شارع الرشيد
من الباب
للمحراب
يحدثنا
سيرل بورتر عن مرحلة شق وتأسيس الشارع، ولكن قبلها من هو سيرل بورتر؟
سيرل
بورتر هو ضابط في الفريق الهندسي للجيش الإنكليزي الذي إحتل البصرة يوم 22-11-1914،
وبعد إنتهاء مهمته مع الجيش عمل مدنياً في بناء سكك الحديد وشبكات الطاقة
الكهربائية، ويصفه الدكتور علي ثويني في تقديمه لكتاب (العراق مابين الحربين
العالميتين-من خلال رسائل سيرل بورتر) و(الرسائل بتحرير وتعريب أمل بورتر) بقوله:
طُبع على محبة العراق وأهله وثقافته، وعشق الحياة الصاخبة فيه وطرائق العيش والأكل
وتزوج مرتين من سيدتين عراقيتين ومكث يلهج لأبنائه بمحبته للعراق حتى توفاه الله
عام 1967 ودفن في ثرى بغداد ليكون روحاً وجسداً فيها.
كان
حينما يسأله أبنائه عن السبب وراء عدم رغبته في العيش ببريطانيا، يجيبهم بعفوية:
أنتم لا تعرفون قيمة هذا البلد، فالعراق خير بلدان الدنيا، ولا أبدله ببريطانيا
البتة.
يقول
سيرل بورتر في رسالته من بغداد عام 1919 الى اخته دورا :
أصبحت
الحياة هنا جديدة، وكل شي في تطور، البشر والعمران، كل شئ جديد، لم يشوه البلد يد
أم أن تشكله يد بالشكل الذي ترغب به، ربما الإهمال التركي كان نعمة وليس نقمة من
يدري؟ فانا أصاحب وأعايش عملية خلق بلد بكامله من الناس الى البنية التحتية
والفوقية والنظام والإدارة وكل شئ وهذا وحده مثير جداً، إذ يجد الإنسان نفسه
شاهداً على عملية خلق أمه أو إنبعاثها كما يريد أهل البلد وصفها.
الأمكانيات هائلة هنا، أرض معطاء مخربة مهملة
متروكة، وناس يخشون الظهور في أي مكان، فهم في حالة إختفاء مستمر وأعتقد ربما
سيكون لي دور ولو صغير جداً في عملية ظهورهم ومشاركتهم الحياة ودور في عملية
البناء والتأسيس. ص98
وبالعودة
الى البداية وشارع الرشيد بالتحديد، يخبرنا الدكتور علي ثويني في مقدمته أن سيرل
بورتر كان يعمل في مد وتوصيل ونصب أعمدة الكهرباء في شارع الرشيد، وكيف أخبره أرشد
العمري ملهوفاً من أنه سيرافق رئيس الوزراء لزيارة الموقع ومايجب عليه أن يظهر
تراكم الإنجاز وتقدم الأعمال من خلال خداع المسؤول الحكومي بأن يثبت الأعمدة
مؤقتاً ثم يستأجر حمالين أشداء يستطيعون نقل الأعمدة بسرعة وخفة الى مواقع متقدمة
بالشارع لحين يخرج الوفد الحكومي من مكان يلجه الوفد بإيعاز من أرشد العمري، وهكذا
إنطلت الحيلة على الحكومة بأن الإنجاز في طور متقدم، ولكن الاهم من ذلك أن أرشد
العمري كان يطلب من سيرل أن يثبت عدد أكبر من الأعمال وكم أكبر من الاعمدة كي يخدع
الحكومة ويستحصل على أموال أكبر، وهذا ما حدث بالفعل، فقد كان سيرل تابعاً
لإملاءات صديقه وخريج المهندسخانة في إسطنبول. ص11
وهذه
القصة تؤشر لنا أمر مهم، أن شارع الرشيد منذ البداية (ملعوب بي) !
وبعد أن قرأت حديث المعمار رفعة الجادرجي في الإخيضر
والقصر البلوري بقوله : أخذت في تلك الآونة أطوف في أزقة بغداد يومياً، وبالأخص
التي كنت أعرفها منذ طفولتي في الحيدرخانة وجديد حسن باشا والصابونجية وغيرها، كنت
آنذاك في أشد التوق والحاجة التصميمية لإكتشاف الخصوصيات التصميمية في العمارة
العراقية التقليدية القديمة، لكي أتخذ مما أكتشف من تلك الخصوصيات منابع أستمد
منها الحلول، وخامات أعمل على تطويرها.
لما
لا أحصل على جرعة مجانية من الخصوصيات التصميمية للعمارة العراقية؟ لما لا اقوم
برحلة في شارع الرشيد صباح الجمعة؟ صحيح أني قد قطعت أجزاء منه سابقاً ولكني لم أقطعه
من باب المعظم الى باب (الشرجي) سيراً على الأقدام، وبالتأكيد لن أدخل الى أي
زقاق! الشارع الرئيسي فقط.
وبعد
ان تأكدت النية ركبت أقدم سيارة (كراون) في بغداد، وإنطلقت من ساحة النصر وصولاً
الى باب المعظم، لأجد نفسي أمام الجدار الكونكريتي لمبنى وزارة الدفاع، والمبنى
الجميل لدار الكتب الوثائق العراقية.
ثم
بدأت الرحلة: ساحة الميدان، مقهى الزهاوي، جامع الحيدرخانة، فتاة جميلة، جندي (يجر
واحد من ياختة) مع (جلاق) بين فترة وأخرى لأنه تحرش بتلك الفتاة! مدخل شارع
المتنبي، مجموعة من الشباب القادمين من كوكب آخر بتسريحات شعر (أوفر جداً) ووجوه (مجلوفة)
أو لحى مصبوغة، الرصافي وحيداً، سوق العربي وتمثال الزعيم عبد الكريم قاسم، ساحة
حافظ القاضي، جامع السيد السلطان علي، مبنى بدالة السنك للمعمار رفعة الجادرجي،
جسر السنك ومتحف الزعيم عبد الكريم ايضاً، واخيراً مبنى المطعم التركي لأذهب
يساراً الى ساحة التحرير وأركب أقرب (كيا) الى البيت.
الجميل
أن الرحلة لم تكلفني سوى 2000 دينار مع نظارة (Ray-Ban) بـ(3000) دينار وقبعة قشية
بـ(3000) دينار أيضاً. ويقال أن المسافة هي 4 كيلومتر.
الحقيقة
أن الرحلة مفيدة معمارياً، ولكن الشارع يمثل أطلال العمارة العراقية، وليس بالجديد
القول أن الشارع مهمل جداً، وهو بحاجة الى أمين وأمانة خاصه به وحده لتحسين حالته
البائسة، وفي فترة سابقة سمعنا عن تلك الشركة التي أعدت تصاميم خاصة لتطويره ولكن
الأمر توقف في مرحلة معينة، لأن الأمور على الأرض معقدة جداً والمشاكل متشابكة الى
أبعد الحدود.
واخيراً
وأنا أتطلع الى أسلاك الكهرباء التي تشابكت هي أيضاً في كل مكان، تذكرت قصة ذلك
المثل البغدادي الشعبي التي تبدأ (بأن إعرابياً جاء الى بغداد لشراء بعض ما يحتاج،
فدخل الجامع ليصلي .... ثم تنتهي بقول الإعرابي : شيخنا ... يالله وأكبر؟ إذا هي
"متشابجة من الباب للمحراب" حالك حال غيرك) فذهب قوله مثلاً، والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق