الجمعة، 9 سبتمبر 2016

كنز جاسم الطويل

بغداد، محلة البقجة عام 1915

لم يحلم جاسم الطويل بأن يجد هذه الكمية من المصوغات الذهبية عندما خلع باب الخزانة الخشبية، فقد خطط لهذه الليلة أملاً بعدد من الخواتم والسوارات فقط، أو العقد الذي رأته زوجته حول رقبة لميعة في عرس فضيلة بنت أم فاضل.
بعد أن تعودت عينيه على ظلام الغرفة، سحب ملاءة السرير المجاور للخزانة، تلمّس الحافة المطرزة وتتبعها حتى وصل الى ركن الملاءة الأول ثم الثاني فطواها طية وأخرى لتصبح على شكل مربع وضعه أمامه على الأرض. أغرق يديه في صندوق الذهب وحاول الإمساك بأكبر قدر ممكن من المصوغات ووضعها في منتصف المربع الرمادي، (كَرفة، كَرفتين، ثلاثة، أربعة)، وتلمّس الأرضية الخالية للصندوق.
عقد طرفي الملاءة المتقابلين ثم الطرفين الآخرين وحَمل (البقجة) على صدره ونهض واقفاً أمام باب الغرفة، نظر الى الحوش المضاء بضوء خافت لنصف قمر وأخذ يفكر بطريق الخروج الآمن. تحرك خطوتين بإتجاه الباب فخشخش الذهب بين يديه... كيف سيصعد السلم ويتجاوز لميعة وزوجها النائمين ومن ثم يعبر (التيغة) الى سطح بيت أبو محمد وأبو ناصر وبيت ساسون وبيت أبو منشي ليصل الى بيته !
قرر أن ينزل السلم ويخرج من الباب الى الدربونة ليجرب حظه الحَسن لهذه الليلة مع الجرخجية، وقد وجد هذا القرار مناسباً لأنه لم يستمع لصافراتهم حتى تلك اللحظة. إحتضن البقجة بقوة بكلتا يديه وركز عينيه على موضع خطواته ... إجتاز الحوش والمِجاز المظلم بخفّة إمتاز بها منذ الطفولة، عالج (كيلون) الباب بيد واحدة، ليجد نفسه في الدربونة ... تنفّس الهواء المنعش إستعداداً للمرحلة الثانية من المغامرة ...
كانت سيمفونية الصراصر تزيد من نشوته بهذا الحمل الثمين، وما عليه سوى أن يمشي بهدوء حتى بيت أبو ناصر ثم يدخل يساراً الى الدربونة الضيقة التي تضم بيته الصغير.
-       قففففففففف !!
التفت جاسم الى الوراء ليجد عباس الجرخجي يقف في وسط الدربونة ويسلط المصباح اليدوي بإتجاهه ...
ما كان منه الا أن شهق شهقة وأطلق ساقيه للريح.
-       دا أكلك أوكف ... أوكف ولك لا أضربك ...
لقد كان يعلم أن تُفكَة عباس قديمة جداً وقد تنفجر عليه قبل أن تخرج الرصاصة منها، لذا واصل الركض بإتجاه مدخل الدربونة من شارع الرشيد، وهو يستمع لصدى صافرة عباس ممتزجاً بصيحات من فوق السطوح (يبووو ... يبووو ... حرامي).
وصل الى فضاء الشارع بإنارته الخافتة وهو يتنفس بصعوبة، توقف لثانية وهو ينظر يميناً وشمالاً ليختار الجهة التي سينطلق اليها، وصلت الى أسماعه صافرات الجرخجية المناغية لصافرة عباس التي بدأت تقترب منه بسرعة ... من المستحيل أن يترك لهم فرصة لإمساكه، سينفضح فضيحة (مينلبس عليهة عكَال) ... إستعدّ للإنطلاق مرة أخرى ولكن البقجة الثمينة تعوقه عن الركض بسرعة وهو يخاف أن يفقدها بعد هذا العناء.
إنتبه للقوالب الخشبية الإسطوانية لأعمدة الشارع الجديدة، تتوسطها حلقة من القضبان الحديدية وهي بإنتظار أن تملئ بالصَب، هنالك مجموعة من القوالب لم تكتمل بعد، هي بإرتفاع متر تقريباً عن مستوى الرصيف، إتجه نحو أحدها ووضع البقجة في وسط الحلقتين الخشبية والحديدية، وإنطلق راكضاً ... لن يتأخر عليها كثيراً، سيحاول التخلص من الجرخجية أولاً وما أن يبزخ الفجر وتبدأ الحركة في الشارع حتى يعود ليأخذها الى بيته منتصراً.
بدأ الجرخجية يقتربون من شارع الرشيد في كل محلة يمر بها، لم يفكر بالدخول في الدرابين على يمينه، لا يريد أن يقف وجهاً لوجه مع جرخجي آخر، لذا إستمر بالركض بجوار جدران المحلات بإقصى ما يمكنه من سرعة ...
توقف بعد أن إنقطعت أصوات الصافرات وساد الهدوء مرة أخرى ... ولكنه إبتعد كثيراً عن البقجة وهو بحاجة شديدة للراحة وكثيراً من الماء، فتّش عن (حِب) قريب، شرب وجلس الى جانبه ليستريح .
-       إبني ... إكعد إبني ... شنو مرتك مطردتك من البيت ؟!
ملئت عينيه أشعة شمس الضَحى، فنهض كالمصعوق من مكانه ...
-       رحم الله والديك حجي.
لم يستطع الركض أمام الناس كي لا يلفت الأنظار، لاحت له قبة الحيدرخانة فأسرع الخطى أكثر وعينه على الأعمدة المتجاورة على شماله، أعمدة مطلية باللون الأبيض ... أعمدة غير مطلية ... أعمدة لم ترفع قوالبها الخشبية بعد ... أعمدة لم ترفع قوالبها الخشبية فقط !
 لم يجد عموده ذو القالب غير المكتمل!
جميع الأعمدة مصبوبة يتحرك حولها العمال لإنجاز عملهم الذي بدأوا به (وية شيلة البريك).



بغداد، بارك السعدون عام 2016

-أريد أوصيك وصية قبل ما أموت.
-لا يابة إسم الله عليك .. عمرك طويل إن شاء الله.
-إسمعني زين إبني ... جدك جاسم الله يرحمه من جان شاب الشيطان لعب براسه ... جدك جان حرامي ...
-كول غيرهة يابة!
-أي والله مثل ما أكلك ... بس الحمد لله وراها تاب وصار خوش آدمي ... وبقت بركبته بوكَة وحدة، وقبل ميموت وصاني لو أرجّع البوكَة لأهلهة لو أدفعلهم فلوسهة، وأني تعرفني طول عمري رجال فقير ويادوب مطلع العيشة ...
-وشنية البوكَة يابة وشكد فلوسهة؟  
-جدك يكول تقريباً كيلوين ذهب مصبوبة بدنكَة من دنكَ شارع الرشيد، تحسب سابع دنكَة ورة كَهوة الزهاوي بإتجاه جامع الحيدرخانة.
-وأني مين أجيب فلوس كيلوين ذهب!
-لعد إبني إذا سمعت فد يوم ديفلشون دنك شارع الرشيد روح لهناك بلكت تحصلهن وإذا متفلشت بوكتك فوصي إبنك عليهن ... هاي وصيتي الوحيدة إبني ... جدك من تاب رباني أحسن تربية وأني ربيتك ... وإذا تريد ترد الجميل فوصّل هاي الوصية لولدك الى أن الله يمكّن واحد منهم ويرجع الذهب لأهلة.

-خوش يابة تدلل ... إنت بس إرتاح هسة ويصير خير إن شاء الله ...











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق