كانت برفقة إدارة المشروع وعدد من المهندسين المشرفين على التنفيذ، وعلى الرغم من ذلك فإن انشغالي بالتصوير وانشغالهم بالإجابة عن أسئلة أعضاء الوفد الآخرين ترك الكثير من أسئلتي دون إجابات. ماهي وظيفة الفناء الداخلي سابق الذكر؟ لا أعلم. لكنني من مراجعة مخطط الموقع (Site) المعلن فالفناء يمثل جزء من المنطقة المركزية للكتلة الأفقية للمبنى والمسقفة بجسور موازية للكتلة العمودية (البرج).

من أحد اضلاع الفناء المطابق لمحور حركة عمودي على البرج، انتقلنا الى منطقة المصاعد التي تمثل مركز البرج وإسناده الإنشائي. ملئنا مصعدين للعمال بأبواب تفتح عمودياً وليس أفقياً وبكابينة مليئة بالملصقات الإرشادية والتحذيرية وباللغات الإنكليزية والعربية والتركية. استغرق الصعود الى الطابق 30 وقتاً طويلاً على الرغم من أن حركة المصعد والأصوات التي يصدرها توهمنا بأنه مصعد فائق السرعة.


الدخول الى الفناء

الخروج من الفناء


الطابق 30

استقبلنا عند الخروج من المصعد ممر عرضي ضيّق يقسّم المنطقة المركزية الـ(Core) للبرج الى قسمين، الأول خاص بالحركة العمودية يتضمن المصاعد وزوج من السلالم، والقسم المقابل يتضمن الخدمات الصحية للطابق ومحاور عمودية للخدمات الأخرى.

على أحد الجدران الكونكريتية تم تثبيت مخطط أفقي للطابق، والذي يظهر بوضوح النسبة بين مساحة الـ(Core) ومساحات الفضاءات الوظيفية للطابق. لعل النسبة تقترب من 1:1 أو 1:1.2 ، أي أن المساحتين متساويتين أو مساحة الفضاءات تزيد قليلاً على مساحة الـ(Core). تتضمن الفضاءات الوظيفية حلقة حركية حول الـ(Core) ومكاتب مائلة بزاوية 45 درجة على تلك الحلقة وبحافات منحنية، ثم تطل تلك المكاتب من الجهة الأخرى على الواجهات الأربع للبرج.

تذكرت وأنا أتجول في الطابق وأنظر الى المدينة من ارتفاع شاهق نصوص من الفكرة التصميمية للمبنى والمعلنة على الموقع الرسمي لمكتب المعمارية الراحلة، "ان تصميم البنك المركزي العراقي ينبثق من نهر دجلة الذي شكل المدينة وهو يشكل أيضاً المبنى المسؤول عن مؤسسة وطنية مهمة". "ينفتح البرج على النهر الذي يمثل المرجع الثابت لكل الموظفين والزوار فهو يمثل الماضي والحاضر والمستقبل". ليس الهدف هنا مناقشة الفكرة التصميمية ولكننا بصدق نشاهد نهر دجلة من جميع واجهات البرج والسبب كون المبنى يقع في نهاية إبهام بغداد (شبه جزيرة الكرادة)، فنستطيع رؤية مجرى نهر دجلة المحاذي لمنطقة كرادة مريم ثم المجرى المحاذي لجزيرة ام الخنازير (اللوفة) ثم المجرى المعاكس والمحاذي لمنطقة الدورة.

 

دليل الصعود

الجسر المعلق وكرادة مريم

جزيرة ام الخنازير

جسر الجادرية


الطابق 12

انحشرنا في المصعد مرة أخرى للنزول الى الطابق 12، الطابق الذي وصلت اليه أعمال الإنهاء الخارجي للبرج. قبل أيام كنت اشتري متطلبات المنزل من أسواق قريبة. تخيلت الاضلاع التي تم تثبيتها على المساحات الزجاجية بين الجدران الكونكريتية للبرج كخياشيم سمكة. تشاركت خيالي هذا مع المهندس المشرف على المشروع فقال إننا نسمي جدران البرج المتكررة والمنحية بـ (Fin Wall)!

جُدران زُعنفية.

يرتبط المشروع وثيقاً بالنهر وشارع النهر (ابو نؤاس) كأشهر مكان يرتبط بذاكرة السمك (المسكوف) البغدادي.

تأتي قطع التغليف وقطع الزجاج والاضلاع الزعنفية من المصانع في الخارج مرّمزة برموز خاصة تشير الى مكانها بالضبط. وما على العمال إلا وضعها في المكان المناسب.

الزعانف والخياشيم

تثبيت العمال لقطع الزجاج المؤطّرة

مفصل الاستقرار/ الانبثاق

بعد العودة الى الأرض كانت وجهتنا هذه المرة فضاء البهو أو الـ(Foyer)، الفضاء الذي يقع أسفل البرج تماماً. الممتع في ذلك الفضاء هو التأكيد على مفصل (استقرار/انبثاق) البرج (على/ من) الأرض. يستطيع المستخدم رؤية ذلك المفصل ومن ثم استمرارية رؤية البرج حتى نهايته السماوية. كون ذلك البهو فضاء داخلي مبرّد فهو لايمنع ذلك التواصل البصري بين خط الأرض وخط السماء بتسقيفه بجسور معدنية والواح زجاجية تظهر أيضاً في الـ(Site) الخاص بالمشروع.

البهو اسفل البرج

البرج من البهو

البحث عن زهاء

ملكة المنحنيات، هذا ما عرفنا به الراحلة زهاء حديد بعد أن تحولت عن التفكيك وزواياه المتعددة. تظهر المنحنيات في برج مبنى البنك المركزي وحافات كتلته الأفقية، لكننا عندما ننتقل الى داخل المبنى تختفي المنحنيات تماماً. جدران كونكريتية ومقاطع معدنية متعامدة كتعامدها في أي مشروع آخر. حتى الجدران المنحنية للبرج لا تدرك انحنائاتها بوضوح من داخل الطوابق لأن الارتفاع المتاح لكل طابق يمثل جزء من المنحنيات العمودية.  

لعلنا نجد منحنيات زهاء حديد في الداخل بعد البدأ بأعمال الإنهاءات المختلفة، مع علمنا أن الراحلة قد صممت مجموعة من قطع الاثاث باسلوبها المميز خصيصاً لبعض فضاءات المشروع.

 

الهيكل المعدني لتثبيت انحناءات الكتلة الخارجية


كانت جدّتي تختتم قصصها بــوعد ممتنع "لو بيتنا قريب جان جبتلكم طبكَ حمّص وطبكَ زبيب". نعم أنا بيتي قريب عن مبنى البنك المركزي العراقي ولكنني سأختتم قصتي بتحذير:

"إن جميع الانطباعات والآراء السابقة صالحة لغاية الزيارة القادمة للمبنى فقط".

 






 


الأحد، 3 يوليو 2022

مصادر عن الفكرة التصميمية في العمارة

 مصادر عن الفكرة التصميمية في العمارة

 

Introduction to Architecture

J.C.Snyder, A.J.Catanese. (1979)

CH 9: Concept in Architecture. P :(208-235)

يتحدث الكتاب في الفصل التاسع عن مفهوم الفكرة التصميمية في العمارة والفرق بين مفاهيم  Idea, Notion, Concept وشرح أنواع الفكرة الخمسة وتطبيقاتها.

 


Introduction to Architecture

Francis D. K. ChingJames F. Eckler. (2013)

CH8: The Design Process: tools and techniques for generating ideas. P :(199-230)

يتحدث الكتاب في الفصل الثامن عن مصادر الفكرة التصميمية وكيفية تطويرها.

 


The elements of modern architecture

Understanding contemporary building

Antony Radford, Selena Morkoc, Amit Srivastava. (2014)

يحلل الكتاب الأفكار التصميمية لـ50 مشروع معماري عالمي، وكيفية استجابة تلك الأفكار لمتطلبات الموقع والبرنامج الوظيفي والبيئة وتحديات أخرى.

 


الإلهام المعماري

أ.د. نوبي محمد حسن (2014)

يتحدث الكتاب عن مفهوم الإلهام المعماري ومقوماته ودوره في بناء الفكرة المعمارية، ثم يستعرض منابع الإلهام وتوظيفه في المشاريع المعمارية.

 


محاكاة الطبيعة في العمارة

Michael pawlyn

ترجمة: د.محمد بن سعيد الغامدي (2016)

يتحدث الكتاب كما هو واضح من عنوانه عن كيفية بناء أفكار معمارية تحاكي الطبيعة لتصميم مباني أكثر كفاءة.

 


عبقرية التصميم

قصة مائة مشروع في سطور

أ.د. هشام جريشة. (2016)

يقص الكاتب المعمار في كتابه التحديات والفكرة التصميمية لمئة مشروع عمل على تصميمه في مسيرته المعمارية.

 






 

الخميس، 2 يونيو 2022

سيدة الكرادة الجديدة

 سيدة الكرادة الجديدة

 

لو كنت من أصحاب المليارات لاشتريت فوراً باص مارسيدس سعة 18 راكب موديل 1979. أعمل على إصلاحه ثم أقوم بتكليف سائق ليأخذني بجولات في شوارع المدينة السريالية. أنا أعرف سر هذا الباص جيداً. فهو يحتوي عرش بغداد الخفي.

كساكن جديد في منطقة (الزويّة) الكَرادية لم أكن امتلك (خط) للذهاب الى الجامعة والعودة يومياً. كان البديل خط مواصلات (كَرادة-الباب الشرقي) بباصاته المارسيدس سابقة الذكر قبل أن تُرحّل الى مُدن أخرى ويحل محلها كوسترات حديثة من شركات تويوتا ونيسان اليابانية.

غالباً ما أجد الباص الذي يقف لي فارغاً نسبياً لأنني أسكن بداية خط المواصلات. أتجه مباشرة الى الصف الأخير المرتفع عن بقية المقاعد لتوفير منطقة خزن صغيرة اسفله. ثم أختار من ذلك الصف المقعد المجاور للشباك. ذلك هو عرش بغداد. قد يبدو في الأمر مبالغة، لكن الجلوس في ذلك المقعد المرتفع عن الشارع وعن بقية مقاعد الباص مع هواء شبّاك الصباح ومراقبة الناس والسيارات والمباني والأشجار، يجعلك تشعر بأنّك هارون الرشيد متخفياً في إحدى جولاتهِ لاستكشاف أحوال المدينة.


احتفظ بالكثير من القصص عن ذلك الباص وذلك المقعد كجلوس المجانين بجانبي والاعتداء على السائق بإطلاقات نارية وآداب دفع الأجرة عن المعارف (الوير) والصبر على توصيل الأجرة المستمر من الصفوف الخلفية الى السائق.

في إحدى الصباحات رفع الرجل الجالس بجانبي يده بالسلام على شخص يُفترض أن يكون على الرصيف. عندما نظرت من الشباك لم أجد أحد. أرجعت الأمر لذبابة حاول الرجل طردها عن وجهه. رجل آخر يجلس بجانبي في يوم آخر وباص آخر رفع يده بالسلام على شخص يُفترض أن يكون على الرصيف ولم أجد أحد مرة أخرى. ليست ذبابة هذه المرة بل السلام على شخص خفي لا أراه.

في المرة الثالثة أدركت الأمر، لقد كانت الحالة تتكرر في نفس الموقع من شارع كرادة داخل. كان الرِجال يقومون بالسلام على السيّد إدريس عندما نمر على الفرع المؤدي الى مرقده.

يقع مرقد السيّد إدريس الذي ينتسب الى الأمام الحسن بن علي عليهما السلام في الكرادة الشرقية قرب الجسر المعلّق. للسيّد إدريس مكانة محترمة عند سكان المنطقة القدماء. يُكنونه بأبي مُحمد وله معهم كرامات كثيرة. من تلك الكرامات رفعَهُ لنخلة من موضعها على جانب النهر ووضعها في منتصف النهر. يُقال أن النخلة كانت لإمرأة كَرادية فنذرتها وقفاً لزوار السيّد يأكل منها من يشاء. لكنَّ المرأة أرادت أن ترجع عن نذرها وتحتفظ بتمر النخلة لنفسها. فقيل أن السيّد إدريس رفع النخلة ووضعها داخل النهر. إستمرت النخلة هناك قائمة عدّة سنين ثم جرفها الماء أخيراً.


تُذكّرنا النخلة والنهر بمعلم (كَرادي) جديد. يمر أمامهُ خط مواصلات (كرادة-الباب الشرقي) أيضاً. برج البنك المركزي العراقي.

أخبرني الصديق محمد نمير بأن هنالك من يُرجع شكل البرج الى النخلة، وذلك مقبول بالنظر الى النسبة العمودية الرشيقة للشكلين. إلا أن قراءة سريعة عن البرج في موقع www.zaha-hadid.com  تكشف عدم وجود أي ذكر للنخلة. ونكتشف أنّ النهر هو بطل فلم الفكرة التصميمية للبرج. فـ"البرج يرتفع من حافة نهر دجلة"، و"البرج يعكس ذات أهمية نهر دجلة كمفتاح للتجارة في مدينة بغداد القديمة ومصدر مائها الوحيد وصانع لتاريخ المدينة والأساس الذي سيُبنى عليه المستقبل". و"تتألف عناصر الهيكل الإنشائي للبرج والتي تشكل بدورها واجهاته الأربع من ألواح تنغلق وتنفتح للتعبير بصرياً ورمزياً عن الضوء المنعكس من أمواج النهر أسفل البرج". وأخيراً "إن تصميم البنك المركزي العراقي ينبثق من نهر دجلة الذي شكَل المدينة".


أنا مهتم بإثارة الحوارات المعمارية حول برج البنك المركزي العراقي الجديد ومنها حوار عن مفهومي (موت المؤلف) و(أهمية المؤلف) في النقد، فبينما تدعو البنيوية والتفكيكية الى قطع الصلة بين المؤلف والنتاج عند النقد، تدعو المناهج النقدية التاريخية والنفسية والاجتماعية الى وجود صلة وثيقة بين المؤلف والنتاج.

كذلك حوار آخر عن التسمية الشعبية التي سنطلقها على البرج، فلن نستطيع غالباً استخدام اسمه الطويل (برج البنك المركزي العراقي الجديد) في حواراتنا اليومية باستمرار. كانت إحدى الإجابات وهي التي ستحصل واقعاً بأننا سنستمر بتسميتهِ (برج زهاء حديد). ومن هنا نكتشف مفهوم جديد وهو (خلود المؤلف).

فكما استمر وسيستمر ذكر السيّد إدريس في ذاكرة المدينة فسيستمر ذكر الراحلة زهاء حديد مادام الكونكريت محافظاً على عمره المئوي. علماً أن الخلود لا يعني العصمة بالتأكيد. نحن بحاجة للتعامل مع منتج الراحلة بلا قدسية. لا نخاف النقد والتشبيه وتأليف النكت والـ(ميمز) عن البرج والمدينة.

اسميت الراحلة (سيدة الكَرادة الجديدة) لأن للكَرادة سيدات كُثر أبرزهُن (سيدة النجاة) عليها السلام. المُطّلع على تخطيط شبه جزيرة الكَرادة سيعلم أنها تبدأ بسيدة النجاة ثم سيّد إدريس في الوسط والخاتمة بالسيدة حديد. هي آنسة بالتأكيد لكنَّ السيدة من السيادة.

أنا أدعو لتأسيس طقس معماري نقوم به عند المرور بالباصات أو سياراتنا الشخصية بجانب برج البنك المركزي العراقي. قراءة سورة الفاتحة على روح السيدة حديد، أو تمني امنية منها كما يتمنى الناس من السيّد إدريس قائلين: "دخيلك يا سيد إدريس رجعني شاب وعريس".   






الخميس، 28 أبريل 2022

غرفتي المستقبلية

 غرفتي المستقبلية


كان جدار غرفة طفولتي يحمل ثلاثة بوسترات ثمينة. الأول لآرنولد من فلم (Terminator). والثاني لـسلفستر ستالون من فلم (Rambo). والثالث لـفاندام الذي دفعني الإعجاب به للتسجيل في كورس صيفي لممارسة رياضة التايكواندو في نادي الكرخ الرياضي. الكورس الذي تركته بعد يوم واحد فقط بسبب المدرب. كان يحمل عصا خيزرانية طويلة ليَضرِب من يُخطئ بأداء الحركات!

بعد السادة أصحاب العضلات تعرّفت بعمر أكبر على بروس ويليس وجون ترافولتا ونيكولاس كيج. لكنني تجاوزت معهم مرحلة البوسترات وملصقات العلكة وإقتصرت على متابعة آخر الأفلام وقصّات الشعر.

في المشهد الافتتاحي لفلم (Knowing) لنيكولاس كيج تفوز الطفلة لوسيندا أمبريه في مسابقة أفضل فكرة لكيفية الإحتفال بيوم الافتتاح الرسمي لمدرسة ويليام دوس الابتدائية. كان ذلك في العام 1959.

تقترح لوسيندا دفن كبسولة زمنية (Time capsule) في باحة المدرسة الأمامية. فتطلب  المعلّمة من كل طفل أن يرسم (كيف سيكون المستقبل؟). توضع الصور داخل الكبسولة، وبعد 50 سنة سيفتحها أطفال من المدرسة ذاتها ليروا ماذا رسم أجدادهم.

ألا يبدو ذلك محمّساً؟ تسأل السيدة تايلور (المعلمة).

لقد أعجبتني الفكرة !


الكبسولة الزمنية

كنت قد كتبت على جدار إحدى غرفي اللاحقة اقتباساً لألبرت أنشتاين يقول فيه:

“Imagination is more important than knowledge”

يعرّف الدكتور شاكر عبد الحميد الخيال بـ(عمليّة يقوم بها الإنسان بإرادته وبكل مرونة، يستطيع من خلالها أن يتجول في عالمه الخاص بواسطة عقله، وتكوين الصور وتحريكها حتى يصل إلى ما يريده).

تَخيّلَ طلبة السيدة تايلور سفينة فضائية وإنسان آلي وكوارث قاتلة!

عندما تسأل أي شخص عن دراسة العمارة سيقول لك: إنها بحاجة للخيال. فكيف إذن كمعماريين أو طلبة نتخيّل العمارة بعد 50 سنة؟

بدأت بتوجيه هذا السؤال على طلبة المرحلة الأولى في قسم هندسة العمارة كل عام تقريباً. ولتحديد أفق الخيال الواسع أصبح السؤال: كيف تتخيل غرفتك الشخصية بعد 50 عام؟ والمطلوب من الطلبة التعبير عن خيالهم بالرسم كما فعل الأطفال في فلم (knowing).

فكرت في أحد الأعوام أن أشتري (جدر ضغط) لحفظ الرسوم بدلاً عن الكبسولة الزمنية، لكن أين سأدفنه؟ سيتخيّل الناس أنه عبوة متفجرة بلا أدنى شك. وبدلاً عن الاحتفاظ بالرسوم لدّي فكّرت أن أعرض أفضل الأعمال هنا (وهنالك أعمال أخرى ممتعة)، فقد تستمر هذه المدونة لخمسين سنة قادمة.

إنقسمت أعمال الطلبة الى قسمين. الأول بالتعبير عن الخيال بالتخطيط اليدوي والقسم الثاني بمعونة قوّة الذكاء الاصطناعي.

قد تبدو خيالات الطلبة واقعية، فالأجهزة الذكية موجودة في الحاضر لكنها بعيدة عن الاستخدام في بيئتنا العراقية وأغلب البيئات العالمية. لكن هل سنعيش مستقبلاً في غرف خيال علمي بغدادية؟

لننتظر 50 سنة أخرى ونعرف. يقول المثّل المصري "يخبر بفلوس بُكرة يبقة ببلاش".  



أساور أحمد



فاطمة عبد الرزاق


صفا نبيل


فرقان محمد


فرح رعد


فرح رعد


زينب أحمد


نرجس قيس


أمير محمد






الأحد، 27 مارس 2022

سكّان بغداد الجدد

 سكّان بغداد الجدد


-       لقد فقدنا رئيس الوزراء.

-       .......

كان وينستون تشرشل حينها مختفياً لتنفيذ نصيحة الملك جورج السادس بالذهاب الى الشعب. يخبرهم بالحقيقة بشكل صريح، فيدعهم يرشدوه بين الحرب والسلام (الاستسلام) في الحرب العالمية الثانية. ركب قطار الأنفاق للمرّة الأولى في حياته. سأل ركّاب إحدى المقصورات:

- إن حدث الأسوأ، والعدو ظهر في سمائنا، ماذا ستفعلون؟

- سنحاربه بأي شئ يقع تحت أيدينا. أجابه أوليفر ويلسون. وعندما سأله تشرشل عن مهنته قال: أنا بنّاء سيدي.

فقال له تشرشل مازحاً:

-قريباً سنكون بحاجة لعدد كبير من البنائين، سوف تزدهر هذه المهنة!

كل ذلك وأكثر في سيناريو فلم (Darkest Hour) الذي دفعتني رغبة التواصل مع شخصية تشرشل لمشاهدتهِ وهو الفائز بأكثر من جائزة أفلام عالمية. لماذا تشرشل بالذات؟ لمقولته التي توثقها الكثير من المواقع الالكترونية:


"We shape our buildings; thereafter they shape us


كتبتها مترجمة على غلاف كتاب (بغداد، قصة هوية)، وأعود لأكتب عنها مرّة أخرى.

أفكّر في بعض الأحيان أنني أتصرف بسطحية ساذجة عندما التقط أي كتاب يتضمن إشارة للعمارة من بعيد أو قريب. في معرض الكتاب الأخير ألتقيت (ماكيت القاهرة)، رواية للروائي المصري طارق إمام. ماكيت (موديل) لمدينة، ومخطط ملون للقاهرة على الغلاف، لم أستطع تجاوزها بالتأكيد حتى مع سعرها المرتفع.

بعد صفحة الاهداء نقرأ إقتباساً لمنسي عجرم:


"الأمكنة تخلق قاطنيها. إن نشأت نسخة جديدة من بيت ستنشأ نسخة جديدة من ساكن"


يقترب المعنى كثيراً من مقولة تشرشل السابقة. علاقتنا بالعمارة علاقة حلقية، نبنيها فتبنينا وتبني أبنائنا فيبنوها مرة أخرى وهكذا دواليك.

ما أثار اهتمامي أكثر بمقولة منسي عجرم عملي في الفترة الماضية على تصميم مسكنين، الأول لقريب والثاني لصديق. الأول على أرض بأبعاد (5*20) متر والثاني على أرض بأبعاد (4.45*21.5) متر.

ليست نسبة الأرض الطولية بجديدة على مدينة بغداد أو مدن عراقية أخرى، لكنها في ازدياد ملحوظ، بل تكاد تكون النسب الوحيدة المتوفرة حالياً في سوق العقارات. في الشارع الذي نسكن فيه تم هدم منزلين قديمين متجاورين، ليتحولان سريعاً الى سبع منازل طولية متجاورة جديدة.

يسكن عدد كبير من الناس تلك المساكن الطولية، وسيسكنها عدد كبير آخر في المستقبل. فإن كانت هي نسخ جديدة من المساكن في مدينة بغداد، فكيف ستكون النسخ الجديدة للساكنين فيها؟

تفرض الأراضي الطولية على المعمار كما نعلم قرارات تصميمية لا مفر منها. ما يزيد من حتميتها متطلّبات الساكنين العراقية. فبينما نجد مساكن بنفس النسب الطولية على شبكة الانترنت تم التعامل معها باسلوب المخطط المفتوح مثلاً. في المستوى الأرضي فضاء واحد مستمر يتم توظيفه حسب الحاجة، زيادة على الارتفاع  المضاعف عمودياً في بعض أجزاء ذلك الفضاء للزيادة من سعة المساحة الأفقية الصغيرة. أما مساكننا فيجب أن تكون غرفة الضيوف أصحاب القداسة في المقدمة ومن ثم المعيشة أو المطبخ ثم الحمام وأخيراً غرفة النوم في الطابق الأرضي. يتم بعدها تكرار تلك الفضاءات في الطابق الأول والثاني وحتى الثالث.

كيف تؤثر تلك المساكن تحديداً على شاغليها؟

هل النوم في غرفة تقع في قعر المسكن يُشعر الانسان بالأمان والابتعاد عن فوضى الشارع ؟ أم يُشعره بالضيق من فضاء لا مفر منه عند حصول أي حادث طارئ يغلق الطريق الى الخارج؟

هل تؤثر الإنارة الطبيعية الضئيلة في الفضاءات على راحة الانسان؟ وهو لا يستطيع تعويض ذلك النقص بالخروج لنور الحديقة التي تم الاستغناء عنها من الأساس.

هل يتغير سلوك الإنسان وهو يعيش في فضاءات متتالية تخترقها ممرات الحركة دون استئذان؟

لا أمتلك إجابات للأسئلة السابقة لأنني لا أسكن مسكناً طولياً على الرغم من كوني أول الساكنين فيه عندما كان يسمى بـ(المشتمل)، وقد أعود للسكن فيه عاجلاً أم آجلا. لكن من المفترض أن تجيب عن تلك الأسئلة دراسات وبحوث علم النفس والعمارة سوية.

ما أنا متيقن منه هو التأثيرات النفسية السلبية للاستغناء عن موقف السيارة الداخلي وتركها مركونة على الرصيف أو الشارع. شعور دائم بالقلق من تعرضها للضرر خاصة مع الاختيارات غير المنطقية للعراقيين. مستأجر لطابق في مسكن طولي يمتلك سيارة بسيطة ... رانج روفر.

قد يسكّن هذا القلق الاستخدام المحموم لكاميرات المراقبة التي لا تمنع الضرر بقدر توثيقه. لكن الشعور بالعدائية تجاه الجيران فلا علاج ولا مسكن له، أصبح ساكني الشارع يقسمون الى مهاجمين ومدافعين عن الفضاءات المتوفرة لركن السيارات.

ساكن أو سكّان في بيت طولي يفتقر لموقف سيارات يهاجمون أي فضاء متاح لركن السيارة في الشارع مهما كان ضيقاً، وسكّان آخرين يدافعون عن الفضاءات المحاذية لمساكنهم غير الطولية.

لا أتكلم من الخيال هنا فأنا قد أكون شخصاً مكروهاً من جيراني سكّان أحد المساكن الطولية المقسم الى ثلاثة شقق عموديا. قبل إنتهاء العمل بالبناء ذهبت الى أحد المشاتل لشراء عوائق كونكريتية راسخة وزعّتها على الرصيف المحاذي لواجهتنا، وبهذا منعتهم من ركن سياراتهم العديدة على ذلك الرصيف. تصرّف أناني وبغيض أليس كذلك؟

أنا أبرره بحجّتين. الأولى سيصبح الرصيف موقف دائم للسيارات، تعيقنا عند استخدام الأبواب الخارجية وتمنعنا من المحافظة على النظافة. أما الثانية فرغبتي أن تشعر مالكة العقار دائماً أن تحويل البيت الضيّق الى شقق مرتفعة وتأجيرها هو إجراء غير قانوني. وأن يشعر المستأجرين أنهم يسكنون في شقق مخالفة للقانون وليس الأمر (عادياً) كما يعتقدون.

أصبحت جميع الشوارع الفرعية مع العوائق الكونكريتية والبلاستيكية أو دونها مليئة بالسيارات. يخاطب ياس خضر الرئيس السابق بالتساؤل:


والشوارع مدري هي من الفرح تحضن الناس، مدري هي الناس من كثر الفرح تملي الشوارع ؟

سيدي شكد أنت رائع سيدي!

 

نعلم أن حال سوق العقارات في المدينة معقد جداً ولم يكن هدف الكتابة مناقشة الحلول لذلك الحال إنما الاستعداد النفسي والعلمي للمستقبل الفوضوي الذي تتجه اليه المدينة وساكنيها الجدد والسابقين.

لم ينتهي الاستشراف بعد. فمن نظرة واسعة لواقع المدينة سنجد أننا باتجاه نسخ متعددة أخرى من ساكني مدينة بغداد. فزيادة على النسخة المتوترة لساكني المساكن الطولية، ستظهر نسخ بغدادية لساكني مشاريع الاسكان الجديدة. كيف ستكون شخصيات وسلوكيات ساكني الاسكان العمودي؟ ماذا سيفرض العيش في شقة على الانسان العراقي؟ وكيف ستكون شخصيات وسلوكيات ساكني الاسكان الافقي المرفّه الراقي؟

 

وكأننا بحاجة الى تصنيفات وتقسيمات جديدة زيادة على ما ورثناه من آباءنا الأولين.

- من يا عمام؟ وين بيتكم؟ بي كراج سيارات؟

 



 

استدراكات:

- بعد أن بكيت متأثراً بمشهد قطار الأنفاق بين ونستون تشرشل والشعب، عرفت أن تشرشل نفسه دعى لاستعمال سلاح الجو البريطاني بشكل مكثف وعنيف ضد المشاركين في ثورة العشرين في العراق. ليس بالقنابل فقط وإنما بالغاز السام أيضاً!  

- وصلت رواية (ماكيت القاهرة) الى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). تصفها قناة (كوكب الكتب) بأنها ليست موجهة لقارئ مبتدئ ولا لقارئ متوسطـ بل موجهة لقارئ محترف، بل شديد الاحتراف! نعم إنها رواية معقدة جداً.