السبت، 24 مايو 2014

مدينة تحت مدينة

إحتفظت (حنة) بجبينها ملتصقاً على زجاج النافذة وشفتاها تتحركان، وبعد لحظة طويلة من التفكير قالت: ( إني لم أفكر بذاك مطلقاً من قبل).
وسألت جولييت: (تفكرين بماذا؟).
فقالت حنة: (لقد خطر لي الآن فقط أن هنالك في الواقع مدينة تحت مدينة، مدينة ميتة، هنا تماماً، وتحت أرجلنا بالضبط).
وراحت جولييت تدفع بأبرتها دخولاً وخروجاً في الثوب الأبيض وقالت: (أبتعدي عن النافذة، لقد فعلت الأمطار فعلها في نفسك!).[1]
وخارج العالم القصصي، خطر لي إن هنالك في الواقع مدينة أو مدن تحت مدينة بغداد ولكنها مدن حية وقد تكون بجانبنا وليس تحت أرجلنا بالضبط !
ولان (حنة) بطلة القصة قررت إنهاء حياتها بسبب ترك (فرانك) لها، ورمت نفسها في صهريج مياه الامطار في المدينة، سأتناول تلبية العمارة والانشاء لحاجات فعالية إنسانية يومية وهي إقامة مجلس الفاتحة على روح المتوفين من أفراد المجتمع العراقي.
في المدينة الاولى، عند وفاه أحد الاشخاص وبعد إكمال مراسم التشييع والدفن، هنالك قاعة خاصة يستقبل فيها ذوي الميت المعزين من الاصدقاء والاقارب لمدة ثلاثة أيام (ساعتان يومياً)، وهي تحجز مجاناً لينال صاحب الجامع او الحسينية ثواب إستخدامها.
 معمارياً غالباً ماتكون تلك القاعة ملحقة بجامع أو حسينية، فتاخذ شكلها الخارجي من طرازه أو طرازها (التصميم الكتلي، نوع الاقواس والتفاصيل الشكلية، مواد الانهاء) أما المتطلبات الوظيفية الداخلية فتتمثل بالفضاء الواسع لأستيعاب أعداد المعزين والذي يضمن التأثيث المناسب بـ(كراسي أو قنفات) مع توفير التواصل البصري والسمعي بين الحضور، لان المُعزي يطلب من جميع الحضور قراءة سورة الفاتحة على روح المتوفي، وبعد أكمال القراءة يحيونه بالقول (الله بالخير) ويرد عليهم بالمثل، يوزع خلال تلك الساعتين الماء والقهوة والشاي على الحضور، وفي اليوم الثالث والاخير يتم إعداد الطعام فتنصب الموائد في ساحة الجامع او الحسينية او يوزع الطعام مغلفاً على الحاضرين والفقراء.


أما في المدينة الثانية، فالأمر مختلف تماماً، وسبب الإختلاف إجتماعي وتخطيطي فتلك المدينة (الشعبية بالتحديد) تمتاز بالترابط والفكر العشائري، فهي مدن تأسست حول مدينة بغداد القديمة وسكنها مجاميع من العوائل التي تنتمي لنفس العشيرة، وقد نزحت من محافظات اخرى وبفترات زمنية مختلفة، أما السبب التخطيطي فهو صغر مساحات قطع الارض المخصصة للمساكن والخدمات العامة (كالجوامع والحسينيات) في مقابل العدد السكاني الكبير علاوة على ما حصل مؤخراً من تقسيم تلك القطعة الصغيرة الى مسكنين أو أكثر، مما أدى الى اختلاف فعالية إقامة مجالس الفاتحة.
فبعد إقامة مراسم التشييع والدفن تنصب خيمة كبيرة (جادر يتم إستأجاره من مكاتب مختصة) في وسط الفرع أو الشارع، فتقطع حركة السيارات وتتوقف نشاطات سكان الفرع المجاورين لاصحاب مجلس الفاتحة، ويستقبل ذو الميت المعزين في هذه الخيمة من الصباح وحتى المساء ولمدة ثلاثة ايام أيضاً، ويطبخ الطعام يومياً على الغداء والعشاء للحضور، والطبخ يتم أما داخل أحد المساكن أو تنصب القدور في الشارع علاوة على نصب مغاسل متحركة للحضور بعد الانتهاء من تناول الوجبات، وبسبب التكاليف الهائلة للمجلس من إجور الخيمة والكراسي والموائد وأواني الطعام وإجور الطعام الذي يتضمن اللحم وجوباً يقوم المعزين بمشاركة عائلة المتوفي بمبالغ مالية تعكس المكانة الاجتماعية للفرد داخل العشيرة، تسجل في دفتر خاص لتقوم عائلة الميت بردها كلما حصلت مناسبة مفرحة او محزنة لأحد المشاركين.
وما يخصنا معمارياً هو الخصائص الانشائية للفضاء الحاوي لتلك الفعالية (الخيمة) والتي تتكون من مقاطع حديدية متنوعة يتم تركيبها في الموقع ومن ثم تفكيكها عند الانتهاء وتغطى بقماش سميك وظهرت أخيرا أجهزة ومعالجات مستحدثة مثل تبريد الخيمة صيفاً بمراوح عملاقة توضع في طرفها.



ولأننا نتسأل دوماً: (شوكت يصير براسنا خير؟) ما هو الحل لتخلفنا عن جميع دول العالم؟ يجيبنا الدكتور محمد رءوف حامد في كتابه (إدارة المعرفة والابداع المجتمعي) بالقول: ان القوة الدافعة للتغييرات السريعة الجارية في العالم تعود في الأساس الى متغيرات العلم والتكنولوجيا، ومن المناسب الانتباه الى إن هذه المتغيرات لم تكن لتحدث في غياب التفكير العلمي، وتتصاعد الدعوة في السنوات الاخيرة من أجل تدعيم أستخدام التفكير العلمي بواسطة الانسان العادي في البلدان النامية أثناء ممارسته لكافة أموره الحياتية( في المنزل والشارع والمدرسة والعمل).

إذن: أين التفكير العلمي من إغلاق حركة السيارات في شارع لمدة 3 أيام وتعطيل حياة سكانه ( إذا لم يتعرض أحدهم لطلق ناري من قبل المعزين) بسبب إقامه مجلس فاتحة لشخص متوفي؟
أين التفكير العلمي من إقامة طعام الغداء والعشاء لاشخاص يمتلكون الطعام في بيوتهم أصلاً؟
واينه من تكليف عائلة المتوفي لمبالغ طائلة علاوة على مصيبتهم بوفاه شخص عزيز عليهم؟

وأخيراً لكي نرى مدينة واحدة مواكبة للتطور الاجتماعي والثقافي والتكنولوجي الذي يعيشه العالم اليوم يجب أن يثور أحد على تلك العادات والتقاليد العشائرية لأنها تنعكس على جميع سلوكيات الافراد وجميع ما ينتجونه في حياتهم اليومية.  

   


[1] مياه في أعماق المدينة، قصة قصيرة، راي برادبري، ترجمة يوسف ابراهيم جبرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق