تشابه العمران
من
الدين الاسلامي الى القوانين الغربية
قد تدل منطقة السكن هذه الأيام على حالة الشخص المادية فالمنطقة (س) يسكنها
الأغنياء و المنطقة (ص) تسكنها الطبقة المتوسطة و(د) يسكنها الفقراء والمُعدَمين وتعود
تلك التمايزات الى مساحات مساكن تلك المناطق أولاً والمستوى الانشائي والتزييني
لتلك المساكن فضلاً عن مستوى الخدمات والبنى التحتية المتوفرة وطبيعة المناطق
المجاورة، ولو تخصصنا بالاختلافات الخاصة بالمساكن فقط فأننا نجد أنها موجودة حتى
ضمن المنطقة ذاتها فمحاولة وصف مسكننا لصديق يزورنا لأول مرة تتضمن دائماً
العبارات الآتية : (بجانب البيت ذو الواجهة الحجرية) أو (أمام البيت ذو الاقواس
الاسلامية) أو (البيت ذو الباب الأسود الكبير) وغيرها من العبارات التي تشير الى
صفات شكلية مميزة في واجهات المساكن (قد تكون على مستوى التكوينات المعمارية أو
مواد الانهاء المستخدمة) ويمكن للعين ان تنتبه لها وتحتفظ بصورة منها للزيارات
اللاحقة وقد تصبح تلك الصفات رمزاً للشارع التي تقع فيه خصوصاً عندما تذهب بأتجاه
اللامألوف ، فهنالك من يضع مجسم لطائرة فوق مسكنة أو تمثالين لأسدين على جانبي
بوابة المدخل وغيرها من المعالجات المعمارية والنحتية .
والتساؤل هنا: هل
إن تلك الاختلافات في أشكال واجهات المساكن للمنطقة الواحدة حالة صحية أجتماعياً
ومعمارياً؟ وللإجابة عن ذلك وفق إطار محدد نعود الى بداية تأسيس مدينة بغداد
الأول كعاصمة للدولة العباسية (141-146) هجرية ونفترض إن بناءها قد تأثر بالقيم التي جاء
بها الدين الاسلامي فيما يخص تخطيط المدينة وطبيعة مساكنها لقرب عهدها بظهور الدين
الاسلامي والانشغال العام بالتفسير وجمع احاديث السيرة النبوية الشريفة والالتزام
بها فكراً وسلوكاً ، وفي هذا السياق يقول الدكتور مصطفى بن حموش " إن
المدن الأسلامية ليس فيها أحياء للفقراء وأخرى للأغنياء، ففي كثير من الأحيان نجد
البيت الصغير بجنب البيت الكبير ولايعرف الأختلاف بينهم إلا من خلال سعة الأحواش
الداخلية وأحياناً زخرفة المدخل ويضيف قائلاً: إن إطلاق العنان في البناء يؤدي الى
ظهور روح التنافس المادي بين أفراد المجتمع الذي يفكك بدوره أواصر التكافل
والترابط الاجتماعي وينشئ الطبقيّة الحادة ، غير إن ذلك لا يعني نهي الاسلام عن
البناء والإعمار الذي هو عين الاستخلاف في الارض (هو أنشأكم من الارض واستعمركم
فيها فأستغفروه ثم توبوا اليه إن ربي قريب مجيب) (هود 61) ويرى بعض الباحثين
الاجتماعيين والانثروبولوجيين إن الوحدة الثقافية لمجتمع معين كثيراً ما تأخذ
طريقها في العمران لتترجم من خلال تجانس النمط السكني والواجهات واللون المستعمل
والطراز المشترك ، ويظهر ذلك في المدن الاسلامية القديمة حيث تشترك البيوت في
الطراز المعماري لكنها في المقابل تكون منفردة في تفاصيلها وسعتها بحسب خصوصية كل
فرد واخيراً فإن للدولة حق التدخل في المسألة من الناحية التي تمس وحدة المجتمع
الاسلامي وتماسكهُ ، فلها ان تحدد سقفاً للاستهلاك بحسب مستوى معيشة المجتمع وأن
تمنع التنافس بين الافراد وأن تفرض نسبة من توحيد الطراز المعماري الذي يناسب
المنطقة والمناخ ومواد البناء إن امكن"[1]
.
وبعيداً عن تدخل الدولة نرى ان عمارة بغداد
القديمة منذ التأسيس وصولاً الى العمارة السكنية التقليدية التي عاش اجدادي فيها
متمثلة بالبيت البغدادي يمتاز بواجهة خارجية بسيطة جداً فهي واجهة مستوية تتضمن باب
المدخل وشبابيك غرف الطابق الارضي المقتصد في مساحاتها مع بعض التأطيرات لتلك
الفتحات وأخيراً ياتي دور الشناشيل الخشبية
التي تغطي شبابيك الطابق الاول ، ويشكل البيت البغدادي مع مجاوراته الزقاق
التقليدي المتجانس تتجاور فيه البيوت بدون فراغات وتستمر فيه الواجهات المتناسقة
بعناصرها المتشابهة على الرغم من إختلاف مساحاتها.
أما فيما يخص تدخل الدولة فقد ظهرت القوانين
التي تنظم عملية البناء في المدينة بعد ظهور مفهوم المدينة الحديثة والتحول من
البناء التقليدي العضوي الى أحياء سكنية جديدة يتم تخطيط شوارعها مسبقاً وتشيد
فيها المساكن المعاصرة ولكون ذلك النوع من التخطيط وما اعتمده من قوانين يمثل
الفكر الغربي الذي تم إعتماده في مدننا المعاصرة فإن الهدف من تلك القوانين هنا قد إبتعد عن
القيم الدينية وعدم التفاخر بالبنيان وإنما إنطلق من الحرص على الوحدة الشكلية
الجمالية للاحياء السكنية الجديدة و منع الساكنين من تحقيق مكاسب فردية على حساب
المنفعة العامة في تحقيق متطلبات الراحة و الحصول على الخدمات، وإن ذلك الانتظام
المتحقق والتناسب الشكلي المدروس يخلق نوعاً من الهدوء الداخلي للساكنين من خلال
الراحة البصرية لحياتهم اليومية مما ينعكس على سلوك وعلاقات الساكنين اجتماعياً ،
تلك القوانين تحدد جميع عناصر واجهات المساكن بالتفصيل ولكي يبني مواطن بيتاً
جديداً في أي مدينة غربية مثلاً عليه أن يلتزم بمجموعة من المحددات التي تزوده بها
البلدية من حيث طول الواجهة وعدد الشبابيك واشكالها ومساحاتها ، شكل باب المسكن وجميع
العناصر الجمالية المستخدمة في الواجهة المصممة .
و بهذا
نرى إن هنالك منهجين في التعامل مع تصميم واجهات مساكن الحي الواحد: المنهج
الاسلامي والمنهج الغربي اللذان يؤديان الى نفس النتيجة في تحقيق مقداراً من
التشابه في تلك الواجهات وكلٌ لاسبابه الخاصة ، ولكننا اليوم نرى منهجاً ثالثاً في
أغلب أحياء مدينة بغداد التي تفتقر الى الوحدة الشكلية في واجهاتها، فواجهات
المنازل تصمم حسب رغبة المهندس المعماري اذا كان حاضراً وبفقدان القوانين فمن
المستحيل أن يحاول مهندساً معمارياً أن يقترب أو يتماشى مع واجهة لمصمم اخر تقع
بجانب تلك الواجهة التي يعمل عليها وإنما يحاول أن يضع بصمته الخاصة مدفوعاً برغبة
تنافسية وبتشجيع من مالك المسكن الذي يحاول الحصول على واجهة تميز مسكنه في
المنطقة وقد يغيب المهندس المعماري ويحضر المقاول الذي يكون بعيداً عن التكوينات
الجمالية لينتج واجهات مقلدة عن واجهات جميلة شاهدها مسبقاً وبالتالي نرى مدينتنا
اليوم غير متجانسة متعبة للبصر فاقدة للهوية تتبع منهجاً غير معروف فهل تعرفونه
انتم ياترى ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق