الثلاثاء، 7 أبريل 2015

تحت نصب الشهيد

 عن أبي عمرو بن العلاء (أحد القراء السبعة وعالماً باللغة والنحو) قال:

"من أقام ببغداد ومات فيها ... نقل من جنة الى جنة"

ولا أعرف هنا مادفع بن العلاء الى إفتراض، أن من يقيم ببغداد يدخل الى الجنة بعد وفاته؟!
ولان الإنتقال من مكان الى مكان آخر، أو من (صوب) الى (الصوب الثاني)، بحاجة إما الى باب واحد، أبواب، أو الى جسر، جسور، فأنا أعتقد أن في كل حقبة بغدادية تفتح بوابة أو جسر جديد بين الجنتين وبفعل فاعل. ذلك الفاعل هو المعمار أو الفنان بالتحديد من بين سكنة الجنة الأرضية.

إحدى تلك البوابات زرتها قبل 13 سنة وجاءت الفرصة اليوم لأزورها مرة أخرى.

بعد قبولي لدراسة الهندسة المعمارية، وفي المرحلة الأولى، تم دعوة طلبة الهندسة المعمارية في الجامعات العربية، لعرض مشاريع تخرجهم في العراق، وكان موقع العرض الذي تم إختياره لأسباب مجهولة لديّ حالياً... هو نصب الشهيد في بغداد.
زرنا النصب لأول مرة صباحاً مع زملائنا في الجامعة، وكررنا الزيارة في اليوم اللاحق مع عدد من الأصدقاء. الحقيقة أن ما تبقى من تلك الزيارتين في ذاكرتي مجرد صور غير مترابطة:

-ممر مسقف بأقواس بيضاء مكررة.
-القواطع المصفوفة في الفضاء الداخلي لعرض مشاريع الطلبة المبهرة (لكوننا في المرحلة الأولى، ولأننا لم نشاهد مسبقاً مشاريع تم إظهارها ببرامج الإظهار الحاسوبية).
-طالب لبناني يرتدي تي شيرت أحمر، أُعجبت به إحدى الزميلات مما دفع زميل آخر لشراء تي شيرت مشابه وأرتداءه بعد أيام.
-ممر مجاور لنافورة مياه، تشعر برذاذها عندما تقف لأخذ صورة، بأول جيل وصل للعراق من الكاميرا الرقمية، إشتراها أحد الأصدقاء.
في السنة اللاحقة للزيارة تغير النظام، وسيطرت القوات الامريكية على النصب لتجعله مقراً لوحداتها، تستخدم فضاءاته الداخلية للعمل والنوم، بعدها تم تسليمه للحكومة العراقية، ليصبح أخيراً مقراً للدائرة الإعلامية لمؤسسة الشهداء العراقية.
هذه المرة الزيارة مختلفة، كانت مع المرحلة الاولى لطلبة هندسة العمارة، ولأنها في الزمن الحاضر فلا تزال تفاصيلها واضحة، ولا أعرف ما سأتذكره بعد 13 سنة أخرى.
ويمكن القول أن هنالك 3 أدوات مكنت (إسماعيل فتاح الترك) من تحويل نصب الشهيد الى بوابة سماوية خالدة:

-المقياس: لقد إعتاد الإنسان على مقاييس وأحجام أدوات حياته اليومية، إرتفاع الأبواب التي يستخدمها، مستويات طوابق الأبنية التي يعيش ويتحرك فيها، وحتى مقياس القبة كعنصر في الأبنية الدينية ولكنه ينظر اليها دائماً من مسافة بعيدة. ولكن الإحساس المتولد عن الوقوف بجانب نصف قبة مفرغة ترتفع 40 متر عن مستوى الأرضية التي تقف عليها، هو إحساس جديد كلياً ... الإنبهار،الرهبة، الخشوع، الإحترام. مهما كان الانسان فخوراً بنفسه يدّعي القوة والعظمة سيقف صغيراً أما أصحاب الذكرى ... الشهداء.


-الفضاء: ما فائدة المقياس الضخم مع وجود منافسين آخرين للنصب تشعر بالرهبة عندهم أيضاً، فيفقد النصب مكانته الروحية. كم كان إسماعيل فتاح الترك مبدعاً! لقد أستخدم 3 عناصر فقط، نصفي قبة وعلم ... وأبقى تلك المساحات الشاسعة فارغة تماماً. لقد قال ثلاث كلمات فقط ولكنها تحمل كل المعنى الذي يريد أيصاله. فالفضاء المحيط بالنصب هو الساند للمقياس في إيصال المعنى، وللحفاظ على إنسيابية وتواصل الفضاء تم تسقيط كافة الفضاءات المطلوبة في العرض تحت مستوى الأرضية، ومع الأسف نجد أن ذكرى المعماري المصمم لتلك الفضاءات (سامان أسعد كمال) قد أختفت تحت مستوى معرفة المجتمع أيضاً! الجميع يتحدث عن الفنان إسماعيل الترك المبدع للنصب فوق الأرضية ولكني لم أجد أي معلومة عن المعماري المصمم لبقية تفاصيل النصب المبدعة.




-التجريد: نجد أن أغلب النتاجات الفنية التي إستطاعت المحافظة على نفسها (مادياً)، رغم تبدّل الأنظمة في العراق هي أعمال مجردة من الرموز التي تشير الى جهة معينة دون غيرها، فهي أعمال تخاطب الإنسانية العراقية، كما في نصب الحرية لجواد سليم (على الرغم من أن رفعة الجادرجي يذكر أن عبد الكريم قاسم كان قد أعلن عن رغبته لوجود تجسيد لشخصه في النصب ولكنه (رفعة) لم يوصل تلك الرغبة لجواد سليم الذي كان يعمل على النصب في فلورنسا)، وأيضاً أعمال الفنان محمد غني حكمت التي وضعت مؤخراً في ساحات بغداد. وهذا هو الحال مع نصب الشهيد فهو من الداخل والخارج لا يحتوي على أي عناصر أساسية مرتبطة برموز وأفكار النظام السابق.


وقبل نهاية الزيارة ونحن نجلس أسفل أحد الأنصاف سألني صديقي: هل نستطيع إنجاز منتج فني أو معماري يقترب من مستوى نصب الشهيد في الوقت الحالي؟

وأعتقد أن الإجابة تتم بمرحلتين: الأولى، هل ينخفظ الإبداع بمرور الزمن أو بوجود المحن؟ هل قلَّ عدد المبدعين أو مستواهم الفكري حالياً؟ ومنطقياً: أن هنالك من يمتلك الموهبة والإبداع وقادر على إنتاج أعمال مشابهة.
أما المرحلة الثانية، إذن لماذا لم نستطع إنجاز عمل مقارب في ظل المرحلة الحالية؟
وهنا يبدأ الضيم والقهر والحديث خارج حقل العمارة ... وسأترك الإجابة لكم هذه المرة.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق