السبت، 2 يناير 2016

البغددة

هل يعقل أن يكون العيش في مدينة بغداد مشابه للعيش في أي مدينة أخرى؟
هل تشبه هي أي مدينة أخرى؟
نقرأ في (حوادث بغداد في 12 قرن) لباقر الورد عن العام 145هـ-762م:
تأسيس مدينة المنصور المدورة، والتي سماها (مدينة السلام) عند منعطف نهر دجلة على ضفته الغربية يوم الثلاثاء أول ربيع الثاني (29 حزيران). 
وتحت نفس العام نقرأ :
وفاة (الحجاج بن أرطأة) مهندس بغداد الأول الذي خطط خريطة لبغداد وأشرف على بنائها.
تذكرت بعدها حلقة من المسلسل المصري سرايا عابدين، عندما يسقط أحد عمال بناء السرايا ميتاً في الموقع، لنكتشف بعدها أنه مات مسموماً لأنه قام ببناء ويعلم بوجود سرداب تحاك فيه المؤامرات داخل السرايا!
وبعيداً عن سيناريو كيفية بناء سرداب كامل بواسطة عامل واحد ! فلبغداد أسرار وخفايا أيضاً.

واليوم نحن ومدينتنا نتاج 1254 سنة من (الأسرار والجلاليق والبوكسات) .
أعتقد أن حب المدينة التي نعيش فيها وفخر الإنتماء اليها حالة طبيعية يعيشها أغلب الناس، في المقابل ومن خلال تصرفاتنا الواعية ينبغي علينا عدم التقليل من المدن الأخرى وساكنيها أبداً.
وهنا يصف نوفل الجنابي الجندي حميد بــ: بصري (بصراوي) بكل ما تعنيه الكلمة، أسمر نحيل، طوله فارع، مبتسم أغلب الأحيان، لا يميل الى النميمة.
فإذا كانت هذه صفات الشخص البصراوي، فمن هو الشخص البغدادي؟
الحقيقة لا أعرف الإجابة، ولكنني أستطيع أن أخمن السبب الذي يجعل البغدادي يتصف بصفاته المميزة.
 ذلك السبب هو التعددية، وللدقة أكثر، صنفين من التعددية :
تعددية (الصراع) وتعددية (محاولة العيش).
في تعددية الصراع نعلم أن هنالك عشرات الأطراف التي تصارعت للسيطرة على المدينة خلال تأريخها من دولة الخروف الأسود والخروف الأبيض و(شيل إيدك).
وفي هذا السياق فأنا أفتخر دائماً بالمصطلحات التي نقلها لي جدي وجدتي على إنها مصطلحات بغدادية (إسم الله) نابعة من مناطق الشواكة وكرادة مريم والعطيفية وحي دراغ، حتى إلتقيت (بمعجم الألفاظ الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة) لرفعت البزركان، و(عينكم متشوف الا النور) فهي أغلبها ذات أصول تركية وفارسية والبقية عن اللغات الانكليزية والفرنسية والإيطالية والهندية وحتى البرتغالية واليونانية !
النوع الآخر من التعددية هو لمحاولة العيش، فإذا إفتراضنا أن أرض المدينة في وقت الخليفة المنصور كانت أرضاً خالية من السكان، فليس هنالك شخص بغدادي منذ البداية.
الجميع ينتقل اليها عبر الزمن من مناطق إخرى لغرض العمل، لذا أصبحت بغداد كما يصفها الدكتور محمد مكية: (فالحاكم والقاضي مسلم والطبيب مسيحي والتاجر يهودي وعالم الفلك صابئي وتضم بين جناحيها بشراً يختلفون باللغة  ويجتمعون ببغداديتهم).
فأن تكتسب البغددة عليك العيش والعمل مع كل الأطراف، ومن يقول أن الجميع كانوا يعيشون بدون صراعات فهو غير دقيق، فقد كانت تحدث الشجارات والمشاكل ولكن وجود كل الأطراف في نفس البيئة وهم يريدون أكل لقمة العيش بسلام يجعلهم يحترمون الآخر على الأقل في سلوكهم الخارجي ومع مرور الوقت ينتقل الإحترام الى فكرهم الداخلي بعد معرفة الآخر على الحقيقة، والإعجاب بإيجابياته.

والحديث عن المجربات أفضل من المقروءات، فقد فتحت عيني في فرع في حي الإعلام وإتذكر حتى هذه اللحظة عدم تشابه أي جار مع جار آخر، يبدأ الفرع من بيت سناء المسيحية صديقة عمتي ثم بيت الحجية الوحيدة من مدينة تكريت ثم بيت سامح المسيحي الذي يعمل مع عمي وبيت أم علاء الذين يمتلكون خط التلفون الأرضي الوحيد في المنطقة وبسبب (نظافتهم) أصبت (بالكَمُل) لأن أبنهم لبس قبعتي، ثم بيت نشوان الصابئي زميل الصف، وبيت أم ضياء عمال معامل الطابوق وأخيراً بيت محمد المصري الذي تستغرب أمه لأنه يناديني (باللو) .
فالبغدادي بالنتيجة هو العجينة الناتجة عن تعدد القوى المسيطرة على المدينة بكل ما تحمله من الأفكار والمعتقدات والمصطلحات، وتعدد الأفراد (الفقرة) الذين يحاولون العيش على باب الله.
وبعد جولة البوكسات الأخيرة فقدت التعددية.
وبدأنا مع فقدانها نفقد البغددة، فقدنا تجمّع إيجابيات كل طرف مع إيجابيات الطرف الآخر، فقدنا المقارنة مع من هم أفضل منا في صفة أو صفات معينة، وأصبحت المدينة في كل فرع منها جيران متشابهين ينتمون لطرف واحد أو حتى عشيرة واحدة يعتقدون أنهم أفضل الناس في المدينة.
وأصبح السائد هو كل ما يناقض التعددية، كالنظام العشائري و(هذا من جماعتنا).

وبعد أن عرفنا سبب البغددة وسب فقدانها أيضاً فهل هنالك أمل في إستعادتها مرة أخرى؟
لا أعتقد ! لا أعتقد أن أحداً سيعود الى المدينة مرة أخرى على ما هي عليه اليوم أو ما ستصل اليه من معطيات اليوم، وهي بدون تعدديتهم لن تمتلك بغداديتها السابقة التي لم تفارقها في المحن والأوقات الصعبة الماضية التي مرت بها.
 لذا أملنا الوحيد أن نصيغ البغددة بطريقة جديدة، عجينة جديدة، هذه العجينة تعتمد على الإعتراف بقصور الأطراف التي ننتمي اليها أولاً، وليس الإعتراف كافياً، يجب أن لا ننخرط في ما نؤمن أنه غير منطقي وعلمي ويعيق كل تحسن وتطوّر في حياة المدينة الإجتماعية والثقافية والعمرانية، لا يكفي أن نكتب أو نصرح أبداً.
فمن يعترف بسلبيات النظام العشائري السائد في بيئته مثلاً، ويصرح بتلك السلبيات، عليه أن لا يحضر لمجلس فاتحة يقام في منتصف الشارع ويقطعه على المارة، يضر المصلحة العامة ويرهق عائلة المتوفي، وعليه أن لا يتبع هذه التقاليد عندما يتوفى أحد أفراد عائلته (بعد الشر).
فعدم الإنخراط هو الحل والباقي يم رب العالمين. 










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق