اقول دائماً:
"لا يوجد كلام رجال في العمارة"
فلايوجد رأي او موقف ثابت في كل الاحوال، فاغلب
الآراء والقرارات المعمارية نسبية قد تتغير بالاعتماد على الحالة او سياقها.
والمرونة في الرأي والنسبية
هي صفات علمية بصورة عامة، اشار اليها الدكتور علي الوردي منذ زمن بعيد كمقياس
للفرق بين المتعلم والمثقف، فالمتعلم اقتنع بشئ ولا يستطيع ان يعيد النظر فيه او يتقبّل
ما يغايره اما المثقف فهو من يعيد تشكيل قناعاته كلما استجدت الاحداث من حوله.
وكحاجتنا لصفة النسبية فنحن
بحاجة للمنهج الجدلي في التفكير، ولكن ليس الجدل بمفهومه السلبي الشائع في ثقافتنا الشعبية،
اي رد القول بقول آخر معاكس له في سبيل انتصار احد الطرفين، وانما بمفهومه
الايجابي العالمي (الديالكتيك) المتمثل بوجود طرفين أو قضيتين متعارضتين وتسمى
(حدين) ليهدف الجدل للوصول الى (حد ثالث) يقع بينهما ويعتمد على جزئيات من هذا
الطرف وذاك، دون التفكير باي الحدود سوف ينتصر على الآخر. وواقعنا المعماري المحلي
هو منبع للقضايا المتعارضة، والتالي محاولة لمراجعة الذات واستعراض جدليتين في
دراسة العمارة تحديداً.
الجدلية الاولى:
نشتكي دائماً من أن اغلب
الطلبة الذي يقبلون في دراسة العمارة لا يمتلكون معرفة مسبقة عن طبيعة الاختصاص او
طبيعة الدراسة فيه والمهارات التي هم بحاجة اليها للنجاح والتفوق. وتكون اغلب قرارات
التقديم مبنية على عنوان التخصص فقط او اعتماداً على رأي لصديق او قريب غير معماري.
وبعد القبول والتسجيل يكتشفون الواقع والذي قد يلائمهم وقد لا يلائمهم في حالات
كثيرة. حتى مهارات الخيال والتخطيط فان اغلب الطلبة لا يعرفون ان كانوا يمتلكونها
ام لا قبل البدأ بالدراسة، ثم يبدأون باستكشاف انفسهم بعد الانخراط فيها.
ثم نطيل الحديث عن نُظم
القبول العالمية في دراسة العمارة وحتى بعض النُظم العربية وكيف ان الطالب يمتلك
الثقافة تجاه العمارة قبل التقديم والقبول فيها وهذا ما يمثل الحل الامثل للاستاذ
والطالب سوية.
لذا فالمفترض ان الطالب
الذي يمتلك تلك المعرفة المسبقة او الثقافة المعمارية الاولية لدينا، تصبح فرصهُ
اعلى في النجاح والتفوق على زملائه.
ولكن الواقع قد يثبت عدم صحة تلك الفرضية !
لا يخفى على احد الهوّة
الواسعة بين المعرفة المعمارية العلمية التي تحاول المؤسسة الاكاديمية بناء الطالب
المعماري على اساسها، وبين المعرفة المعمارية التجارية او الشعبية المنتشرة في
البيئات التي نعيش فيها. ولسنا هنا لمناقشة اسباب الفرق بين المعرفتين لتشعبات
الموضوع، ولكن الفكرة هو ان بعض الطلبة يأتي محملاً بمعرفة معمارية مشوّهة غير
علمية ناتجة عن طبيعة البيئة التي اكتسبها منها. وتظهر تلك الحالة واضحة في
المرحلة الاولى عن طريق البناء الجمالي لاعمال الطالب، فهو ينتج تكوينات تمتلك
معالم تجارية او شعبية، ولا تخضع للاجراءات العلمية التي يعتمدها المنهج الدراسي.
ما يزيد من سلبية هذه
الحالة هو عدم وجود ايمان داخلي او قناعة لدى الطالب بعدم سلامة ما يمتلكه من خزين
شكلي او معرفة معمارية، فهو مقتنع بانه قد اختار دراسة العمارة لانه يمتلك خبرة
مناسبة يستطيع توظيفها فيها، لذا فهو لا يستطيع بسهولة التخلي عما يمتلكه
والانخراط في المنهج العلمي الاكاديمي.
الامر اشبه بضرورة اجراء
عملية (Format) للبدأ من
جديد بصورة سليمة.
وهنا يصبح المثل المناسب هو
ان اقامة بناء معين من الصفر وعلى ارض خالية اسهل كثيراً من عملية اجراء تعديلات
واصلاحات لهيكل منجز سابقاً وجعله مناسب للوظيفة الجديدة!
وبذلك تنتفي صحة مطالبنا
الاولى بضرورة وجود المعرفة المعمارية المسبقة، وهذه حالة عراقية خاصة بالتأكيد ولا
تنطبق في سياقات عالمية اخرى.
كيف نستطيع تحقيق (حد ثالث) بتأهيل طالب يمتلك معرفة
معمارية اولية علمية صحيحة قبل دراسته للعمارة، فلمثل هذا فليعمل العاملون.
الجدلية الثانية:
نقول دائماً ان العمارة تتألف
من ثنائية (الفن- العلم)، ولكن هنالك ثنائية أخرى هي (الذات- الموضوع) وقد بحثها
وناقشها الكثيرين سابقاً والتي تتعلق بمصادر الاشكال المعمارية. ولكنني سأسميها
هنا ثنائية (الخيال- القواعد) لارتباطها بالحالة التي اقوم بدراستها.
عندما نريد تعليم الطلبة
الجدد كيفية انتاج التكوينات المعمارية الجميلة فاننا نعتمد على مجموعة من القواعد
او الخطوات التي تم وضعها من قبل مصادر معتمدة علمياً، نشرح تلك القواعد ونضرب
الامثلة ثم نعود لتقييم نتاجات الطلبة وفق تلك القواعد. فمن اتبعها وانتج تكويناً
جميلاً فسوف ينال درجة النجاح، ومن لم يتبعها فلن ينال درجة النجاح، ومن اتبعها
وانتج تكويناً غير جميل فلن ينال درجة النجاح ايضاً.
ان اتباع جميع الطلبة لتلك
القواعد حرفياً سيؤدي الى انتاج تكوينات متشابهة بنسب عالية، لذا يأتي هنا دور خيال
الطالب او (ذاته) المتميزة عن بقية الطلبة، لاضافة عناصر او علاقات تتحرر قليلاً من
القواعد فتعطي للتكوين شخصيته المميزة وتجعله يعلق في ذهن المقيّم او المتلقي.
وسنجد ان الاساتذة سوف يتقبلون هذا التميّز بل ويرحبون به في حالة كونه ايجابياً
او يصب في مصلحة جمال التكوين.
ولكن ما يحصل فعلياً هو ان
خوف الطلبة من الفشل او عدم نيل درجة النجاح او الرسوب بالمحصلة النهائية، يجعلهم
خائفين من اضافة تلك اللمسة، هم يحاولون التقيّد بالقواعد حرفياً لعلمهم بانها
طريقهم للنجاح. هذا الصراع بين الذات والموضوع او الخيال والقواعد قديم قِدَم
العمارة نفسها، ولكن الجديد فيه هو تأثير الخوف من الفشل وكون درجة النجاح تصطف
بجانب احد طرفي الثنائية.
يحدثنا الدكتور على الوردي
في كتابه (خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة) عن (المواهب النفسية) أو
(القوى النفسية الداخلية) والتي تقابل (الخيال) في حالتنا، وكيف اننا يجب ان نتحرر
من التركيز والارادة للانتفاع من تلك القوى، فيقول:
"ان نابليون وغيره من
اولي الفراسة الصادقة ربما فقدوا فراستهم لو أنهم استعملوا فيها الارادة والتعمد.
ان صاحب المواهب النفسية يجب ان يسير على رسله في الحياة فلا يحرص او يتقصد
الانتفاع من تلك المواهب، وكلما كان انبثاق قواه النفسية ارتجالياً لا تكلف فيه
كان ذلك أدعى الى نجاحه وانتظام أمره".
ان خلاصة ماسبق هو وقوف
فكرة الخوف من الفشل عائقاً امام استخدام خيال الطالب كخطوة اولى تجاه الابداع.
لذا قد يقول قائل: ارفعوا نظام الدرجات! الم تسمعوا بنظام التعليم الفلندي؟
والذي يُطلق على مدارسه
(منطقة خالية من الاختبارات):
"فالسلطات التعليمية في
فنلندا غير مقتنعة بمردود سياسة الاختبارات. والتوصيف الوظيفي للمدرس الفنلندي محدد
بمساعدة كل طالب لفهم المادة داخل الصف، دون ملاحقته بالامتحانات الطويلة والقصيرة
والمفاجئة، أو مواسم الرعب النهائية. فإذا اطمأن الطالب في يومياته الدراسية، استطاع
أن يفكر ويعبِّر ويتطور". (نظام التعليم الفلندي: معجزة تتحدى المنطق، موقع
منشور)
اقول ان ذلك صعب بل مستحيل
التحقيق في دراسة العمارة في العراق، لان مادة التصميم المعماري مادة اساسية وذات
تقييم مستمر وان هنالك مستويات علمية مختلفة للطلبة، هنالك الطالب المتميز والطالب
المتوسط والطالب الضعيف.
فهل نرفع نظام الدرجات ويتساوى
الطالب المتميز والذي يبذل جهداً متواصلاً مع الطالب الضعيف؟ هل من الممكن ان نرفع
نظام الدرجات فينجح الجميع حتى الطالب الضعيف الذي سوف يصبح النجاح وبالاً عليه
لانه سينتقل الى مرحلة دراسية اصعب.
حتى اذا فكرنا بتقليل عدد مرات
التقييم وترك الكثير من التقاديم دون درجات لرفع الضغط عن الطالب، فستواجهنا مشكلة
(التقييم المستمر)، فمن الصعوبة ان يعتمد النجاح بمادة التصميم على ثلاث او اربع
درجات فقط، قد يكون الطالب لم يتوفق في اثنين منها او واجه بعض الصعوبات التي
يواجههات جميع الطلبة في بعض الاحيان. لذا فالعدد الكبير من الدرجات لمادة التصميم
يعطي فرصة للطالب ومصداقية للدرجة النهائية.
فيصبح حدي الجدلية الثانية
هما (التشجيع على استخدام خيال الطالب) و(نظام الدرجات) وبالتالي تقييد استخدامه
لقواه الداخلية.
كيف نصل الى حد وسطي ثالث؟ لا اعلم حالياً!
ولكني اعلم ان تواصل الطلبة
مع بعضهم قبل التقديم يزيد الطين بلّة، فقد كان الطالب سابقاً يجلس مع نفسه ساعات
للتفكير ومن ثم يضع التصميم الذي قد يخرج عن القواعد ويمتلك شخصية خاصة، لا احد
يرى التصميم حتى يأتي لتثبيته صباحاً.
ولكن اليوم فان الطالب يضع تصميماً اولياً ثم
يريه لزملائه على فيسبوك او وسيلة اخرى قبل التقديم، ليقوموا هم بتمثيل سلطة
القواعد الدراسية، سوف يقتلون لديه اي اختلاف او تميّز، سيقومون بتخويفه من ان
الاساتذة لم يقولوا كذا، وقد لا يسمحوا بالقرارات المتميزة التي اتخذها.
وسيؤثر رأي الطالب ذو المستوى
المتواضع على ثقة الطالب المتميز بنفسه وبتصميمه.
لذا نجد كثيراً ان الطالب
يرتكب خطأ معين وعندما نقوم بتصحيحه يقول:
لقد نفذته بتلك الطريقة
(الصحيحة) ولكن الطلبة قالوا لي ان انفذه بهذه الطريقة (الخاطئة).
لقد قلت سابقاً ان : العمارة ظاهرة فردية.
يجب على الطالب ان يعمل
بمفرده وان يكف الطلبة عن تشارك نتاجاتهم مع بعض ليلة التقديم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق