الخميس، 25 سبتمبر 2014

طاق كسرى: بين العمارة ومفاهيم أخرى

قرأت في أحد المنتديات العراقية بالصدفة مشاركة من صاحبة الصورة الجميلة "روعة الانوثة" ! بعنوان (الجندي المجهول إكرام الأم بمخيلة الزعيم عبد الكريم قاسم)، تقول فيه (قد يكون للنص مصدر آخر) :
" في عام 1959 أستدعى الزعيم عبد الكريم قاسم الفنان رفعة الجادرجي ليشرح له وضع نصب لتمثال الجندي المجهول ومدى ارتباط هذا الجندي ودفاعه عن الارض واستشهاده ويوارى الثرى وكيفية إيصال رسالة للناس على أساس هذا هو الجندي المجهول.. إنطلق الفنان العراقي المبدع رفعة الجادرجي لرسم تخطيطات أولية عن ذلك الجندي فكانت الرمز هي الأم، والأم وحدها تعرف وتشم رائحة إبنها وسط ملايين الجنود والبشر .(الصورة المرفقة معنونة : صورة لمخطط عثر عليها في معهد الفنون انذاك يرمز للأم تحمل ابنها)


بوشر العمل بالرمز الثماني, ألا وهي ألام لابسة ثوبها المحشم الواسع الطويل لايبين منها شيئا كدلالة على أن تلك الحالة تنسي الانسان النظر للمرأة ومن ثم تنحني لترفع إبنها من الارض لتضمه لصدرها فغرست يداها وارجلها بالارض وبقيت هكذا منحنية دلالة على كسر ظهرها بفقد عزيزها, أضيف لما بين وسط القوس الثماني شعلة نار أزلية تنير ليل ساحة الفردوس ويرمز لذلك الجندي المجهول الباسل ..(إنتهى النص)


يجب أن أقول لكم أن جميع ماسبق ليس له أي نصيب من الصحة! وليس للأم علاقة بالتشكيل البتة، والدليل مايقوله المصمم نفسه في كتابه (الإخيضر والقصر البلوري، ص121) :
" بعد الثورة بقليل كلفني ذات يوم مجلس أمانة العاصمة بوضع تصميم لثلاثة أنصاب تذكارية لتخليد ثورة 14 تموز، وهي:
نصب الجندي المجهول.
نصب 14 تموز.
نصب الحرية.
وحدث قبل هذا أن كانت الحكومة العراقية في العهد الملكي تتفاوض مع الحكومة التركية لكي تنشئ الحكومتان ضريحين لشاعرين أحدهما ضريح للشاعر الجاهلي إمرؤ القيس المدفون في أنقرة ويقيمه العراق والآخر ضريح لشاعر تركي مدفون في بغداد تقيمه تركيا. وكان في نية الحكومة العراقية طرح ضريح الشاعر العربي في مسابقة معمارية. فاخذت أتهيأ للإشتراك فيها وأعد في ذهني تصوراً مناسباً للضريح يكون على له شكل ذو طابع عراقي، لذلك بدأت أدرس في ذلك الوقت شكل طاق كسرى واقوم بتجريده وبتحويله من شكل يعتمد أصلاً على البناء بالآجر الى شكل يعتمد على الخرسانة المسلحة. وقد وضعت دراسة أولية لمشروع الضريح هذا ثم تأجلت المسابقة، وحدثت الثورة فطويت الفكرة نهائياً.
وما أن وصلت مكتبي عصر ذلك اليوم الذي وقع فيه التكليف حتى بدأت بوضع تصميم لنصب الجندي المجهول فأكملته خلال فترة وجيزة مستخدماً تصوري السابق عن ضريح إمرؤ القيس، كما إنتفعت من خبرتي السابقة عندما إستخدمت الطاق الخرساني في جامع سراج الدين.


في الموعد المحدد في صباح اليوم التالي ذهبت الى مقر وزارة الدفاع وعرضت التصميمين (التصميم الآخر هو نصب الحرية في ساحة التحرير حاليا) على عبد الكريم قاسم.
عند عرض التصميم الأول إستحسنه وسألني عن موقعه فأخبرته أن مجلس أمانة اعاصمة قرر أمس أن يكون موقع النصب في ساحة الميدان... لكن قاسم لم يقبل بهذا الموقع، وبدأ يتكلم بإسهاب عن احتلال الجيش لبغداد ودخولها ماراً بساحة الفردوس ويجب أن يكون موقع النصب في هذه الساحة بالذات. (إنتهى النص)


والمعلوم أن طاق (إيوان) كسرى، هو الأثر الباقي من أحد قصور كسرى آنوشروان، يقع جنوب مدينة بغداد في موقع مدينة (قطسيفون) الذي يقع في منطقة المدائن وتعرف محلياً بإسم (سلمان باك) على إسم الصحابي الشهير سلمان الفارسي المدفون هناك.
وكسرى الأول (كسرى أنو شروان بن قباذ بن يزدجرد بن بهرام جور) إعتلى العرش بعد أبيه قباذ الأول ووضع الاسس لمدن وقصور وبناء العديد من الجسور والسدود وخلال عهده ازدهرت الفنون والعلوم في بلاد فارس، وكانت الإمبراطورية الساسانية في قمة مجدها، وهو أحد الأباطرة الأكثر شعبية في الثقافة الايرانية والأدب. (وكيبيديا)
وهذا الأثر يمثل أكبر قاعة لإيوان مسقوفة بالآجر على شكل عقد دون إستخدام دعامات أو تسليح ما. ويشيع بين بعض المسلمين أنه عند ولادة الرسول محمد (ص) إنطفأت نار الفرس المجوس التي كانت موقودة دوماً في الإيوان منذ آلاف السنين وإنشق حائطه. (وكيبيديا)



المثير للإنتباه هنا إن رفعة الجادرجي قد تعامل مع الطاق كمنجز إنساني مجرد، في مجال العمارة والبناء، لم ينظر له من منظار ديني مثلاً، فالرويات تشير الى حصول شق في الإيوان عند ولادة النبي محمد (ص)، فقد قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب ‏(‏هواتف الجان‏)‏‏:‏ حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال‏:‏ لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام‏.‏


وقد أستخدم صورته (صورة المرجع المعماري) (طاق كسرى) بصورة إيجابية بدون إزاحة (تغيير في صفات الشكل للتعبير عن معنى معاكس)، فمثلا في العمارة من الممكن أن تستعمل شكل الهرم للتعبير عن الحياة بدلاً عن الموت ولكن بعد أن تقلبه رأساً على عقب أو أن تحوله الى هرم زجاجي!
أو أن تستخدم شكل مشعل نصب الحرية في نيويورك وتطرحه على الأرض للتعبير على الإنتصار على الولايات المتحدة الأمريكية ! (رمزية في أحد المشاريع المقدمة في مسابقة في زمن النظام السابق).

ولعل تعرّف النظام اللاحق لعبد الكريم قاسم على مرجعية شكل النصب هو السبب في إزالته من الساحة وبحضور المصمم نفسه، وقد يكون ذلك سبب تعرض الجادرجي للسجن، حيث يذكر الدكتور خالد السلطاني: إن الجادرجي في نهاية السبعينات إضطر الى إيقاف نشاطه المعماري أثر سجنه، بدواعي تلفيقية كيدية إفتعلها النظام الدكتاتوري التوتاليتاري البغيض (ثمانينية رفعة الجادرجي: الحداثة أولاً ... الحداثة دائماً الدكتور خالد السلطاني).
 ولكني أعتقد إن سبب الحبس هي تهم بالاهمال في أعمال عقود تصاميم تتعلق بدوائر الدولة ولم يذكر الجادرجي سبب حبسه في (الإخيضر والقصر البلوري) وقد يكون ذكره في (جدار بين ظلمتين) الذي لم اطلع عليه بعد.

وهنالك حادثة تأريخية تتعلق بطاق كسرى وبالتهم الكيدية يذكرها إبن خلدون في مقدمته يقول : وهذا ما وقع للعرب في إيوان كسرى لما اعتزم الرشيد على هدمه، وبعث الى يحيى بن خالد وهو في محبسه يستشيره في ذلك، فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل واتركه ماثلا يُستدل به على عظم مُلك آبائك الذين سلبوا المُلك لأهل ذلك الهيكل. فاتهمه في النصيحة وقال اخذته النعرة للعجم، والله لأصرعنه.. وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه، واتخذ له الفؤوس وحمَّاه بالنار وصب عليه الخل. حتى اذا أدركه العجز بعد ذلك وخاف الفضيحة، بعث الى يحيى يستشيره ثانيا في التجافي عن الهدم. فقال لا تفعل واستمر على ذلك لئلا يقال عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فعرفها الرشيد وأقصر عن هدمه.

وبعيداً عن طاق كسرى، أتساءل اليوم هل من الممكن أن نستخدم كمعماريين رموزاً معمارية ومصادر شكلية تعود الى حضارات والأمم تخالفنا بالدين والقومية وجميع مسميات الخلاف الأخرى؟؟
وإذا كان الخلاف الديني هو العقبة الأولى أحببت أن أسمع رأي المختصين في ذلك، فأرسلت سؤالاً هذا نصه الى أحد علماء الدين المعروفين اليوم بفكرهم المعاصر :
سؤال: تمتلك الحضارات الماضية في وادي الرافدين مباني مميزة جداً (مدينة أور، الزقورة، مدينة بابل بقصورها وشوارعها ومعابدها، برج بابل، المدن الآشورية)، ويذكر التأريخ إن من بنوا تلك المباني وإستخدموها لم يكونوا من الموحدين ولديهم آلهة متعددة.
في الهندسة المعمارية هنالك نظرية تدعوا الى أن تكون المباني المصممة ترتبط بتأريخ المكان وتمتلك عناصر معمارية تميزها عن غيرها من المباني في دول العالم من خلال الاستلهام من تلك المباني التأريخية. واليوم إذا صمم المعمار مبنى يمتلك عناصر وتفاصيل معمارية مقتبسة من عمارة تلك المباني هل هنالك أي إشكال في ذلك ؟
وكانت الإجابة:
ج/ لا مانع من التصميم بطريقة مشابهة للحضارات السابقة.

إذن كل الخبرات والتجارب الانسانية السابقة في العمارة هي متاحة للمعماريين اليوم لإنجاز أعمال تعبر عن المجتمع أولاً وعن المعمار المصمم ثانياً، ولكن بنفس الوقت هنالك رأي  يكرره الاكاديميون دائماً عند نقدهم لمشروع معين يحتوي على رموز ومصادر من عمائر تنتمي جغرافياً الى دول اخرى : ماعلاقة تلك الرموز بالعراق، ما علاقتها بالبيئة التي نعيش فيها؟

لذا على المعماري أن يجد قصة ملائمة تربط بين تلك الرموز وبين الفكرة التي يريد إيصالها للمجتمع الذي سيشاهد ويستعمل المبنى الذي يصممه، هذه القصة يجب أن تكون مقبولة وممتعة ومثيرة للإهتمام.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق