الهوية للغالبين
بحث في جدوى البحث عن هوية معمارية محلية
لِما تَخرج بعض الشخصيات التاريخية من صفحاتِ الكتب الى
مسامع وألسنة الناس حتى يومنا الحاضر، وتبقى شخصيات آخرى حبيسة المكتبات إن كانت
محظوظة وكتَبَ عنها أحد؟
هل سمعتهم بعالم الإجتماع إبن خلدون المتوفي عام 1406م؟ هل سمعتم بـ(مقدمة
إبن خلدون) التي جاء بها لكتابه (العِبر وديوان المبتدأ والخبر)؟
أنا سمعت بها، إن لم يكن من أستاذ او من باحث فمن الممثل الراحل حسن مصطفى
في مسرحية مدرسة المشاغبين.
لنقرأ نصاً من تلك المقدمة تحت عنوان (في أن المغلوب مولع أبداً بالإقتداء
بالغالب في شعاره، وزيّه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده) عسى أن نعرف سبب شهرة
إبن خلدون وشهرة المقدمة الخالدة:
يقول: "أن النفسَ أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وإنقادت إليه، إما
لنظرهِ بالكمال بما وقرَ عندها تعظيمه، أو لما تُغالط به من أن إنقيادها ليس لغلب
طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك وأتصل لها، حصل إعتقاداً فإنتحلت
جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به، وذلك هو الإقتداء".
ثم يقول: "حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغَلب عليها فيسري
اليهم من هذا التشبه والإقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد من أمم
الجلالقة، فإنك تجدُهُم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم
وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت".
ثم نتساءل كعراقيين هل غلبنا المغول؟ التتار؟ الفرس؟ العثمانيون؟ الإنكليز؟
الأمريكان؟ أم هم الغالبون؟
كنتُ أستمتع وأنا أستعمل المفردات
التي أعتقدُها بغدادية أصيلة ورثتها عن جدّتي رحمها الله مع كثير من القصص
والأمثال الشعبية. ثم عثرتُ في يومٍ ما على كتاب (معجم الألفاظ الدخيلة في اللهجة
العراقية الدارجة)، لأجد أن أغلب إن لم يكن جميع تلك المفردات هي من اللغتين
الفارسية والتركية. ثم هنالك المفردات القديمة ذات الاصول الانكليزية والمفردات
الانكلو-أمريكية المعاصرة التي نستعملها في لغتنا اليومية.
هل سمعتم بنيكولو مكيافللي المتوفي عام 1527م؟ هل سمعتم بكتابه (الأمير)؟
كان هتلر يضعه على مقربة من سريرهِ فيقرأ فيه كل ليلة قبل أن ينام.
لنقرأ منه نصاً تحت عنوان (حُكم المدن أو الممالك التي كانت قبل إحتلالها
تعيش في ظل قوانينها الخاصة)، فقد نكتشف السبب الذي جعله رفيقاً لهتلر دون غيرهِ
من الكتب.
يقول مكيافللي: "عندما تكون الدول التي تم إحتلالها، قد ألِفت الحرية
في ظل قوانينها الخاصة، فهنالك ثلاثة سبل للإحتفاظ بهذه الدول، أما السبيل الأول
فهو تجريدها من كل شي، وأما الثاني فهو أن يذهب الأمير المحتل ليقيم في ربوعها،
وأما الثالث والأخير فهو أن يسمح لأهلها بالعيش في ظل قوانينهم مكتفياً بتناول
الجزية منهم وخالِقاً فيها حكومة تعتمد على الأقلية الموالية للحاكم. وتدرك مثل
هذه الحكومة التي خلقها الأمير، أنها تعتمد في بقاءها على صداقته وحمايته، ولذا
فهي تبذل بالغ الجهد للحفاظ عليهما. يضاف الى هذا أن المدينة التي ألقت الحرية لا
تُذعِن بسهولة إلا الى أبنائها ومواطنيها، هذا هو السبيل الصحيح للإحتفاظ بها".
ثم يضرب مثلاً بالاسبرطيين في تخريبهم لعدد من المدن للاحتفاظ بها قائلاً:
" وكل من يسيطر على مدينة حرّة لا يقوم بتهديمها، يتعرض هو للدمار منها،
لأنها ستجد دائماً الحافز على العصيان بإسم الحرية وبإسم أعرافها القديمة التي لا
يسدل الزمن عليها سجف النسيان، ولا تلحق بها المنافع الجديدة الإهمال والتغاضي،
ومهما عمل الحاكم الجديد، فإنه لن يستطيع أن يُنسي أهلها إسم مدينتهم أو أعرافها
الا إذا مزقهم شر ممزق، وفرقهم في كل صقيع".
هل نعرف كيف سيطر المغول على
بغداد؟ التتار؟ الفرس؟ العثمانيون؟ كيف سيطر الانكليز سابقاً والأمريكان بعد2003
على بغداد واحتفظوا بها؟
من منهم قام بتهديمها وقتل أهلها ومن منهم قام بتشكيل حكومة موالية له عملت
على تمزيق المجتمع شر ممزق؟ من منهم إختار سبيل الهدم ثم سبيل تشكيل الحكومة الموالية
توالياً؟
كنت في الصف الثاني الابتدائي حينها ولكنني أقرأ الآن عن حرب الخليج عام
1991 في كتاب (دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التأريخ). يصف المؤلف بغداد ليلة
الحرب: "جنّت المدينة التي يلفها الظلام، وخَطت سماء الليل خطوط أضواء ملونة
صادرة عن قذائف منحنية المسارات. كانت السنة اللهب الصادرة عن فوهات المدافع
الكبيرة تعكس ظلال الابنية العالية، ومثل عاصفة رعدية شيطانية، تداخل صخب دوي
المدافع، إنفجار القنابل، فرقعة البنادق الآلية وعويل محركات الصواريخ الساقطة من
السماء. وميض نار، هسيس هائل فانفجار جديد. هذا كله من أول 52 صار كروز تطلق على
العراق، ثم أُسقط عليه 95000 طن من
القنابل بعد ذلك". وكانت تلك الحرب كمُزحة لما حصل بعدها عام 2003.
كُنت أنوي الكتابة عن الهوية المعمارية!
أذكر نفسي وأذكركم دائماً أن القضايا المعمارية هي غالباً قضايا مفتوحة
وجدلية، ففي قضية الهوية تحديداً نجد العديد من الكتب ورسائل وأطاريح الدراسات
العليا، وعلينا أن لا نجعل ذلك عائقاً أمام بناء رأي خاص بنا وقول ما نعتقد به.
لو بذلنا أبسط جهد في كتابة (هوية) على Google والذهاب الى أول نتيجة بحث في وكيبيديا فسنجد أنها تعرّف الهوية كـ(مصطلح
يُستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعة، وهي أيضاً مُجمل
السمات التي تُميز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها).
فنترجم ذلك الى العمارة بالمبادئ والعلاقات والعناصر المعمارية التي تميز
عمارة مجتمع معين ضمن منطقة جغرافية (قرية، مدينة، دولة) دون غيرهِ من المجتمعات
والمناطق. ليس التكوين الشكلي المادي الناتج فقط، وإنما طبيعة الفضاءات التي يحيط
بها التكوين وطبيعة إستخداماتها. أي القضايا المعمارية المادية وغير المادية.
هل لا زلتم تتذكرون ماذا قال إبن خلدون ومكيافيللي؟
نحن مجتمع مغلوب نسكن في منطقة جغرافية مُثيرة لمطامع الآخرين بشكل عجيب.
فيأتون لتهديم منطقتنا وتنصيب حكومات موالية لهم، ونتيجة لهذه السيطرة فنحن ننقاد
لهم، نتشبه بهم ثم نقتدي بهم، ولا أعتقد إنني بحاجة للحديث عن علاقتنا بالأمريكان
كحالة دراسية، لنفهم كيف كانت علاقة أجدادنا بالمحتلين حيث يدّعي أحد الكتّاب
العراقيين إنه بغدادي أصلي لأن نسبه يرتبط بالباشوات العثمانيين!
لذا فإننا نبدل جلودنا وما نتميز به مع كل إحتلال دوري، ولا نستطيع
المحافظة على سمات هويتنا الشخصية والتي تنعكس على الهوية المعمارية بالتأكيد.
لكن ألم يستطع أجدادنا وآباءنا التأسيس لهوية معمارية عراقية على الرغم من
عيشهم بنفس هذه الحتمية التأريخية؟
الإجابة هي أننا قد نشترك مع بعض المحتلين السابقين بالمنطقة الجغرافية لأنهم
يجاورونا من الشمال والشرق، (فنشترك بالطوبوغرافيا والمناخ ومواد البناء) أو نشترك
معهم بالديانة وما توجه به من أخلاقيات ومبادئ وسلوكيات فردية ومجتمعية. ثم قد
يأتي بعض المحتلين بمعماريين لديهم خبرة سابقة للعمل في منطقة جغرافية شرقية
آسيوية قد نشترك معها بنفس ما سبق (مناخ، مواد بناء، أفكار وسلوك).
تلك المشتركات جعلتنا نتقبل ونهضم بسرعة ما تم فرضهُ علينا ثم نقتدي به
ويصبح جزءاً من هويتنا العراقية. لست بحاجة أيضاً لضرب الأمثال لأننا سنكتشف أن البعض
من خير العمائر التي نعتز بها تعود أصولها الى غيرنا من المجتمعات المجاورة.
لكننا اليوم نعيش ظروف مختلفة جداً، فالمحتلين من قارات بعيدة جداً لا
نرتبط معها بمشتركات كثيرة، ثم أن ذلك الإحتلال يمتاز بوسائلهِ المتعددة،
العسكرية، التكنولوجية والثقافية. ولسنا وحدنا من يعاني من ذلك الإحتلال وإنما
جميع المجتمعات المسلوبة في العالم. والتسمية الرسمية لذلك الاحتلال هي (العولمة).
أن تفرض المجتمعات القوية نفسها على المجتمعات التي تشعر بالضعف، فتجعلها
تقتدي بها وكل ذلك في سبيل الإستيراد والشراء والإستهلاك.
قد نكتشف أن لا جدوى من محاولة المعماريين بمفردهم البحث عن تحقيق هوية
معمارية عراقية موحدة في أعمالهم والمجتمع مغلوب ويحاول الإقتداء بالغالب. يجب
علينا اولاً أن نقتنع أننا شعب قوي وعظيم ويمتلك من السمات المميزة التي لا حاجة
معها للتشبه بالآخرين. (لا أعرف كيف ونحن نذهب سنوياً الى دول المحتلين ونندهش
بمنجزاتهم ونعود للبكاء على أرض الوطن).
واحدة من وظائف الهوية المعمارية هي التواصل مع الماضي، أن يتذكر الإنسان
ماضيه الذي يحّن اليه. أخبرني المعمار راسم بدران عن ذلك الأمير السعودي الذي دخل
الى أحد مشاريعه الجديدة فقال للمعمار: وكأنني دخلت لبيت جدي الذي كنت اعيش فيه أحلى
أيام طفولتي. أتذكر أيضاً مشهداً من فلم Ratatouille عندما يتذوق
المقيّم طبق الـ Ratatouille فيعود دودياً (خلال ثقب دودي) الى طفولته وهو يتناول طعام والدته
اللذيذ على طاولة المطبخ.
ولكن ماذا إن كان المجتمع يريد ويحاول نسيان الماضي؟ إن كان الإنسان فقيراً
معدماً ثم تحول الى أغنى الأغنياء (نتحدث عن أولئك المتحولين يومياً) هل يريد أن
يتذكر الماضي؟ هل نعتب عليه لأنه لا يريد أن يتذكر تلك الأيام التعيسة وتفاصيلها؟
لا أعرف لِما يتحمل المعمار ذنب عدم تحقيق هوية معمارية وهو يلبي متطلبات
العميل العراقي؟ قرأت مؤخراً للدكتور خالد السلطاني وأنا أبحث عن (هديبْ العظيم)
يقول : "في كثير من الحالات عندما يتعاطى المعماريون مع موضوعة تصميم البيت
السكني، فإنهم يلجأون الى أمرين: أولهما، يكمن في نزوع المعمار الى تأكيد (الذات)
المُصَمِمة، من خلال تخليق تكوين تشي مفرداته التصميمية بذلك التأكيد وبالرغبة في الإستدلال
عليه، والثاني يكمن في مراعاة المُصمم لرغبات رب العمل و(ساكن) الدار المستقبلية
والتماهي معه، أكثر بكثير من الاشارة الى (ذاتهِ المُصَمِمة). في عمارة (دار هديبْ)
تلاقت تلك النزعتان على سطح واحد لتطرح في الأخير أحد النماذج التصميمية ذات اللغة
المعمارية الفريدة".
وإن لم تتلاق؟ الا يحق للعميل (رب
البيت) أن يعبر عن ذاتهِ في بيت الحلم وعنوان إجتهاده وشخصيته؟
نحن بحاجة للإعتراف أن قضية الهوية المعمارية هي قضية سياسية وإجتماعية وإقتصادية
قبل أن تكون قضية معمارية، وليس من السليم أن يتحمل المعماريون فقط ذنب عدم
تحقيقها.
ونحن بحاجة الى الاعتراف أيضاً أن هويتنا المعمارية هوية تجميعية مرنة ولم
تكن هوية عراقية صافية في يوم من الأيام.
هل نتحرر من مسؤوليتنا كمعماريين؟
أعتقد أن مسؤوليتنا هي أن نبحث عن نقاط قوتنا أولاً ونعتقد نحن كمعماريين
فقط أننا ننتمي لمجتمع متعدد مختلط مرن، مر بتجارب عديدة وإكتسب من الخبرة
المعمارية الكافية لخلق مباني تلائم متطلبات المجتمع المعاصر وترتبط بالماضي الغني
لذلك المجتمع وأرضه.
ثم ننتظر أن يرزقنا الله بعميل مشابه لـ(هديب الحاج حمود) رحمه الله، فتتلاقى
ذاتينا ونحقق منجزاً معمارياً جميلاً يدفع الآخرين الى الإعجاب به ومن ثم محاوله
التشبه به وتقليده.
والآن حان موعد الإجابة عن سؤال الإفتتاح، لما لا زلنا نتذكر إبن خلدون
ومكيافيللي؟
يقول عبد الهادي فنجان عن كتاب الأمير: "إن سر نجاح كتاب الأمير
وصموده لمئات السنين هو في جرأته على طرح ما يخجل الآخرون عن طرحه في حين هم الذين
يمارسون هذه الطروحات".
فنحن نقتدي بالغالبين ونحترم الموالين للمحتلين ونريد أن نحقق هوية معمارية عراقية.