الثلاثاء، 12 مايو 2015

الحفاظ على العمارة أم بناء المعمار؟

بدأ كغيره من أيامي العراقية، ولكن الفرق الوحيد هو أن شريط حذائي إرتخى قبل وصولي الى الشارع الرئيسي، ولسبب معين إختار الشريط أن يرتخي بالقرب من تجمع القمامة الوحيد في المنطقة.
 الحقيقة أن سيارة جمع القمامة متواجدة يومياً وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التجمع باقي ويتمدد، والسبب هو أنه يقع في مدخل محلات مندرين.
ولمحلات مندرين إسطورة أقصها عليكم: كان هنالك تاجر في سوق الشورجة ببغداد أراد إغلاق محله لأسباب غير معلومة، ولأن المحل يحتوي على بضاعة كثيرة، قرر أن يجلب تلك البضاعة الى حديقة منزله في الكرادة، ويعرضها على الجيران لعلهم يشترونها بثمن الكلفة ليتخلص منها ويحولها الى أموال هو بحاجة اليها.
وبعد أن نفذ الفكرة وجد أن الأمر مريح ومربح جداً فهو ليس بحاجة الى الذهاب يومياً الى الشورجة وليس بحاجة الى دفع الإيجار الى مالك المحل، والزبائن هم من الجيران المريحين في التعامل، فقرر أن يكمل التجربة، وحول الحديقة الى محل متواضع وأخذ يجلب البضاعة من الشورجة ويبيعها بأسعار مناسبة بسبب عدم دفعه لبدل الإيجار. ولأن الناس (حاطين عينهم) قرر جيرانه بعد فترة زمنية أن يقلده وحول حديقته الى محل وبدأ بجلب بضاعة مختلفة عن جاره، ومن لم يجد مبتغاه هناك يأتي اليه والارزاق على الله. ولأن الفرع ملئ بالحدائق والعيون، أخذ الجيران بفتح محلات أخرى، ليتجاوز الأمر الحدائق ويصل الى غرف الاستقبال وكراجات السيارات، فتحول الفرع السكني الى فرع تجاري بإمتياز، قد تكون الأمور حتى هذه اللحظة مقبولة! ولكن بعدها إمتدت المحلات الى الفرع العمودي عليه وبعد تحول كل الفضاءات الممكنة الى محلات بدأ أصحاب البيوت بالتجاوز على الرصيف وتأجيره الى أناس أخرين.
وفي ظل هذه الفوضى التجارية وسوء الأوضاع الامنية تم غلق الفروع المؤدية الى هذا الفرع بالحواجز الكونكريتية، ولم تستطع سيارة جمع القمامة الدخول، لذا إضطر سكنة هذا الفرع الى رمي القمامة في (رأس الفرع) والجميل إنها بجوار مدخل السوق مباشرة !
أما سر التسمية فإن رأس الشارع المطل على (الكرادة خارج) يشغله محل حلويات "مندرين غراوي" فأصبح إسم السوق "محلات مندرين".
الجميل إنني وبعد كل تلك المخالفات التي أرتكبها أصحاب البيوت وتأثيرهم على منطقتنا، كنت ذاهب ذلك الصباح الى الندوة العلمية الموسومة "دور التشريعات والقوانين في الحفاظ على العمارة المحلية وتطويرها" في جامعة أوروك الأهلية.
وبعد الدخول الى مبنى الجامعة الذي أذهب اليه للمرة الأولى والإنتقال الى القاعة المركزية المصممة والمؤثثة بطريقة مناسبة تصعب على العين المعمارية إلتقاط الأخطاء والعيوب، بدأت الندوة ...
كانت المحاضرة الأولى للدكتورة غادة رزوقي رئيس قسم هندسة العمارة في جامعة بغداد لتتحدث عن مسح شامل للقوانين والتعليمات العراقية منذ العهد العثماني ومن ثم الاحتلال الانكليزي فالدولة العراقية بحثاً عما يمس الحفاظ على المباني الاثرية والتراثية وتنظيم عملية التخطيط والبناء المستقبلية.
ثم يأتي دور الدكتور مصطفى كامل التدريسي في قسم هندسة العمارة في الجامعة التكنولوجية، فيتحدث لنا عن حال شارع الرشيد في الماضي والحاضر التعيس، ويقارن الأمر مع منطقة وسط بيروت (السوليدير) وأخيراً ملخص للمقترحات التي من الممكن تطبيقها للوصول بشارع الرشيد الى حالة مقبولة بدلاً عن حالته الحالية.
وهنا جاء دور الحضور في توجيه الاسئلة والتعليقات المرتبطة بمادة الجلستين والتي كانت خلاصتهما ضعف أو عدم الإهتمام الكافي بالعمارة المحلية في التشريعات والقوانين والتعليمات العراقية، وهذا من الناحية التشريعية طبعاً ولم يتم الحديث عن ضعف الناحية التنفيذية للقوانين والتشريعات الموجودة على الورق، كما في سوق مندرين سابق الذكر، فهل يجوز تحويل فرع سكني الى سوق تجاري يستهلك كميات هائلة من الطاقة الكهربائية ويضايق بسيارات زبائنه جميع السكان القريبين منه.
وأنا متأكد لو أن موظفي أمانة بغداد من (العميان) لإستطاعوا أيضاً الوصول الى هذا السوق ومخالفاته العديدة وبالتأكيد هنا (متشتغل) عبارة : قطع الاعناق ولا قطع الارزاق!
وبالعودة الى مشاركة الحضور وهو الموضوع الأهم لديّ، كان آخر المشاركين أستاذ من قسم هندسة العمارة بجامعة بغداد وأنا للأسف لا أستطيع حفظ الأسماء بسهولة، وهو طالب دراسات عليا في أحد الجامعات الألمانية، حرّك هذا الاستاذ المياه الراكدة، لقد تحدث بحماس وعصبية وإنتقد كل الفعاليات والندوات السابقة كونها شكلية إستعراضية غير ذات جدوى، وطلب من السادة الحضور وهم حقيقة من أصحاب القرار في المؤسسات التعليمية المعمارية غالباً أو مؤسسات الدولة الأخرى، طلب منهم الثورة، الثورة ضد ما يحصل للعمارة المحلية الماضية أو القادمة حتى، من خلال التظاهرات والإعتصامات لأيصال الصوت والحصول على ما يطلبه كل معماري في الحفاظ على عمارة بغداد الأصيلة.
وهنا أتساءل عن سر الإنفعالية والحماس والدعوة الى التظاهر والاعتصام الصادرة عن العراقيين الذين يستقرون لفترة من الزمن خارج العراق؟ لماذا لا تصدر هذه الانفعالات من الاشخاص الذين لم يغادروا العراق، أو غادروه لسفرة صيفية ترفيهية؟
في أحد المرات قال لي سائق تكسي يحمل شهادة الآداب باللغة الانكليزية نقلاً عن أحد المسرحيات لمشاهير الأدب الانكليزي الذي لم أحفظ أسمه أيضاً: إن الإعتياد سلاح فتاك.
نعم لقد إعتدتُ أنا على وجود محلات مندرين وأذهب مع العائلة للتسوق منها دائماً، ولقد إعتدت على رؤية تجمع القمامة بمدخله كل صباح. ولكن من إستقر خارج العراق إستطاع التخلص من هذا القيد، ويطالب أن يجاهد الناس معه للتخلص منه.
ولكن هل هذا يعني أننا لا نستطيع تغيير شئ الا بوجود القادمين من الخارج؟ لا أعتقد أن هنالك إجابة مناسبة حالية تعتمد على حقائق واقعية، لأننا لم نستطع تغيير شي، بمفردنا أو بوجودهم معنا.
وبالإعتماد على ما تم ذكره في الندوة من ضرورة تنمية وتطوير السكان قبل محاولة تنمية المناطق السكنية، وباستخدام مفردة (الدعم) التي يطالب بها الجميع هذه الايام، فإن دعم الناس يساهم في دعم المدينة. وبسبب طبيعة حضور الندوة من الأكاديميين وأصحاب القرار في المؤسسات التعليمية المعمارية، فأنا أعتقد أن الخطوة الأهم والحقل الابرز الذي يستحق الاهتمام الحالي وتركيز الجهود فيه نتيجة لعدم إمكانية التأثير في الحقول الأخرى، هو حقل التعليم المعماري، يجب أن نركز على بناء معماري عراقي (مفتح باللبن) هو يصطدم بالواقع الخارجي السئ ولكنه يمتلك أساس أخلاقي وثقافي ومهني يمنعه من الإنخراط في الممارسات السلبية التي تنشد المادة دون الفن والذوق والأخلاق. وأعتقد أيضاً أن السبيل الى ذلك هو تطابق القول والفعل لدى حاملي فكر العمارة والذين ينقلونه الى الطلبة، هي رسالة يجب أن يوصلها الأساتذة بأقوالهم وأفعالهم المعمارية، ليجد الطالب أن التنظير والذي يسميه بعضهم (الكذب) هو قابل للتطبيق ويستطيع الطالب الاقتداء بمن يطبقه من المعماريين.
ومن خلال تجربتي هذه السنة مع المرحلة الأولى في قسم هندسة العمارة، وعلى الرغم من كل السلبيات التي نتحدث عنها في المجتمع، فقط كان الطلبة بشخصيات وأخلاق رائعة، وبإمكانيات عقلية جميلة كل القضية أن نظام القبول المتبع هو غير مناسب لذا نجد أن بعضهم غير متجانس مع دراسة العمارة، أما من النواحي الأخرى فهم شخصيات (متعوب عليهة) وينتظرون من يوجههم الى الطريق المعماري السليم.
وأخيراً نأتي الى مشكلة نظام القبول المتبع حالياً وخصوصية دراسة العمارة في الجامعات العراقية، هنالك طلبة يرغبون بدراسة العمارة بشدة ويمتلكون الإمكانات المناسبة ولكن معدلاتهم لا تؤهلهم للقبول في الجامعات الحكومية، وهنالك طلبة آخرين لديهم معدلات عالية وهم يرغبون بدراسة الطب والصيدلة ولكن حظهم العاثر يقودهم لاقسام العمارة في الجامعات الحكومية.
فهل تكون الجامعات الأهلية هي الحل لهذه المشكلة؟ تنتقي الطلبة الذين يمتلكون مؤهلات دراسة العمارة وبذلك فهم متقدمين خطوة على زملائهم في الجامعات الحكومية ثم تصقل تلك المؤهلات بمناهج مدروسة ومتحررة قليلاً من بيروقراطية المؤسسات الحكومية؟ حالياً لا أعلم، قد نستطيع الإجابة على هذا التساءل بعد خمسة أعوام من الآن أو أكثر بعد أن يتخرج طلبة الدفعات الاولى للجامعات الأهلية ونشاهد نتاجاتهم المعمارية على أرض الواقع.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق