الثلاثاء، 10 فبراير 2015

التراث المعماري وخيبة أمل المتلقي

في ظل خيبة الأمل التي نعيشها يومياً، تجتمع الأسباب التي تدعونا للكتابة، ولكن ما الفائدة من الكتابة في وضعنا الحالي؟!
هنالك الكثير من التفسيرات الحالمة والمثالية لفوائد الكتابة والتي يتداولها الكتّاب حول العالم، ولكن الأكثر منطقية في العراق هو أن تُخرج مافي صدرك من همْ ... وإلا (تموت ناقص عمر).
تستمع قبل يوم لحديث سابق للدكتور إحسان فتحي عن إهمالنا للتراث المعماري وخسارتنا لـ80% من المنجزات المعمارية الماضية (التي من المفترض أن تكون مكتبتنا التي نرجع اليها عند إنجازنا لمشاريعنا المعاصرة، بعد أن نطورها مع ما يناسب كل متطلبات العصر الفكرية والمادية)، ثم تقرأ بعد ذلك خبراً في وسائل الاعلام، عن ترشيح بغداد ضمن شبكة المدن الإبداعية في منظمة اليونسكو والتي تعد المدينة المرشحة الأولى عربياً! لما تمتلكه من إرث ثقافي وحضاري وأدبي وما تمتلكه من علاقات متميزة مع المحيط الخارجي الثقافي!
فتسب وتشتم من يحلو لك شتمهم دائماً، وتتساءل: عن أي إبداع يتحدثون ؟

هل يوجد على الأرض مشروع معماري مبدع؟ يوجد واحد أو إثنين؟ هل هي كافية لتسمية بغداد مدينة إبداعية؟
وبعد أن تبحث عن تفاصيل الخبر في وسائل أخرى، تكتشف أن الترشيح هو في مجال (الأدب) فقط بإعتبار مدينة بغداد منبعاً للأدب والثقافة منذ العهد العباسي!
ولعل من الأدلة على إبداعها أدبياً هو فوز رواية (فرانكشتاين في بغداد) للكاتب أحمد سعداوي بجائزة بوكر العربية في دورتها السابعة لعام 2014 بإعتبارها أفضل عمل روائي نشر في ذلك العام، ولكني لم اقراها حتى هذه اللحظة لأسبابي الخاصة، والجزء الثاني من دليل الابداع هذا هو ترشيح رواية (ريام وكفى) للروائية هدية حسين ضمن قائمة الـ(16) لنفس الجائزة هذا العام من بين 180 رواية عربية.


وفي المقابل فأن أصحاب المدينة (بغداد) ليسوا مهتمين بتراثها المعماري (ليس من الضرورة هنا ذكر حال المعالم المعمارية التراثية السيء) وليس لديهم نية بترشيحها كمدينة إبداعية معمارياً.  
إذن كيف سنضمن وجود أجيال من المعماريين الشباب مرتبطين إيجابياً بمدينة بغداد؟ وهم لا يرون نتاجات ماضية مبدعة ولا نتاجات معاصرة مبدعة!  ونحن نطلب من الشباب دائماً أن يحبوا مدينتهم، ويصمموا ما يناسبها ويناسب أهلها!
أن الحل لهذه الاشكالية هو أن نبحث عن التراث المعماري والإبداع المعاصر في النتاجات الأدبية التي تفتخر بها المدينة وتعتبرها سفرائها في منظمة اليونسكو.

أعتقد أن هذا هو أضعف الإيمان بل شبح إيمان.

بعد سماعي بترشح رواية (ريام وكفى) بدأت بقرائتها معمارياً، لأجدها تتضمن إشارة لمعلم مهم في مدينة بغداد كنت قد سمعت به إسماً فقط، والرواية بصورة عامة تتحدث عن فتاة صغيرة يسميها أبيها (كفى) لأنها البنت الثالثة وهو يبحث عما يبحث عنه الآباء منذ قبل الاسلام. تكتب (كفى) قصة حياتها من سبب تسميتها حتى مغادرتها وحيدة مسكن العائلة، عندما وضعت حقيبتها في صندوق السيارة وخرجت " راودني شعور بأن قصتي لم تبدأ بعد، ها أنا أضع قدمي على طريق البداية بعيداً عن بيت العائلة وأشباح الموتى، وأحس كما لو أنني أتجدد مثل شجرة في أول الربيع، وأن أعماقي تنفض عن عروقها كل ما يمكن أن يوقف جريان الدم في جسدي، وبرغم أن الوقت كان ضحى إلا أن السماء كانت تمطر نجوماً".

أما المعلم التراثي فهو مقبرة الانكليز (North Gate) في بغداد.
المقبرة كانت محل لقاء (كفى) بـ(ريحان) الشاب الجنوبي الذي وعدها بالزواج " دخلنا المقبرة الانكليزية أكثر من مرة وصارت موعداً ثابتاً للقاء بيننا.. وبرغم ان هذه المقبرة قريبة من بيتنا إلا انني لم أدخلها يوماً إلا مع ريحان، وكم دهشت حين تجولت بين قبورها المنظمة التي لا تشبه قبور موتانا، وريحان يقرأ لي أسماء الجنود الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى ودفنوا في هذه المقبرة، أسماء غريبة على مسامعي مكتوبة بالانكليزية التي يجيدها ريحان، وجلسنا تحت فيء أشجارها وارقة الظلال، وأحياناً يأتي ريحان ومعه كتاب في التأريخ المعاصر ويقرأ لي عن شخصيات تأريخية أثرت في الحياة البغدادية وفي عموم العراق، وكم مشينا على عشبها الناعم الطري، ومن ريحان سمعت للمرة الأولى بإسم المس بيل، وقفنا بالقرب من قبرها وقال ريحان هذا قبر المس بيل عالمة الآثار البريطانية والسياسية المشهورة التي عاشت في العراق وكان لها دور كبير في سياسته ويقال بانها هي من إختارت الأمير فيصل ليكون ملكاً على العراق... ثم رايت قبر الجنرال ستانلي مود قائد الحملة البريطانية على العراق في بداية القرن العشرين، وله تمثال في كرخ بغداد ازالته الجماهير الغاضبة بعد ثورة تموز العام 1958 كدلالة لإزالة عصر الاستعمار ... وكنا حين نتواعد في المقبرة تكون نجية اخت ريحان التي تصغره بأربع سنوات جالسة على السياج الواطئ للمقبرة بالقرب من مدخلها تراقب الطريق، فإذا رات أحداً من الذين يعرفوننا تنزل من على السياج الى داخل المقبرة وتصيح بأعلى صوتها: ريحان جاءنا ضيوف .. عندها نهرب من السياج البعيد.. وفي أحد اللقاءات تلك أخبرني ريحان بأنه يعتزم إذا ما دخل الجامعة أن يدرس تاريخ العراق في تلك الفترة .. هل كان ذلك سبباً كامناً في أعماقي لكي أتخصص بعد سنوات بدراسة التأريخ؟ "
وتنتهي أخيراً تلك اللقاءات حينما سمع خالها بالأمر فكسر لريحان ذراعه وهدده بكسر أنفه إذا إقترب منها مرة أخرى.



وكما قال النعمان بن منذر وذهب قوله مثلاً : "لأن تسمع بالمعیدی خیر من أنَّ تراه"، لان رؤية المقبرة اليوم يصيب بخيبة أمل إضافية، لا تصلح للقاء عفريتين حتى،  فالعشب الطري تحول الى عاكول ولا توجد أشجار تظلل وتخفي أحد خلفها، فمن سيارة مارة سريعاً تستطيع أن تلمح أي (بزونة) تتسكع في المكان وهي ليست بحاجة لنجية لكي تحذرها وتهرب من السياج.




ولكن أليست هي مقبرة لجنود الاحتلال الانكليزي ؟ فلماذا نحافظ عليها؟ ولماذا نعتبرها معلماً تراثياً حتى؟ ما فائدة التأريخ؟ لماذا لا نستفيد من مساحتها لانشاء مشروع استثماري؟ وهذا مانقلته (Iraq tradelink news agency) بتأريخ 9/1/2015 من مطالبة صادرة من العراق لبريطانيا بنقل جثامين جنودهم ودفنهم في بلدهم وبين عوائلهم لأن ليس لهم مكان في أرضنا!!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق