كازينو العراق ... الهروب من المدينة
الذكرى التي لا
تفارقني حتى اليوم، أنني تعرفت فيها على يونس محمود لأول مرة، كان ذلك عندما سجل هدفاً
في الدقائق الأخيرة بمرمى منتخب الأردن في أول ظهور له مع المنتخب العراقي في
بطولة غرب أسيا عام 2002.
إنها كازينو
العراق في شارع أبي نؤاس ...
لم أزرها بعد 2003 لفترة طويلة جداً لأن أذان المغرب كان
بمثابة (جرس إنتهاء الفرصة والرجوع الى الصف ركض)، عدت لزيارتها قبل عدة سنوات مرة
أو مرتين ثم زرتها الاسبوع الماضي مرة أخرى.
لعل الفرق في التسمية بين كَهوة وكازينو هو بطبيعة الخدمات
التي تقدمها كل منهما، فالكَهوة يُقدم فيها الشاي والحامض والنركيلة فقط، أما
الكازينو فيقدم فيها إضافة الى ما سبق عدة أنواع من المأكولات (تكة، كباب، معلاك)،
مشروبات غازية، كاكاو ولبلبي وهذا ما يُقدم في كازينو العراق حالياً.
أما الفرق الثاني فهو كون الكَهوة غالباً ماتكون محلاً
ضمن سوق أو محلة سكنية، أما الكازينو فتقترن غالباً أيضا بإحتوائها للحدائق
والجلسات الخارجية، ثم أن هنالك كازينو خاص للرجال فقط وهنالك كازينو عائلي أما
الكَهوة فهي رجالية بإمتياز.
هذا ما يرد بذهني من فروق للتمييز بين التسميتين قبل
المقارنة مرة أخرى هنا مع النوع المستحدث الثالث وهو الكوفي شوب.
بعد قضاء 3 ساعات في الكازينو تستطيع القول: أنها مكان
بغدادي نقي غير متأثر بكل ما حصل للمدينة من تغيرات وتطورات تكنولوجية وعمرانية
وحتى إجتماعية. هذه الميزة الفريدة هي نتاج لقرارات أصحاب الكازينو والتي تتضح
بثنائية تدخل ضمنها كل تفاصيل المشروع الخدمية والمعمارية.
أولاً: العناصر
المعمارية للكازينو
يستطيع بعض المعماريين في المدينة التعرف بسهولة على
الفترة الزمنية التي أنشئ فيها أي مبنى يُسألون عنه، حتى وهم يرونه لأول مرة ! لا
يستطيعون تحديد سنة معينة ولكن بهامش خطأ قد يكون خمسة أو عشرة سنوات. وأداتهم في
هذا التخمين غالباً هو عناصر تصميم واجهات المبنى ومواد الإنهاء المستخدمة، فمن
خلال خبرة المعماري الطويلة ومعاصرته لمراحل تطور المدينة، يعرف أنه هذا النوع من
الأقواس مثلاً شاع إستخدامه في السبعينات، وأن مادة النثر مثلا شاع إستخدامها في
الثمانينات، هنالك أمثلة كثيرة، واجهات المساكن التي تسمى (double volume)، والتي شاعت في التسعينيات وبدأت بالإنقراض تقريباً لتبدأ توجهات
جديدة أخرى بالظهور في عمارة مدينة بغداد.
ولكن ... ماذا لو كان أغلب العناصر المعمارية لمشروع
معين يمكن تغييرها بين فترة وأخرى؟ أو أنها خالدة ليست معاصرة لفترة وقديمة في
فترة أخرى؟ ماذا لو كانت تلك العناصر مكونة من النباتات ؟
وماذا لو كانت العناصر المكملة للنباتات هي عناصر وظيفية
بحتة مجردة من القرارات الجمالية التي تتغير بمرور الزمن ؟
هذا ما حصل في كازينو العراق، من الشارع تشاهد جداراً
نباتياً بإرتفاع 2 متر تقريباً، تنصّفه قطعة تعريفية أسفلها بوابة حديدية بسيطة،
توصلك تلك البوابة الى ممر بجدران نباتية جانبية ينتهي بمدخل القاعة الشتوية
للكازينو، وقبل الدخول الى الطارمة المسقفة التي تغطي المدخل نجد على اليمين
المكان المخصص لجلسة مدير الكازينو ومواقد إعداد الشاي و ترتيبات النركيلة.
فيما يخص القاعة الشتوية فهي مشيدة من هيكل حديدي مغلف
بجدران خشبية بالكامل مع مساحات زجاجية شفافة وملونة، وإذا كانت عناصر القاعة
تخالف الصفة اللازمنية التي تحدثنا عنها فقد إختار المالك تغطيتها بالنباتات
كجدران تحيط بها بدلاً عن قرار ترميمها أو تغليفها بألواح الألمنيوم القبيحة !
تخترق القاعة لتصل الى المساحة المفتوحة الرئيسية
للكازينو، مساحة مربعة محاطة بجدار نباتي يعزلها عن الخارج بصرياً، الأرضية مغطاة
بالثيل وتتوزع المناضد والكراسي بنظام شبكي منتظم مع أعمدة للإنارة، وعلى اليسار تقع
الفعاليات الخدمية، حمامات بمدخل جانبي مخفي عن أعين الزبائن، غرفة للخزن وجدر
اللبلبي، كشك الشواء، مظلة لخزن الحطب وقناني المشروبات الغازية الفارغة، وأخيراً
مساحة مخصصة للمصلى.
لا تستطيع مع كل تلك العناصر أن ترتبط بفترة زمنية
معينة، هل الكازينو مشيد بالسبعينات؟ بالثمانينات؟ بالتسعينات؟
هو مكان مجرد من الزمن، مكون من النبات كعنصر إنشائي وجمالي
لا زمني متجدد، وعناصر وظيفية بحتة. هذه القرارات تسبب جدل في موضوع معماري آخر: هل
أن الكازينو صديق للبيئة؟
الحقيقة أن الكازينو بكل تفصيلاته صديق عزيز جداً
للبيئة، الإعتماد بصورة رئيسية على النباتات، إستخدام الخشب كمادة بناء، تجميع علب
المشروبات الغازية وبيعها ... ولكن كل هذا يقابل دخان النركيلة المتصاعد من أفواه
الرواد ! وتأثير ذلك الدخان على البيئة والإنسان. ولذلك يمكن القول أن (الشغلة سد بسد)
!
ثانياً: التركيز على وظيفة المشروع وطبيعة المستخدمين
يطول الحديث في أكاديميات العمارة عن ضرورة دراسة وتحليل
الوظيفة التي من أجلها يصمم ويشيد المبنى، وأن تحقيق المبنى الأمثل لتلك الوظيفة
هو من المعايير الاساسية لتقييمه سلباً أو إيجاباً، وفي الكازينو لم يدرس المالك
العمارة ولكن الأمر تجاري بحت، فالمالك يعتمد في قراراته (الفعل وعدم الفعل) على
زيادة الارباح، وقد تعلم المالك أن الزبون يأتي للكازينو ليركز على الطاولة !
وأنت جالس على طاولتك راقب بهدوء جالسي الطاولات الأخرى
... لا تخلو أي طاولة من (الدومنة) أو (الطاولي)، أصوات رمي القطع على سطوح
المناضد الخشبية تملئ الفضاء، شيوع (الفشار والمسبة) وقد تكون محظوظا فتجلس بجوار شخص
يسمعك ما لم يخطر لك على بال!
لا تجد أي أحد ينظر طويلاً في هاتفه المحمول أو يتلقط
صورة مع الأصدقاء، فاللعبة على الطاولة هي سيدة المكان، وإذا (رحنة زايد) بالتحليل
النفسي للرواد، نجد أن كل زبون يعوض ما يفتقده في عالم المدينة الخارجي، فإذا كان
مسلوب الإرادة في الخارج يكون هو صاحب القرار في اللعبة، إذا كان لا يستطيع
التعبير عن غضبه في الدائرة أو الشارع، فهو يسب ويشتم هنا ولا يتحمل أي عواقب، إذا
كانت حياته مملة ورتيبة فهو يغامر في اللعبة يربح مرة ويخسر مرة أخرى. وبالتالي فاللعبة
تحقق جميع رغبات الزبون في الكازينو (علماً أن تسمية الكازينو الانكليزية مرتبطة بالمكان
الذي يحتوي على العاب المقامرة)، وما على صاحب الكازينو سوى توفير (ما يحلي
الكعدة) من خلال شباب يرتدون قمصان نادي أي سي ميلان الأيطالي، يتجولون بين
المناضد ويصيحون (لبلبي ياولد ... لفات ياولد) علاوة على الشاي والحامض والنركيلة.
هل يؤثر ذلك على عمارة الكازينو؟ نعم ... يعرف صاحبه أنه
ليس بحاجة للتزويق والعناصر الجمالية المبالغ بها، قد يقترب حال التصميم في كازينو
العراق بالذات من توجه الـ(minimalism)
:
Use of the fewest and barest essentials or
elements, as in the arts, literature, or design.
وهذا يوصلنا بالتالي الى طبيعة المستخدم ... هل يلائم
الوصف السابق الشباب بأعمار قبل العشرين أو حتى قبل الثلاثين؟
بالتأكيد لا ...
هؤلاء هم رواد (الكوفيشوبات) المنتشرة في كل مكان، تقع
في مباني مميزة، في طوابق علوية وبواجهات زجاجية تطل على الشارع، جدران وسقوف (زرق
ورقية)، أثاث أرقى من المنضدة الحديدية والكرسي البلاستك عديم المساند، شاشات لعرض
الفديو كليبات ومباريات كرة القدم، خدمة أنترنت متواصلة، نسكافيه وكابتشينو، ويصل
الأمر الى وجود مضيفات بدلاً عن لاعب (أي سي ميلان) الذي يجلب لك لفة الكباب
المشوي بسلة بلاستك، يسلمك إياها باليد من غير صحن او ورقة شفافة أو حتى منديل
ورقي!
هل تحتوي تلك (الكوفيشوبات) على غرفة بعنوان مصلى ؟
بينما نجد في الكازينو صبة نظيفة لمن يعتقد أن لعب (الدومنة) و(الطاولي) في وقت
الصلاة محرّم لأنه يُلهي عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
تعطينا كازينو العراق دروساً عملية في هندسة العمارة وهي
ناجحة على الأرض وتحقق الوظيفة للزبون (المتعة) والوظيفة للمالك (الربح المادي)، ويمكن
تلخيص تلك الدروس سريعاً بـــ:
يمكن الإعتماد على النباتات كعناصر معمارية تتصف بكونها
لا زمنية (لا تشير الى فترة زمنية محددة وبالتالي تظهر بمظهر قديم بعد عدة سنوات).
من خلال إستخدام النباتات نضرب عصفورين بحجر، عصفور اللا
زمنية وعصفور الاستدامة وصداقة البيئة وهو ما يعمل عليه كل العالم اليوم.
دراسة الوظيفة الأساسية للمشروع وإتخاذ القرارات
المعمارية التي تناسبها.
دراسة طبيعة مستخدم المشروع والتصميم بما يلائم تلك
الطبيعة بمختلف تفاصيلها.
وبعد أن تودّع الكازينو أخيراً، تدخل في ظلام أحد الفروع
السكنية المقابلة له ... وتتطلع الى النور في نهاية النفق (الفرع) وعندما تصل،
تعود الى فوضى المدينة المعاصرة ... شارع الكرادة داخل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق